كاميرا خفية برعاية سيدي الحلفاوي
|‘الرهينة”، “الزلزال”، “براكاج”…هذه العناوين الّتي اختيرت للإضحاك في شهر رمضان، وقاسمها المشترك واحد: إخافة الضيوف إلى حدّ الرعب، لعلّ ذلك يستدعي قهقهات المتفرّجين ويعلي من نسب مشاهدة القناة في شهر هو شهر الاستهلاك التلفزي بامتياز.
كانت الكاميرا الخفيّة تستعمل منذ بداياتها أساليب الإخافة، لكن كان ذلك بطرق بدائية وساذجة (كمفرقعات في كرسي بحديقة عمومية..). الآن أصبحت تقام بنايات وهميّة وتستورد أجهزة وتصرف الملايين حتّى يزرع الخوف في قلب الضيف المشهور. غنى على المستوى المادي يقابله فقر مدقع على مستوى الأفكار، فلم يعد من الضروري الاجتهاد للإتيان بفكرة جديدة لكلّ حلقة مهما كانت بساطتها، بل يكفي أن تكون لك فكرة واحدة تكرّرها على امتداد الشهر.
ولعلّ النموذج الأبرز للرعب (الّذي يراد له أن يكون مضحكا) يأتينا من الشقيقة مصر أين بلغ برنامج “رامز عنخ أمون” الغاية في الترويع: ضيف مشهور يسجن في حجرة ضيّقة في مقبرة فرعونيّة وتطلق عليه الخفافيش والثعابين قبل أن تخرج له مومياء محنّطة. ذلك قبل أن يأتي مقدّم البرنامج فرحا مسرورا يكاد يتعثّر في قهقهاته ليعانق ضحيّته الجديدة “ويا ناس ما صار باس” ! وقد بلغ الرعب بالمغنّي خالد عجّاج إلى درجة أوشك فيها على الإصابة بنوبة قلبية على ما يبدو. أمّا هيفاء وهبي، فقد قيل أنّها ستقاضي البرنامج للحصول على تعويضات على ما أصابها من الرعب.
هل تؤخذ الحالة الصحيّة للضحايا بعين الاعتبار قبل استضافتهم؟ صحيح أنّه يتمّ الاتّصال بمسعفين ليكونوا حاضرين على عين المكان، ولكن قد تكون للبعض علل لا تصمد أمام الرعب، وقد تكون بذلك عواقب المقالب وخيمة. وفي هذا الإطار، استمعت إلى أسماء الطيّب مقدّمة برنامج “الرهينة” تدافع عن برنامجها في إحدى الإذاعات الخاصة بقولها أنّها تسأل أصدقاء الضيوف عن وضعهم الصحّي قبل استضافتهم، وكأنّ شهادة الأصدقاء ملفّ طبّي متكامل يمكّن من المعرفة الشاملة بحالة الضيف !! مثل هذا التصريح إقرار ضمني بأن ليس هناك اطّلاع جدّي على استعداد الضيوف الصحّي لتقبّل مثل هذه المقالب.
وقد أصبحت الكاميرا الخفيّة الّتي كانت متعة للصغار قبل الكبار معدودة من برامج البالغين حصرا بعد توصية الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري بضرورة وضع تنبيه يلفت النظر إلى احتواء برنامجي “براكاج” و”الرهينة” على مشاهد عنف من شأنها التأثير على الفئات الحسّاسة من المشاهدين وخاصة الأطفال الّذين يمنع من هم دون الثانية عشرة منهم من مشاهدة هذين البرنامجين، وفي ذلك إعلان صريح أنّ الضحكة في الكاميرا الخفيّة لم تعد بريئة عفوية، لا سيّما وأنّ الهيئة كانت قد نبّهت قبل ذلك إلى ضرورة أن يعرض البرنامجان بعد العاشرة والنصف ليلا (أسوة ببرامج البالغين الأخرى على ما يبدو) ولم تتراجع الهيئة عن طلبها إلا مراعاة منها “للاعتبارات الاقتصادية” الّتي تدفع لبثّ مثل هذه البرامج في وقت مبكّر، فـ”الاقتصاد” عذر كاف لاستباحة المحظورات.
هذه الاعتبارات الاقتصاديّة المذكورة تكشف أنّ مثل هذه البرامج مربحة لارتفاع نسبة مشاهدتها. وهو ما يعني تمتّع السادة المشاهدين بمشاهدة ظلال الرعب المرسومة على وجوه الضحايا. ونذكّر أنّ الأمر لا يتعلّق بفيلم رعب أحداثه خيالية يعي المشاهد أنّ لا شيء من مشاهده وقع فعلا، بل لأناس من لحم ودم، مواطنين مثلنا، مرّوا حقيقة بتلك اللحظات الطويلة على نفوسهم، وإن قصرت على المشاهدين، من العذاب النفسي. نحن بحاجة إلى الغوص في أعماق نفوسنا لتبيّن هذا الميل السادي المتلذذ بعذاب الآخرين والشامت بوقوعهم بين فكي الخوف (وإن كنت أعذر الضاحكين قليلا إذا كان الواقع في الفخّ سياسيا !). الاستمتاع بالرعب في مناخ سياسي واجتماعي واقتصادي ينضح رعبا لا يمكن أن يكون إلا حالة مرضية، اللهم إن كان المواطنون المرتعبون يعالجون أنفسهم على طريقة “وداوني بالتي كانت هي الداء”.
هذا النوع من البرامج ينحرف عن النموذج الأصلي للكاميرا الخفيّة الّذي يقوم على إظهار ردّة الفعل التلقائية للأشخاص بعيدا عن الاصطناع والافتعال طلبا للضحك إلى نوع من التعذيب المعنوي لأشخاص يوضعون وسط كوارث طمعا في إثارة شيء من الضحك المريض الشمائتي. ومن يدري؟ لعلّ ظهور كلّ هذا البرامج دفعة واحدة يدخل في إطار خطّة وطنيّة لتثمين التراث أو إعادة الاعتبار للطبّ الشعبي، علّ ضحايا الكاميرا الخفيّة ومشاهديها يصطفّون أمام زاوية سيدي الحلفاوي بحثا عن “كيّة” تذهب الفجعات.