“سمّها ما شئت”: الجدية في زمن الابتذال…
|بقلم: حمزة عمر
قد تتيح لك الصدف، من حيث لا تدري ولا تأمل، أن تخوض تجارب تنغرس في عمق ذاكرتك… صادف أن رأيت معلّقة لمونودراما “سمّها ما شئت” (وهو عمل من تأليف وإخراج وليد دغسني) في مدخل فضاء كرمان وسط العاصمة فأثار العنوان شيئا من الاهتمام لديّ… صادف أن اعترضتني صفحة الحدث على فايسبوك، فقرأت شيئا عن الحبكة، وقلت: لم لا… ثمّ صادف أن كنت خاليا، لا يشغلني شيء مساء السبت، فقلت: ليكن…
ولم يخل هذا الإقبال من بعض المخاوف… فحين وصلت إلى المسرح، لم ألحظ كثافة في الحضور، فخشيت أن يكون من العروض التي لا يحضرها سوى نفر قليل من أصدقاء فريق العمل لشدّ الأزر… وحين دخلت إلى قاعة العرض، ووجدت ممثّلة في وضع جامد فوق الخشبة، خشيت أن يكون من تلك العروض التجريبية التي لا يمكن أن تعرف رأسها من رجليها… وحين ذُكر التطرّف الديني، خشيت أن يكون من تلك العروض المُؤدلجة… غير أنّ الستين دقيقة التي قضيتها في مشاهدة هذا العمل، بدّدت مخاوفي جميعها…
يبدأ العمل بقصّة فنّانة (أماني بلعج) تعلّم الرقص. يهاجر حبيبها إلى الخارج دون سابق إنذار. يحرق متشدّدون مدرسة الرقص التي تملكها، وترفض شركة التأمين تعويضها، وتغرق هي في هواجسها…
لانكاد نعثر، كلّما تقدّم العرض، على القصّة المنطلق، فهي لم تكن سوى قادح للقول. تتداعى الخواطر في نفس البطلة بادئة من همّها الشخصي البحت: علاقتها بحبيبها المثّقف (أو الثقفوت)، ألوان التحرّش الّتي تتعرّض إليها كلّما طلبت خدمة، التزامها بفنّها… تلفحها رياح الذكريات عن ماضيها الطلّابي وتعامل الجهاز الأمني مع تلك المظاهرات ذات الشعارات الكبيرة… تمرق من ذلك إلى تناقضات الواقع العربي بين من يبيتون في الخنادق ومن يسكنون الحانات… ثمّ تعانق الهمّ الإنساني في رحلة البحث عن المعنى… لم يكن الانتقال بين مختلف هذه المستويات دائما سلسا. في بعض الأحيان، كانت هناك قطيعة تصدم المتفرّج بين المشهد والمشهد الذي يليه… ربّما هي قطيعة بحجم الفجوات التي تملأ واقعنا والتي نعجز عن تفسيرها…
لم يكن المرور بين مختلف هذه المستويات التي يستوجب كلّ منها عمقا استثنائيا ليكون ممكنا لولا الطاقة الهائلة لأماني بلعج. هذه الفنّانة الشابة ذات الحضور الطاغي حوّلت جسدها إلى قصيدة تحكي، بالكلمات تارة ودونها تارة أخرى، بالدموع طورا وبالضحكات أحيانا، كلّ هذذه المشاغل المؤرقة. لقد ملأت أماني المسرح وتعدّدت حتّى كدنا ننسى أنّه لا يوجد غيرها على الركح.
وأخال أنّ عمق النصّ كان من العوامل التي أتاحت للممثّلة أن تبدع بهذا الشكل. وفي الحقيقة، قلّما شهدت في المسرحيات التونسية في الفترة الأخيرة نصّا مترفّعا بهذا الشكل. فمن حيث لغته، راوح بين عربية فصحى سليمة في المجمل وعامية تونسية صميمة لاتكاد تخالطها ألفاظ أجنبية منحرفا بذلك عن “الفرانكو-آراب” الذي صار فيما يبدو القاعدة. أمّا من حيث محتواه، فقد جانب، حتّى في الأجزاء التي تدعو للضحك، كلّ تلك الأساليب الرخيصة المعتادة (“الغشّة” في الكلام، التقليد الساذج للهجات…) بل أنّه حتّى في المشاهد التي تعرّضت للتحرّش الجنسي، تمّ الإعراض عن كلّ السفاسف الممجوجة التي عوّدونا به في البرامج التلفزية وأعمال “الوان مان شو”…
العثور على عمل بمثل هذا العمق- في هذا الزمن الذي طغى فيه البحث عن الضحك الرخيص- كان صدفة… سعيدة بلا شك، ولكن لم يكون العثور على مثل هذه الأعمال صدفة؟ هناك أعمال أخرى من نفس النوع (مونودراما) حظيت باهتمام إعلامي كبير وحضرتها جموع غفيرة، رغم أنّها لم تكن تفوق “سمّها ما شئت” في شيء، بل كانت غارقة في المباشرتية الفجّة… هناك جهد كبير ينبغي القيام به لكي لا يكون العثور على الجودة مجرّد صدفة…