تمثلات غياب العدالة: الهجرة غير النظامية نموذجا

بقلم: خديجة مسعودي

  يبدو أنّه أصبح من الضروري إعادة التفكير في سؤال العدالة مجتمعاتنا العربية رغم قدمه، نظرا لما يطرح راهننا من تفاوت بين الشعوب وبين المواطنين خاصة في البلاد التونسية. ونجد أنفسنا اليوم ملزمين بإعادة مراجعة قيمة العدالة باعتبارها من أسس إرساء النظام الديمقراطي.

تعيش المجتمعات العربية اليوم على وقع مفارقات عديدة خاصة بعد ما سمي بثورات الربيع العربي التي قامت على المناداة بالعدالة من أجل العيش الكريم، لكن نعيش اليوم أمام تحديات تفرض علينا إعادة التفكير في جملة من القيم وآليات إرسائها بطرق أكثر نجاعة باعتبار أننا نعيش اليوم تغيرات على المستوى الإيتيقي والسوسيولوجي على حدّ السواء.

فماذا نعني بالعدالة؟ وماهي دلالتها فلسفيا؟ أي تمثلات تعبر عن غيابها راهنا؟

باعتبار أنّ مفهوم العدالة مركب بعض الشيء ويحمل عدّة دلالات متشعبة، يجب الاشتغال على هذا المفهوم لتبيّن معانيه وأسسه، ولكي نستطيع تفكيك مجتمعنا الذي تغيب فيه العدالة، وتحضر فيه أشكال اللامساواة.

 ويمكن اعتبار العدالة في هذا السياق مفهوما أخلاقيا وسياسيا فهو يجمع بين الفضيلة والحق، ويقوم على فكرة أنّ الناس يجب أن يعاملوا بشكل صحيح وعادل ومعقول وغير متحيز من قبل القانون ومن قبل المحكمين فيه، وأنّ القوانين يجب أن تضمن عدم وقوع أي ضرر بالطرف الآخر.

كما أنّ العدالة هي الاحترام الصارم للحقوق بشكل عام، وتكمن قيمتها في إقامة مساواة حقيقية بين الناس والتي لا تأخذ في الاعتبار الوضع الاجتماعي أو شخصية الأفراد.[1]

وفي هذا الإطار يعتبر أفلاطون أنّ العدالة هي بالأساس فضيلة واعتبر أرسطو أنها إنصاف. أما مفهوم العدالة عند المسيحية في العصور الوسطى فقد تحدّد على أنه فضيلة العدالة الأساسية، كما مثلت مع كانط الذي يمثل الحداثة  فضيلة نحترم بموجبها حرية الآخرين وإستقلالهم وكرامتهم.

 أما جون رولز يعتبرها “الفضيلة الأولى للمؤسسات الإجتماعية، كما هي الحقيقة للأنظمة الفكرية”، وتشمل العدالة جميع أفراد المجتمع وما ينظمهم من مؤسسات، فلا يمكن الحديث عن عدالة دون ربطها بالمؤسسات السياسية للدولة، ونظامها السياسي وقانونها الداخلي العام للمجتمع. وينطلق جون رولز في كتابه “نظرية العدالة” حول إمكانية تأسيس مجتمع متكامل قائم على المواطنة والعقلانية والمساواة والحرية من خلال مفهوم العدالة بوصفها فضيلة أخلاقية وعملا جماعيا يرتبط بشكل مباشر بالمؤسسات العامة داخل المجتمع وفق ما يسميه “العدالة الأسلوبية المحضة”، فالعدالة كإنصاف هي عقد إجتماعي، أي اتفاق مشترك قائم على مفهوم سياسي للعدالة لحالة خاصة للبنية الأساسية لمجتمع ديمقراطي حديث [2].

وبالتالي يمكن أن نفهم انطلاقا مما تم ذكره أنّ العدالة أهم الفضائل في ترتيب العلاقات بين الأشخاص وتأسيس مجتمع سياسي مستقر والحفاظ عليه لتتحول بذلك إلى حاجة إنسانية تنظم العلاقات وتحقق المساواة وتجعل الناس يمتثلون للقوانين.

وباعتبار أنّ العدالة مسألة أخلاقية بامتياز، بحث راولز عن التوافق بين العدالة الاجتماعية والطبيعة البشرية وخير الفرد، ووفقا لذلك شيّد نظريته على عدالة تقتضي أن تكون الخيرات الاجتماعية الأساسية، والحرية والفرص، والدخل والثروة، موزعة بالتساوي. فهذا الفيلسوف يعتبر أنّ الأخلاقي يتكون من عدل وخير لصياغة فكرة أساسية مفادها أنه يجب أن توزع كلّ الخيرات الاجتماعية الأصلية مثل الحرية والخيرات والثروة [3].

وبالوقوف على هذه الدلالات لمفهوم “العدالة” نحن نلاحظ أننا لا نجد اليوم ما يدّل على أننا أمام سياسات تتخذ من هذه الفضيلة مبدأ أساسيا وجوهريا للتحقيق “إيتيقا إنسية كونية” وللتحرّر من كلّ أشكال الحيف. فالهجرة غير النظامية أصبحت ظاهرة تعبر عن غياب العدالة باعتبارها تحقيقا للإنصاف على حدّ عبارة جون رولز. فكيف تمثل هذه الظاهرة إحدى تمثلات غياب العدالة؟

الهجرة غير الشرعية أو الهجرة السرية أو غير النظامية ظاهرة عالمية تعني الانتقال من بلد إلى آخر بشكل يخرق القوانين الدولية بحيث يتم الدخول دون تأشيرة الدخول.

وتعدّ الأسباب الاقتصادية والاجتماعية من أبرز عوامل الهجرة اليوم. ونظرا لانتشار مظاهر الفقر والبطالة والعجز على تحقيق مقومات العيش الكريم، فالهجرة غير النظامية حسب البعض ستوفر العمل وحياة أفضل.

كما مثّلت جائحة كورونا والأزمة السياسية التي تعيشها تونس، أسبابا شكّلت دافعا لموجات هجرة غير نظامية مكثفة باتجاه أوروبا، وتصاعدت الأرقام لتبلغ ذروتها، مما يجعلنا نفكر في الحاجة للعدالة لكي تحدّ من هذه الظاهرة الخطيرة والتي تهدّد الإنساني في بعده الكلّي.

يدافع الفيلسوف كانط في هذا الإطار، عن فكرة أنّ العدالة فضيلة تجعلنا نحترم بموجبها حرية الآخرين وإستقلالهم وكرامتهم[4] ، لكننا أمام واقع يتناقض مع هذه المبادئ فالمواطن التونسي أصبح يفتقد الشعور بالكرامة نظرا للظروف الاجتماعية التي يعيشها وسط غلاء الأسعار وانتشار البطالة وصعوبة تحقيق مقومات العيش الكريم.

وهذا يعود بالأساس إلى مشكل غياب العدالة، مما يجعلنا نتحدث عن “قوارب الانتحار الجماعية” وتفاقم ظاهرة الهجرة للبلدان الأوروبية بحثا عن معنى للذات تتحقق في جزء منها خلال أسس اجتماعية تؤمن بالعدالة. وعلى سبيل المثال شهدت البلاد التونسية في الآونة الأخيرة ارتفاعا لعدد المهاجرين من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية وهي محاولات في البحث عن “دولة الرفاه” [5] .

إنّ مطلب العدالة القائم بالأساس على مبدأ حقوق الإنسان، وهو تأكيد على مطلب المساواة بين الناس، فالقانون حسب كانط هو الفعل العادل الذي يسمح بتعايش حرية كل فرد مع حرية الفرد الآخر حسب قانون كلي، بحيث تسمح قاعدته المعيارية بهذا التعايش” [6].

إنّ مسألة العدالة هي مسألة أخلاقية تعنى بالقيم وبالإنساني، لذلك سنشير في مستوى ثان من هذا الطرح إلى أنّ الهجرة غير النظامية تمثل خطرا على الإنسان باعتبار أنها يمكن أن تؤدي “للاتجار بالبشر” وتجعلهم عرضة للتشيؤ على حدّ عبارة ميشال فوكو [7] وهذا ما يهددّ قيمة الإنسان باعتباره مواطن دولة ومواطن عالم في ذات الوقت [8].

يمكن هنا أن نتحدث عن أنّ غياب العدالة يقودنا للحديث عن تهديد حقيقي لكلّ ما هو قيمي إنساني، لذلك يعدّ هذا المبحث المحور الرئيسي في المجال الفكري بداية من العصور القديمة، فهي قيمة تنظم العلاقات بين البشر وتضمن مقومات العيش “المشترك” كما عبرت عن ذلك حنا آرنت في كتابها “الوضع البشري”، بوصفه مدخلا رئيسيا للمواطنة. ويقول فتحي التريكي في هذا الإطار أنه من الضروري “جعل العيش المشترك متاحا للجميع، لمتساكني الأرض بعيدا من التعصّب في أي شكل من أشكاله، ومن دون نزوع نحو الهيمنة أو القمع أو الاضطهاد، وعند هذا المنعطف تحمل الفلسفة ملمحها النضالي الذي يبدو في قبول الآخر صديقا من خلال بيداغوجيا التسامح والعيش سويا”  [9].

وفي هذا السياق يؤكد التريكي أنّ العيش المشترك يعبّر عن إنسانية قوامها المحبة والاحترام والغرض من ذلك إنقاذ الإنسان اليوم من المصائب المتسمة بالوحشية التي يشهدها قرننا [10].

بالإضافة إلى ذلك يمكن أن نلاحظ غياب للعدالة التوزيعية التي من شأنها إرساء المساواة التامة والتي ستحدّ بدورها من ظاهرة الهجرة الداخلية والخارجية على حدّ السواء، فالتوزيع العادل بين الجهات للثروات وخلق مواطن الشغل من شأنه أن يكسب الانسان شعورا بالإنصاف.

لكن الواقع يثبت العكس فنحن نعيش تفاوتا طبقيا يعكس فشل السياسات الحكومية في إرساء أسس ناجعة للتوزيع العادل للثروات، وخلق إستراتيجيات لدعم كلّ المبادرات التي تحقق العدالة. ومن هنا وجب التفكير في السبل التي من شأنها أن تجعل العدالة إحدى أهم مقومات سياسة الدولة.

تراهن المجتمعات المعاصرة الليبيرالية على تحقيق الرفاهية الاقتصادية وهو ما يجعل مشكل العدالة مطروحا باعتبارها إحدى السبل لتجاوز التفاوت الطبقي وتحقيق مبدأ المنفعة والتي تحقق بدورها مطلب المجتعمات الاستهلاكية، وما يجعلنا نشهد نموا لظاهرة الهجرة غير النظامية التي تعبر عن عجز دول الثورات العربية في أن تضع حدا للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها، مما زاد في نسب الهجرة غير الشرعية بهدف الحصول على فرص حياتية أفضل تحقق مطلب الإنساني

وهذا ما يبرر فشل ثورات الربيع العربي في تحقيق أهدافها التي تمثّلت في جملة من المطالب الاقتصادية الاجتماعية، فهذه الظاهرة مسّت الأمن والسلم الذي كان من أهم أسس فلسفة العقد الاجتماعي [11]، وبالتالي هناك مسّ من حقوق المواطن باعتبار أنّ الأمن شرط من شروط تحقق مبدأ المواطنة.

إضافة إلى ذلك وعلى المستوى الوجداني فقد المواطن التونسي الشعور بالانتماء إلى وطنه، فالمواطنة هي قيمة تضمن كلّ الحقوق كالأمن والمساواة والملكية والحرية. مما يجعلنا نتحدث عن أزمة هوية [12] فالتونسي اليوم لم يعد يشعر بقيمة المواطنة مما يجعل “قوارب الانتحار” حلا بالنسبة له في محاولة منه لإدراك المعنى والوصول إلى غايته التي تتمثل أساسا في تحقيق العيش الكريم، والذي يتحدّد من خلال العدالة الاجتماعية باعتبارها قيمة إنسانية عليا تكرّس المساواة.

لقد شكلت العدالة بما هي فضيلة أخلاقية وقيمة اجتماعية، مطلبا كونيا لمختلف الأنظمة السياسية، وهذا ما جعل منها موضع اهتمام على مر العصور من قبل المفكرين والفلاسفة والقانونين، فتنوعت مساعي البحث وتنوعت بين محاولات استكشاف المفهوم والمبادئ نظرا لدورها في بناء المؤسسات وتطور بنية المجتمعات مما يجعل المواطن اليوم يحلم بتحقيق المساواة واضمحلال مظاهر التفاوت، وعلى  المستوى الفلسفي قطعت الفلسفة السياسية والأخلاقية أشواطا بعيدة بحثا عن تصور متكامل للعدالة، لكننا نحن إزاء غياب إرادة حقيقية لإقامة العدل ورفع الظلم، لذلك يجب إرساء إرادة سياسية جادة من قبل الحكومة على المستوى الوطني وتلغي تمثلات غياب العدالة..

إنّ الهجرة غير النظامية هي نتاج رئيسي لغياب العدالة باعتبارها تحقيقا للمساواة وبالتالي تجاوز كل أشكال الحيف والظلم، وباعتبار أننا اليوم نشهد حسب الاحصائيات ارتفاعا في نسبة المهاجرين من مختلف الفئات العمرية والهشة فإنّ هذا يعبر عن غياب لمقومات العدالة الاجتماعية.

 

الهوامش

  1. D. Julia, Dictionnaire de la philosophie, Paris, Larousse, 2001.
  2. جون رولز، العدالة كإنصاف-إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص 12.
  3. المرجع نفسه، ص 313.
  4. إيمانويل كانط، مشروع للسلام الدائم، ترجمة عثمان أمين، القاهرة، المطبعة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى. 1952.
  5. يشير مصطلح دولة الرفاه هي نوع الإدارة الذي تلعب فيه الحكومة الوطنية دورا رئيسيا في تأسيس الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها، ويرتكز هذا المفهوم على مبادئ تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروات.
  6. المرجع نفسه.
  7. -ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع صفدي، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1990، ص 76
  8. E.Morin, Une politique de civilisation, Paris, Ed.Eléa, 1997,p.118.
  9. محمد الجديدي، “فلسفة الصداقة والعيش سويا” ضمن كتاب العيش سويا، قراءات في فكر فتحي التريكي، مجموعة من الباحثين، القاهرة، دار الثقافة العربية، 2008.
  10. مجموعة من المؤلفين، جاك دريدا، قوانين الضيافة، تونس، دار الوسيطي للنشر، 2012.
  11. توماس هوبز، اللفياثان-الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، دار الفارابي،دائرة الثقافة السياحية-أبو ظبي-دار الكتب،2011.
  12. تشارلز تايلور، منابع الأنا: تكوين الهوية المعاصرة، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2014، ص 46.

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 29، أوت 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf29

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights