في المسرح الرحباني: “الشخص”…شخصيات بلا أسماء
|بقلم: حمزة عمر
لعلّ مسرحية الشخص، التي أخرجها صبري الشريف وعرضت بمسرح البيكاديلي ببيروت سنة 1968، من أكثر مسرحيات الرحابنة نُسَخًا. فعلاوة على كون الأخوين رحباني أعادا عرضها في أوائل الثمانينات، بعد الانفصال عن فيروز، مع رونزا في الدور الرئيسي، فقد عمل الشاعر الراحل أمل دنقل على تمصيرها، وقامت عفاف راضي بدور البطولة في النسخة المصرية التي تمّ منعها من العرض في التلفزيون لمدّة طويلة.
تستعدّ الجهات الرسميّة في البلدة، وعلى رأسها المتصرف (نصري شمس الدين)، لاستقبال “الشخص” (أنطوان كرباج)، أهم شخصية سياسية في البلاد، ويخلون الساحة من باعة الخضر. قبيل بدء المراسم، تصل بيّاعة البندورة (فيروز) ولا ينجح المسؤولون في طردها. تبادر بيّاعة البندورة بالسلام على الشخص، وتغنّي له. يرحل هو مباشرة بعد ذلك دون أن يحضر المأدبة المقامة على شرفه. يتّهم المسؤولون بيّاعة البندورة بإفشال الحفل، ويحيلونها على المحاكمة…
ما يلفت النظر في الضجّة التي أثيرت حول بيّاعة البندورة بساطة فعلها مقارنة بجسامة التهم. هي لم تفعل غير أنّ حيّت الشخص، بعفوية بالغة، وسألته عن أولاده، ثمّ استرسلت مغنيّة عند سماعها لموسيقى الدبكة. أثناء المحاكمة، تصرخ محتجّة: “غنيتلو يا عمي شو فيها؟”. لكن ليست العفوية والبساطة من الأعذار التي تروج لدى أصحاب الشأن. مادامت تجرّأت وفعلت ما فعلته، فمن الأكيد أنّ هناك من دفع لها مقابل ذلك. لمّا تصر البيّاعة أنّ ما قامت به أمر بسيط ولا يستحق هذه الضجّة، يقال لها “قد ما هي بسيطة، مش معقول تكون بسيطة”. حتّى أثناء التحقيق، لمّا تنطق البيّاعة برقّة حالها وصدق طويتها، تُحرّف أقوالها ليستخرج منها الشاويش اعترافا، تدهش له هي وتنفيه تماما، غير أنّه يقول لها، فيما يشبه الجديّة، أنّ التحقيق يستنتج أشياء من تلقاء ذاته.
لا يختلف الشاويش عن غيره من شخصيات المسرحية في كونه بلا اسم. لا يكاد ذلك يسترعي الاهتمام، حتّى يعلنه القاضي في جلسة المحاكمة، لمّا يعلن اكتفاءه بـ “البنت البيّاعة” اسما للمتّهمة مبرّرا ذلك بكون المسرحيّة بلا أسماء. هي رسمنة ساخرة ولاشكّ. كأنّه لم يجد، وهو المحاصر بنصوص القانون، بدّا للاستمرار في المحاكمة من التصريح بالطابع المسرحي لما يحدث. يكاد هذا التصريح يكون دون نظير في مسرحيات الرحابنة. في “بيّاع الخواتم”، يختلط الواقع بالوهم، لكن لا نخرج من الإطار الداخلي للأحداث. في “ناس من ورق”، يسأل مدير الفرقة عن أسماء وأماكن لمسرحيات أخرى، لكن كذلك دون كسر الفواصل بين المسرحية والحقيقة. قد يكون هذا التصريح الفريد عائدا لكون القاضي على أتمّ الوعي أنّ هذه المحاكمة، على ما أحاط بها من بهرج، لا تعدو أن تكون مسرحية.
غياب الأسماء يجعل من الشخصيات أحادية الأبعاد. كلّها تُعرّف من جانب واحد فيها، مهنتها غالبا. هذا ما يجعل منها عموما متجرّدة، إلى حدّ ما، من بعدها الإنساني الرحب لتنحصر في بعد وظيفي شديد الضيق. ينطبق ذلك بشكل خاص على موظّفي الدولة، ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك هو مثال الشاويش. هو ذلك الحريص على النظام بشكل صارم. يطبّق أوامر رؤسائه دون أن يعبأ بتأثيرها على مصائر الناس، فلا يتردّد في إحالة باعة الخضر على البطالة الإجبارية لكي ينفّذ الأوامر المتعلّقة بإخلاء الساحة. لعلّ الطابع الإنساني فيه لا يظهر إلّا عندما يعترف، تقريبا، بفساده لمّا يطلب وضع خضر البيّاعة المصادرة في ثلّاجة بيته، ولمّا يصرّح باغتياظه منها لمّا حرمته من غداء فاخر.
هذا الطابع الإنساني يبرز في ومضات خاطفة لدى شخصيات السلطة الأخرى، دون أن يكتمل فيها. نرى أنّ المتصرّف يحرص على تفقّد أحوال الرعيّة قبيل المحاكمة، ويبدي نوعا من التعاطف مع بيّاعة البندورة، بل أنّه يحضّ المحامي على مساعدتها. لكن نراه يحجم عن الذهاب أبعد من ذلك ويبرّر الظلم الذي وقع عليها بكونه من طبيعة الأشياء: هو يتلقّى الأوامر من رؤسائه، ويوجّه الأوامر إلى مرؤوسيه، وتنحدر الأوامر في طريقها حتّى تصل إلى القاع: المواطنون البسطاء الذين لا يجدون من يلقون عليه الأوامر وعليهم الرضا بما قسم لهم. ونراه قبل ذلك يعلن أنّه يفضّل الرحمة على العدل، لكن ذلك لا يعود إلى شفقة متأصلة فيه: هو يصرّح أنّ تفضيله هذا يرجع إلى خشيته من العدل الذي يقتضي سؤاله: أنّى لك كلّ هذه الأموال؟ نلمح كذلك هذا التعاطف عند القاضي الذي يستغرب من عدم توكيل البيّاعة لمحام ويقول لها أنّها تحتاج قطعا إلى دليل في متاهات القانون حتّى تخرج سالمة، لكنّه رغم هذا التعاطف، يصدر عليها حكمه القاسي.
أمّا الشخص، فيحافظ على غموضه الكبير إلى حدود الدقائق الأخيرة من المسرحية. حتّى تسميته تحيل إلى ذلك: هو ذلك المجهول الذي لا يعرف أحد عنه شيئا، رغم أنّ كلّ شيء يصدر باسمه. كلّ الأحداث تتعلّق بلقائه مع البيّاعة، لكنّه لا ينطق في ذلك اللقاء بكلمة. لمّا ينصرف دون غداء، لا يعلن عن أسباب ذلك ولمّا يسأل المتصرّف مرافقه إن كان الشخص قد انزعج من البيّاعة، لا يجيب المرافق بوضوح: ربّما يكون انزعج، كما قد يكون لم ينزعج. كلّ ما يلي ذلك كان يتعلّق بتأويل صمته انزعاجا. نسمع صوته فقط في آخر المسرحية، ليكشف عن وجه آخر. هو سجين الدور الذي يلعبه كـ”شخص”. نمّطه مركزه حتّى لم يعد يستطيع عنه فكاكا، بل لم يعد يجد الراحة حتّى بين جدران بيته، وأصبح يتوق إلى نزهة قصيرة على قدميه ليتحرّر قليلا. يصرخ: “قاعدين ببيتي وأنا قاعد فيّ اللي مش أنا”. هو يحبّ الناس، إذ طرب لصوت البيّاعة وكان يظنّ أنّ مجيئه سينعش التجارة بالساحة، ولكنّه رغم ما يصرّح به من تحسّر على ماضيه قبل السلطوي ونقمة على القيود التي تحاصره، فهو يرفض التخلّي عن منصبه ويخشى كلّ مؤامرة للتخلي عنه. هو مرض السلطة الذي يتجلّى في هذا الفصام، فرغم أنّ السلطة دمّرت شخصيته وأدخلته في دوّامة من الافتعال، فذلك لا يمنعه من التمسّك بعناد بأبّهة كرسيّه.
وتظلّ البيّاعة (فيروز) أكمل الشخصيات إنسانية، حتّى أنّ مهنتها تتحوّل إلى اسم لها، منفصل عن بعده الوظيفي. هي تلك البنت البسيطة التي لا يمنعها سعيها وراء لقمة عيشها من أن تبقى دائما على سجيّتها، فلا تتردّد في كسر حواجز البروتوكول لتتحدّث إلى الشخص، ويهزّها الطرب فتندفع في الغناء وتستثير الرقص. لا تعي في البداية فداحة ما رميت به من تهم، لكنّنا نرى أنّها تكتسب وعيا تدريجيا يتجاوز حدود تهمتها ذاتها… وعيا اجتماعيا حادا. لمّا يقول لها المتصرّف أنّها هي ورفاقها الأساس الذي يتلقّى الأوامر دون أن يلقيها على غيره، تجيبه في تحدّ أنّ الأساس لا بدّ أن ينتقض ويزعزع البناية بأسرها. لمّا يلتفّ بها صحبها ليسألوها عمّا حصل في المحاكمة، تقول لهم أنّها لم تحاكم لوحدها، بل أنّ كل الباعة المتجولين (طبقتها؟) حوكموا معها. تسترسل فتتحدّث عن تفاؤلها في البداية لمّا افتتحت المحاكمة باسم الشعب (أي باسمها ورفاقها) قبل أن يخيّب مسارها الآمال. تصرّح بنقمتها على كلّ درجات السلطة، وتخبر الباعة أنّه ليس الشاويش وحده من يحاربهم… هي قد استوعبت أنّ الشاويش ليس غير أقرب درجات السلطة إليهم… السلطة المتورّطة بجميع درجاتها في مطاردة الناس البسطاء ومنعهم من العيش… السلطة التي تحرمها من العربة التي لا تمثّل فقط مورد رزقها الوحيد، بل صديقة طفولتها والذكرى الباقية لها عن أبيها الراحل، حتّى تبكي في حرقة على فراقها… في آخر المسرحية، يبلغ وعيها ذروته: حين يعدها الشخص بحلّ مشكلتها، تجيبه في براءة تنضح سخريّة: وإذا زاغ الأمر، وأعطى لنفسه أمرا، وتَحرَّف في سلسلة السلطة، فما يكون العمل؟ هي تدرك أنّ المشكل غير متعلّق بها وحدها، بل هي قضيّة السلطة في المجتمع عموما…
نلحظ في المسرحيّة أنّ ارتباط ممثّلين بأدوار بذاتها بدأ يتأكّد لدى الرحابنة، الأمر الذي يضفي نوعا من النمطية، لكنّه كذلك يرسّخ معالم المسرح الرحباني. يؤدّي وليام حسواني دور الشاويش، وفيما بعد، سيكاد يحتكر ذلك الدور حتّى نهاية تجربة الرحابنة مع فيروز، لا في المسرحيات فقط، بل نجده يلعبه في أكثر من مشهد في حفل الأولمبيا سنة 1979. أمّا نصري شمس الدين، فنراه مجدّدا في دور الحاكم المحلّي (المتصرّف)، على غرار دور المختار في “جسر القمر” و”بيّاع الخواتم”. ونشهد في “الشخص” الظهور الأوّل لأنطوان كرباج. وعلى قصر الحيّز الزمني المخصّص له، نراه، وهو القادم من خارج الدائرة الغنائية، يضيف بعدا تعبيريا تختلط فيه الدراما بالكوميديا، وهو ما سيمنح عمقا أكبر للمسرحيات الغنائية للرحابنة، إذ نراها معه بالخصوص تتجاوز حدود الاستعراض الموسيقي. هنا، نراه يبدع في دور الحاكم، وهو الدور الذي سيمثّله مجدّدا في “صحّ النوم” و”ناطورة المفاتيح”. أمّا فيروز، فنراها في “الشخص” تستمرّ في لعب دور الفتاة البسيطة النقيّة، وإن وجدناها هنا تغرق في تعقيدات الواقع، وهي التعقيدات التي ستتنامى أكثر مع تطوّر المسرح الرحباني. فيلمون وهبي وحده يخرج قليلا عن النمطية، فهو وإن استمرّ في توجّهه الكوميدي، فهو لا يقوم هنا بدور “سبع” الإنسان البسيط، بل بدور محام ضليع في القانون.
يمكننا أن نرى ما الذي شدّ انتباه شاعر متمرّد كأمل دنقل في هذه المسرحية، لا سيّما أنّها تلت مباشرة نكسة 1967. نلمح رجل السلطة وهو يفقد مبادئه الأصليّة في غمرة الصراعات، ومع ذلك لا يزداد إلّا تشبّثا بمنصبه، ولا يفعل شيئا لتغيير الوضع… نرى البيروقراطية تضيّع جدوى كلّ قرار في رتابة التراتبية… يعترضنا القاتون في بروده المقيت ألعوبة في أيدي من يحترفونه (كما تعبّر عنه بشكل ساخر مناجاة المحامي لدالوز) وهو يضرب عرض الحائط بحياة الناس البسطاء… نرى الوعي الشعبي وهي يتنامى في مواجهة الفساد المتغلغل في السلطة… لو أحرقت البيّاعة نفسها إثر مصادرة عربتها لتحوّلت المسرحية إلى نبوءة ! لكن يمكن أن نفهم كذلك لم لم تحقّق النسخة المصرية ولا حتّى الإعادة الرحبانية نفس نجاح النسخة الأولى. حسبنا أن نستمع إلى فيروز في حوارها مع الشخص، وصوتها يتفجّر نورا وهي تترنّم بالدلعونة لندرك أنّ هناك ما لا يمكن استبداله على الإطلاق…
فى غاية السعادة بالنقد والشرح والتحليل والرؤية الواعية لنص يكاد يكون نادر وعرض لم نستمتع به سواء فى النسخة اللبنانية ( فيروز) أو النسخة المصرية ( عفاف راضى ) فى مصر وذلك بسبب المنع والمصادرة وما الى ذلك – دهشتى تزيد عند معرفة أن الشاعر الكبير ( أمير شعراء الرفض ) قام بالمعالجة الدرامية وكتابة الاغانى بعض الحوارات للشخوص الاخرى وهكذا ..جزيل الشكر والتقدير للأستاذ حمزة عمر