الإرهاب المتحضّر
|بقلم: سميّة رطبي
إن لفظة الإرهاب بما هي تخويف وتفزيع وإرعاب، والمشتقة من الفعل أَرْهبَ، بمعنى أخافَ وأفزعَ والتي بدأ انتشارها في الأوساط الغربية، في أواخر القرن العشرين ومطالع هذا القرن تحت اسمterrorisme في اللغة الفرنسية، وهي من فعل terroriser وتحيل إلى نفس المعنى المتداول باللغة العربية، أُطلقت في البداية على جماعات محدودة من الناس أو أقليات ذات أساس ديني أو عرقي أو قومي، أو إيديولوجي، تهدف إلى نشر الرعب والخوف، عبر عمليات مسلحة أو انتحارية، غرضها إلحاق الضرر والأذى بمن تعدهم خصوماً وأعداء ومخالفين.
هذا ويوسَمُ بالإرهاب، من جانب آخر، الضعفاءُ إذ يجابهون الأقوياء، في حَرب الفئات المغلوبِ على أمرها والتي تعرضت للضيق والقهر والاستبداد، من طرف الفئة المُهَيْمِنَة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وهي غالبا محدودة العدد والعَتَاد، تبغي رد الاعتبارِ لجماعتها وحقوقِها، سالكة نَهج التَّخويفِ والتَّرهيبِ وزعزعة النظام لدى الجانب الأقوى الذي لا تستطيع مواجهته مواجهة مباشرة.
وقد تحالفت كل القوى العظمى في العالم لمكافحةِ الإرهاب ومحاربته، باعتباره جريمة ضد الإنسان وحريته في العيش والأمان، يُعاقب عليها القانون الدولي بأقصى أنواع العقوبات. حتى صُيِّرَت هذه المكافحة تِعِلَّةُ وذريعةً لاحتلال الدول والهيمنة عليها اقتصاديا وسياسيا وتجريدها من سيادتها.
إلا أن الإرهاب المتحضر يتخذ شكلا آخر أكثر خطورة وتهويلا؛ إذ إنه إرهاب منظم ظاهر لا يخفي نفسه، ولا يتحرج من سلوكه اللاإنساني، وهو لا يستمد أفعاله لا من تحزبه الخفي، ولا من تشدده المتزمت، ولا من انغلاقه السري، بل يأتيه من مُنطلق القوة والغَلَبَة، والتفوقِ في العَتَاد العسكري الحربي.
إنه إرهاب لا يقتصر على جماعة محدودة الأفق زمانيا ومكانيا، بل يرتبط بدول وحكومات ودساتير شُيد صرحها على مبادئ الديموقراطية والانتخاب الحر وحقوق الإنسان، وعلى كل المفاهيم الكبرى التي جدَّ وكدَّ علماءُ القانونِ والفلاسفةِ والمنظرون السياسيون، والفاعلون في التاريخِ، بأن نَحتوها نحتاً، على أنقاض تاريخ إنساني مظلم من الحروب والجنون الجماعي. إنه إرهاب لَينٌ ومَرنٌ، يُوظف كل ما هو عقلي ليُنجز سياسَته اللاعقلانية، وينطلق من كل ما هو إنساني ليُجهز على إنسانية الآخرين، ومن هنا خطورته وحِدتُه، إذ هو يصْطبغُ ويتدثرُ بكل ما هو سام ومقدس في الإنسان ليحقق مآربه ومصالحه الخاصة.
وقد ظل الإنسان المعاصر الذي تذوق طعم الحرية والتنوير بعد جهد جهيد يهاب ويخشى الإرهاب بالمعنى الأول وظل يمقت ويدين الجماعات الدينية أو العرقية المحدودة التي تقوم بهذه الأفعال الشنيعة، وظل يتأسف ويتحسر على الأفق العقلي المحدود لهذا الإنسان الذي رزق العقل والمنطق بأن يقتل ويشرد الآخرين.
ليستيقظ بعد هذا التقدم العلمي والتطور التكنولوجي والرقي الحضاري على إرهاب جديد، إرهاب متحضر ومتمدن، ذو تحالفات واسعة وخطابات أنيقة ووجه مكشوف تعلوه الرقة واللطف، مما جعل هذا الإنسان يفقد كل ما افتخر به لعقود طويلة، فيتَهَدم تصوره للمواطنة، وينتفي إيمانه بوجود قانون إنساني كلي، عادل ومنصف، يحميه إن طاله الظلم، ويحتويه إن بلغه التعسف من جماعات جائرة وغير متسامحة، وعلى إثر هذا الواقع تتهاوى كل القيم والمبادئ الإنسانية التي يمجدها ويثق في مضامينها. إنه العقل المنطقي حينما يطاله الجنون ويدركه الخرف.
إن هذا التشظي والسقوط الذي أصاب العقل الإنساني يجد تجليه الملموسَ وتجسدَه الواقعي في الكيفية التي تُجاري بها ـ الآن هنا ـ دول الغرب سياستها الداخلية من جهة، والخارجية من جهة أخرى؛ فالأولى تكمن في غضّ الطرف عن إرادة الشعوب والمواطنين في البحث عن السلام وإدانة قتل الإنسان الأعزل، لا لشيء سوى لأنه إنسان يستحق أن يعامل كغاية في ذاته، باحترام وتقدير كما عبر عن ذلك الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. أما الخارجية فتكمن في حب السيطرة والتغلّب على المنافسين، ونصر الحلفاء الذين تشاركهم نفس المصالح، حتى وإن كان هذا التناصر على حساب حقوق الإنسان وحقوق الطفل، وحقوق المرأة وحقوق كل المدنيين العُزّل.
لقد تم التلاعب بمدلول الإرهاب في السياسات الدولية الراهنة التي تحتكر سلطة الإعلام والاقتصاد والسياسة، ليشمل كل من يعارض مصَالِحهَا ومآربهَا أو يُنافسها على الوصول إلى أسلحة حربية متطورة تضاهي أسلحتها، حتى تبقى لها اليد العليا والكلمة المسموعة في العالم، والباع الطويل في نهب خيرات هذا البلاد أو ذاك، وإن شاءت تهجير أهل هذا الحي أو إبادتهم لتعمره بسكان آخرين، يولونها الولاء ويصهرون على قضاء حوائجها.
وحسب ما أتينا على توضيحه وشرحه من معنى الإرهاب، فلا يمكن أبدا أن نصف مُقاومةَ شعب اغْتُصِبَت أرضُهُ وسُفكَ دمُه، واشّتُدَ عليه الحصار من كل جانب بالإرهاب؛ فالإرهاب الحقيقي هو الذي يَقتُل ويُشرِّدُ، ويُدِبُّ الرُّعبَ في الأطفالِ والنساء، حتى ترمي كلِّ ذاتِ حملٍ حملهَا، وتُفارق كلُ مُرِضِعة رضيعَها تحت الأنقاض والتراب، لا لشيء سوى لتجسيد إرادة الهيمنة وعقدة الاستعلاء. بل إن الإرهاب الحقيقي هو التشجيع على القتل علانية والتجويع والتهجير والتنكيل بالإنسان الأعزل الذي يفترش التراب ويلتحف السماء.
وكخلاصة لهذا القول، فالأسف كل الأسف أن الواقع يدحض وينفي كل تلك المفاهيم العملاقة من قبيل (حقوق الإنسان، والتسامح، والتضامن والحرية، والمساواة والعدالة…) التي تَبَيَّنَ أنها جرداء جَوفاء في تعاليها عن الحياة الملموسة، وزادتِ التقنية، وهيمنة الصورةِ الحية من تعميق الهوة السحيقة والمسافة الشاسعة بين ما نقوله ونصرح به كأناس عاقلين واعيين، ندعي الحضارة والتمدن، وبين ما نفعله ونُقبلُ عليه من أفعال عدوانية ووحشية، ترسخ قانون الغلبة، ومنطق القوة والهيمنة التي لا يمكن للضعيف فيها سوى أن يوسَمَ، إن هو قاوم وجابَهَ، بأنّه إرهابيّ.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 32، نوفمبر 2023.
للاطّلاع على العدد كاملا: http://tiny.cc/hourouf32