إنهم حائرون….. ولكنهم دهاة

لا يختلف إثنان من العقلاء على أن الثورات العربية المتتالية قد أربكت ولا تزال كل الحسابات والمعادلات التي أرستها القوى المهيمنة على المنطقة و في مقدمتها الولايات المتحدة و فرنسا.
وأهم هذه المعادلات نظرية حماية التابع و التي تقوم إجمالا على عنصرين أساسيين وهما :
*تركيز و تدعيم الأنظمة الموالية الخادمة للمصالح الغربية الرئيسية مع السماح لبعضها أحيانا بممارسة شيء من الدعارة الوطنية و القومية الزائفة لتضفي على نفسها شرعية ثورية تنطلي غالبا على شعوب أرهقها الجهل و الفقر و التعطش للكرامة.
* أما العنصر الثاني فيقتضي العمل على منع قيام ثورات أو إنقلابات أو تغيير لنظام الحكم لا يخدم مصالح القوى المهيمنة.
ولئن فوجئت الدول الغربية بوقوع الثورات العربية في وقت غير منتظر على الأقل و لأول مرة دون أن تشارك في وضع سيناريوهاتها مما جعلها مذهولة أول الأمر فإنها سرعان ما أفاقت من وقع الصدمة و أصبحت تعمل جاهدة للإستفادة أكثر ما يمكن من هذه الثورات أو للحفاظ ما إستطاعت على مصالحها في الدول التي شهدتها.
و لأن السياسة الخارجية للدول الغربية تقوم أساسا على منطق المصلحة في إطار فن الممكن فهي سياسة خالية من كل الأثقال الإيديولوجية ومن كل تعنت في مواجهة الواقع و لذلك فإن هذه الدول لم تتمسك بأوراق محترقة و ظهرت بمنطق المساند عموما للثورات العربية أي للمنتصرين. ولهذا الخيار أكثر من سبب.
السبب الأول هو ثقة و تأكد الغرب من أن الأنظمة العربية القائمة قد إستنفذت فاعليتها وأنها مكروهة من شعوبها إلى درجة تجعل من المستحيل المحافظة عليها خاصة بعد إنهيار الحاجب الحاجز أي حاجب الخوف.
السبب الثاني يتمثل في أن الغرب الذي ننظر إليه دائما على أنه واحد متماسك هو في الحقيقة جمع تجمعه المصالح و يفرقه التنافس عليها. ففرنسا التي لم تدعم الثورة التونسية أدركت خطأها و أنها راهنت على حصان خاسر عندما شاهدت الولايات المتحدة الأمريكية تقف في الشق المقابل و تفتك منها دور الفاعل الأساسي في الساحة التونسية الذي تسعى اليوم جاهدة لإسترجاعه مع العمل على تعويض ما خسرته هنا بما ستكسبه في مصر و خاصة في ليبيا حيث لا يخفى على أحد الحماس والإصرار الذي يبديه ساركوزي اليميني المتطرف في مساندة الثوار الليبيين كي ينقذ السياسة الخارجية الفرنسية التي تلطخت سمعتها بمساندتها لبن علي       و مبارك و كذلك ليكسب صداقة ثوار مفلسين الآن ولكنهم سيصبحون عن قريب أثرياء جدا.
على أن هذه المساندة لن تذهب إلى حد إفتعال أو إشعال ثورات في المناطق الهادئة لأنها تمثل ببساطة مناطق نفوذ محسومة وهي في كل الأحوال أفضل من مناطق مفتوحة للتنافس يقتضي الحصول على حصص فيها الكثير من الجهد الديبلوماسي و المالي و حتى الحربي.
لكن في مواجهة هذا التكتيك السياسي الجديد القائم على مصادقة و مهادنة الثورات العربية ما الذي على العرب فعله كي لا يعيد التاريخ نفسه و يجني عرب الفايسبوك من أوباما و ساركوزي ما جناه عرب الجمال من لورانس العرب و سايكس بيكو.
أعتقد شخصيا أنه من حق الدول الغربية أن تحمي مصالحها و أن تهيمن على ما تسطيع الهيمنة عليه فهذه هي شريعة الدول منذ وجدت        و السياسة بكل الأحوال لم تكن يوما مجالا للعمل الخيري. و علينا نحن كعرب في المقابل أن نعتمد سلوكا سياسيا حديثا و مغايرا لمنطق البطولات الزائفة و التطرف الإيديولوجي و التنطع الكاذب. علينا أن نطور خطابا سياسيا يرتقي لأن يكون منطق دولة عماده الأساسي المصلحة الوطنية لا مصلحة الحزب أو السيد الرئيس و ماسحي أحذيته.
و إذا كان إرساء الديمقراطية و ترسيخ دولة القانون هي أفضل السبل لتحقيق المصلحة الوطنية فالسؤال الذي يطرح نفسه هو هل ستسمح الدول الغربية فعلا بإنجاح التجارب الديمقراطية العربية الجنينية ؟ أليس في قيام الديمقراطية العربية تهديد مباشر لمصالحها و هي التي طالما إستفادت من عبث وفساد الأنظمة التي نصًبتها سابقا؟
الإجابة عن هذه التساؤلات لا يجب أن تعتمد على التصرفات و التصريحات التي يتحفنا بها الديبلوماسيون الغربيون فهي تصلح أساسا للإستهلاك الإعلامي و لصيانة المخيال الإجتماعي الغربي الذي يرى في دوله الحامي الأوحد لمنظومة القيم الحضارية.
الإجابة عن هذه التساؤلات محسومة منطقيا و تتجلى في الحمى الإستخباراتية التي تشهدها المنطقة و التي تؤكد أن جماعة الناتو يريدون إرساء ديمقراطية عرجاء ترضي طموحات وغرور الشعوب الثائرة دون أن تؤدي لإرساء نظام ديمقراطي حقيقي وطني و قوي. والحل السحري الذي يحقق هذه المعادلة الصعبة يكمن في تفعيل الجانب الإجرائي للديمقراطية أي السماح والتأكيد على تنظيم إنتخابات شفافة مع تعطيل الجانب الجوهري في الديمقراطية أي التنافس النزيه خاصة عن طريق المال السياسي الذي أثبت أن له مفعول سحري في الدول العربية والتجربة اللبنانية أكبر دليل.
ومن العوامل المساعدة على ضياع الثورات العربية و نجاح الغرب في خلق ديمقراطيات عرجاء نجد عديد الأسباب :
•    ضعف الثقافة السياسية عند غالبية الشعوب العربية مما يجعلها فريسة سهلة للخطابات الديماغوجية المهترئة وخاصة الخطابين القومي و الإسلامي.
•    عجز الأحزاب السياسية الموجودة عن تطوير خطاب سياسي  حديث و مقنع يستقطب الشباب و يمكنها من قاعدة شعبية حقيقية تؤهلها لخوض الإنتخابات وهي واثقة من نفسها ومستعدة لإحترام قواعد و أخلاقيات الممارسة الإنتخابية.
•    ضعف آليات الرقابة على تمويل الأحزاب السياسية إذ أن النظام السابق عمل جاهدا على إضعاف دائرة المحاسبات وتركها في وضع سيء تشكو من نقص فادح في الموارد البشرية و الإمكانيات اللوجيستية.
•    ضعف الإعلام و إكتفاءه بخطاب سطحي و إخباري بالأساس عاجز عن رسم صورة واضحة لأهم التحالفات و التكتلات السياسية القائمة أو المنتظر تشكلها.
كل هذه الأسباب و غيرها تساعد الأصدقاء الغربيين على كسب صداقة الثورات العربية و مجاراتها وصناعة قادتها و هذا من حقهم و ما علينا إلا أن ندافع عن أنفسنا بنفس درجة الذكاء و بالكثير من العمل و القليل من الديماغوجيا .

Please follow and like us: