التغريبة اللغوية

بقلم: سعاد السيّاري

صيغ دستور البلاد التونسية وتشريعاتها باللغة العربية،  وكذلك الحال بالنسبة إلى الوثائق الرسمية والإدارية مما يوحي أن اللسان التونسي هو لسان عربي صرف.

 هذا ما لا نلمحه في التعاملات اليومية للتونسيين أو في المشهد الإعلامي والقلم الأكاديمي الذي طغى عليهم مزيج من اللغات واللهجات، خلقت فسيفساء لغوية يصعب تصنيفها وهو ما يستدعي في بعض الأحيان دروسا لشرح أصول كل تعبير وكلمة. كما لا يغيب هذا الغموض عند تعامل التونسي مع وثيقة رسمية أين يجد قطيعة بين المنطوق والمكتوب، بين ما عايشه وما طلب منه حتى يجد نفسه في ريبة من معارفه. كما أن المشهد الثقافي بصفة عامة في تونس ومنذ بداية الألفية الثانية شهد حفاوة كبيرة بالأدب العامي من شعر  وكتابة قصصية. وزاد الأمر تعقيدا ان أغلب الباحثين في الشأن العام والذين يحظون بتقدير عالمي يكتبون أغلب منشوراتهم باللغة الفرنسية. لذلك نجد أن التونسي يحرص على تعليم أبنائه اللغة الفرنسية قبل اللهجة العامية حتى ويكتفي تحصيله العربي على السنوات الدراسية الأولى ليصدم مجددا بمواد علمية تدرس كلها بلغة ”أجنبية“.

فما هو مرجع هذا الارتباك اللغوي بين المؤسسات والعامة وكيف يمكن تداركه؟ وهل يمكن التأثير على اللسان العامي للمجتمع عبر الهياكل الرسمية؟

اللغة العربية في الإنتاج الفكري والبحث العلمي

أختصرت أغلب الاصدارات التونسية في النشر أو الترجمة باللغة الفرنسية. بينما لسان العالم اليوم هو الإنجليزية. وهو ما يفتح مبحثا جديدا على اي اللغات يجب أن يرتكز التكوين التونسي اليوم هل على لغة باتت من تاريخنا وهي الفرنسية أم على لغة تفتح أفقا للجيل التونسي اليوم وهي الإنجليزية؟

في هذا المأزق تكاد تندثر قيمة اللغة العربية في التكوين خصوصاً مع انحصار أفقها الاقتصادية ومع قلة المترجمين والمشجعين على الترجمة وعدم ثقة أغلب الدارسين في النصوص المنقولة عن لغتها الأم.

تؤكد لورا أهيرن في كتابها مدخل إلى الأنثروبولوجيا اللغوية: “إن اللغة التي تتحدثها قد تجعلك أكثر ميلاً واستعداداً لرؤية العالم بطريقة معينة لكنها لن تمنعك من رفض هذه الرؤية أو تغييرها” لذلك يفضل الباحثين والطلبة اتقان واستعمال اللغة التي تساعدهم في فهم وتأثيث تخصصاتهم والتي غالبا ما تكون أجنبية. وهذا لا ينفي ان تعدد اللغات لدى الفئة المثقفة أمر محمود ومرغوب ما من شأنه أن يضفي قيمة لزادهم المعرفي ولإنتاجهم الفكري. كما أن انحسار الفئة المهتمة بالاطلاع على الإنتاجات الفكرية والعلمية في البلدان الناطقة باللغة العربية يجعل إصدارها بلغة أشمل من حيث المجال أمرا ضروريا بل وحياتية متى نظرنا للإنتاج العلمي بنظرة براغماتية صرفة.

كما تجدر الإشارة إلى أزمة المبدعين.

فإن اعتبرنا الإبداع إنتاجا روحيا حميما فلابد ان يكون بأقرب لغة إلى روح الكاتب، فمع ندرة المبدعين المتقنين لفنون الحروف العربية يندر أيضاً المتذوقون لفنهم، الشيء الذي يجعلهم شحيحي الإنتاج ومتذبذبي الظهور إلى أن تلامس كلماتهم حدثا مهما أو يعترف بهم غريب.

ولا يمكن التغاضي أيضاً عن المبدعين ذوي الأصول العربية والناطقين بغيرها فهم مبدعون وفنانون فقط هناك في المهجر ولا يعلم بإبداعهم الا النزر القليل من بني وطنهم وقليلا ما ساهموا في النقل من وإلى العربية. هذه الغربة اللغوية التي صارت تجتاح أغلب البلدان العربية من تجلّيات أزمة الهوية الّتي نلمحها مثلا في بلدين مثل لبنان وتونس أين تراجع الإنتاج الفكري والفني وأصبحت أغلب إصدارات الكتّاب تقتصر على أعمال حسب الطلب لصالح منظمات بحثية أو في إطار أكاديمي بحت. .

 إنّ ضعف تأثير وقيمة الإنتاج الفكري العربي على الصعيد العالمي من بين الأسباب التي قلصت أهمية وضرورة اللجوء للعربية. يختزل هذا الجدل لوران لافورغ، وهو أحد أكبر علماء الرياضيات في العالم والحائز في عام 2002 على جائزة آبل (تعادل جائزة نوبل في العلوم الأخرى) في قوله: “ليس لأن مدرسة الرياضيات الفرنسية مؤثرة تستطيع أن تنشر باللغة الفرنسية، وإنما لأنها تنشر بالفرنسية فهي مؤثرة”.

أليس هذا بمؤشّر على ضرورة مراجعة علاقتنا بلغتنا الوطنية في اتّجاه إثراء وتنمية الإبداع الّذي نكتبه بها خصوصاً مع ما تتيحه وسائل التواصل الحديثة؟

يطرح هذا السؤال خصوصاً مع ما نراه من رجوع بعض نشطاء الغرب في وسائل التواصل الاجتماعي إلى الاحتفاء بالعربية مثل جينيفر غراوت التي احتفت بالموسيقى العربية وحروفها أيما احتفاء وإضافة إلى اعتماد بعض المصممين سواء في الأزياء أو الوشم استخدام الخط العربي وعبارات عربية. ربما هذا المنهج الذي وجب على العرب انتهاجه لإحياء لغتهم في أوطانهم وتقريبها من باقي العالم؟

ما مكانة اللغة العربية في تونس؟

قد يبدو من السهل الإجابة عن هذا السؤال متى رأينا ان الدستور التونسي ينص على أن تونس لغتها العربية. لكن لأي متبصر في الشارع التونسي يرى ويلمح مدى تلاشي هذه الصفة خصوصاً من منظور مجالي واقتصادي أي انه ربما يكون هذا التعريف صحيحا في المجالات الريفية والمدن التي يقتصر تفاعلها وإنتاجها في الشأن المحلي، حيث يستعمل أغلب سكانها حروفا وتسميات عربية وهو ما يدعوه ميشال فوكو بالتملك الاجتماعي للخطابات “L’Appropriation Sociale des discours”.

أما في المدن الصناعية أو المدن التي تنتشر فيها الجامعات وفيها تدفق كبير للأجانب نجد أن أغلب سكانها يفقهون أو ينطقون كلمات من لغات أخرى فلم نعد نتحدث عن لسان عربي بل عن لغة هجينة تجمع بين مفردات ذات جذور عربية وأخرى مستحدثة من الإنتاجات العالمية (تسميات المنتجات الصناعية أو أغاني أو انتاجات ثقافية) لتجد أن لغة الشارع التونسي تختلف من مدينة إلى مدينة وكل حسب امتداده التاريخي أو نشاطه الثقافي والاقتصادي.

وهو ما عبر عنه ميشال فوكو في كتابه سلطة الخطاب على امكانية إقامـة ألسـنـيـة اجــتــمــاعيــة “Sociolinguistiques اي علاقة المنطوقات بمجال نطقها كالمنطوقات التقنية في المصانع.

وهذا ما نلاحظه أيضاً في وسائل الإعلام التي ظهر فيها بعد الثورة توجه نحو تونسة الشاشات والإذاعات وذلك بالتخلي عن التوجه القاضي بترجمة كل مصطلح إلى العربية مهما كان محور الحديث. إذ كان التلفظ بمصطلح أجنبي في حوار اعلامي يعتبر زلة لسان قديما. إلى أن أصبح ديدن الإعلاميين وضيوفهم هو نطق الكلمة كما ظهرت أول مرة ومحاولة تعريفها أو كما تعود المحاور على نطقها وعلى المتابعين القفز بين اللغات لمعرفة عما يتحدث الضيف أو المذيع. وهنا نرى أن التعريب لم يعد أمرا مستحبّا ولا مشروطا لا من الفرد أو الوسيلة الإعلامية وإنما الضروري هو تقديم مادة اعلامية تواكب العصر.

السلطة واكراهات العولمة في الخطاب

 إن التغيير اللغوي في خطاب الإعلام بعد ثورة 2011 بتونس يعتبر دلالة على المنهج الذي كانت تتخذه الدولة بالحفاظ على اللغة العربية كلغة جامعة بين الشعب وكلغة أولى للبلاد. وهو ما يتماشى مع النص التشريعي لذلك كانت الدولة تستعمل المدرسة والمؤسسات العمومية والإعلامية كجمعيات أو جماعات الخطاب “Sociétés de discours” كما عبر عنها فوكو. وبذلك فإن اول لغة يتعلمها الفرد التونسي هي العربية وبها يستخرج وثائقه الرسمية.

 كما يندر ان نسمع لفظا اجنبيا في الخطاب الرسمي للدولة. ومع ذلك نجد سؤال ما علاقة التونسي باللغة العربية مطروحا ولنا في خطاب الرئيس قيس سعيد مثال إذ يعتبره البعض يستعمل خطابا غريبا عن المجتمع التونسي. وهنا تظهر القطيعة بين اللغة العربية والمجتمع الذي طالته يد العولمة وفرضت عليه خطابا مجردا من هويته اللغوية التي من المفترض أن تكون هي الضامن لسيرورته الثقافية. فنجد أن الخطاب اليوم في تونس متعدد اللغات واغرب ما يكون عن العربية فحتى مساعي الدولة للحفاظ عن هذه الهوية نكاد نقول أنها باءت بالفشل. وللدولة الدور الأهم في ذلك إذ يلاحظ المدافعون عن الهوية العربية توجه الإدارات نحو عدم احترام هذا المبدأ بوضع لافتات الطرق أو الشركات والمحلات بلغة اجنبية دون تدخل الدولة لفرض تعريبها. أو من خلال فرض بعض الوثائق باللغة الأجنبية كما أن كل الخدمات من اتصال وصحة ونقل لا تتوفر أحيانا إلا بلغة اجنبية وهو ما يفرض على الفرد التوجه نحو تعلم والتركيز أكثر على اللغات التي تستعملها الدولة لذلك نرى أن التونسي لم يعد يسعى ليتقن ابنه اللغة العربية بقدر سعيه لإتقان لغة اجنبية ليتحول الجدل بذلك من كيف نحافظ على اللغة العربية إلى أي اللغات يجب أن تعتمد كلغة أولى في تونس…

نجاعة الإصدارات العلمية المكتوبة بالعربية في تونس

 ليست هذه الإصدارات عامة موجّهة إلى كلّ الناس ففي نظر العامة يعتبرون ان هذه الإصدارات لا تشملهم في شيء ولا تعنيهم لأنها لم توجه لهم بالكيفية التي تجعل جميع الفئات قادرة على الاطلاع عليها بل يدعونها بإصدارات النخبة. وهو ما يجعل نجاعتها محدودة، خصوصاً متى تحدثنا عن إصدارات العلوم الاجتماعية التي هي بالأساس نتاج من المجتمع لغاية فهمه وإصلاحه متى تطلب الأمر ذلك. أما بالنسبة لمختصين فإن اصدار إنتاج علمي بلغة اجنبية كفيل بجعل الدراسة أكثر شمولية بإخراج النظرية أو الدراسة من مجالها المحلي إلى روضة إنسانية عالمية قادرة على فهم وتحليل المحلي والتأثير فيه وقادرة على الإفادة والاستفادة من تجارب عالمية أخرى من خلال توفيرها للآخر بالكيفية التي يفهمها كما هي.

 

إن التشخيص القائل بأن اللغة العربية في خطر نتيجة تدهور النظام التعليمي وعدم ملاءمته وهوية المجتمع، أو بأن اتجاه الإعلام نحو العامية فاقم الأزمة لتشخيص خاطئ فالحقيقة أن الهوية العربية كغيرها من هويات العالم النامي في خطر جاثم ما لم تنتقل إلى مرحلة الإنتاج والتطوير على جميع الأصعدة. فمن الخطأ أيضاً أن نختزل اللغة كمجرد أداة للتواصل وللإنتاج الثقافي فحسب بل إن كل جزء وكل مجال منتج يخلق عبر اللغة ويخلقها أي أن اللغة هي جزء هام من الحركية الاقتصادية لأي بلد اما لإثراء منتوج محلي أو لتسويقه وفرضه على السوق العالمي. إذ يقول في هذا الصدد فلوريان كولماس ” الكلمات-مثلها مثل العملات المعدنية والورقية- لا تستمد قيمتها ومعناها إلا من الاستعمال الذي يضعه لها هؤلاء الذين يتخذونها وسيلة لتعاملاتهم”.

تماشيا مع الشعار الذي اشتهر به مستشار جمهورية ألمانيا الاتحادية فيلي براندت القائل “إذا كنتُ سأبيع لك، فسأتحدَّث لغتك. لكن إذا كنتُ سأشتري منك، فعليك تحدُّث الألمانية”، نجد عديد الأصوات اليوم تنادي بضرورة إعطاء مجال أكبر لتعلم الإنجليزية بل ويدعون إلى جعل كل مراحل التعليم بهذه اللغة قصد خلق جيل جاهز لدخول السوق العالمية، غير أنّ هذه الأصوات تتناسى موقع اللغة الوطنية كأحد أهمّ عناصر الهوية، أو ربّما ترى أنّ الحديث عنها مؤجّل لحين التحاقنا بركب الدول المنتجة القادرة على فرض هويّتها. لكن في الحقيقة، يضحي اليوم سؤال اللغة أكثر من أيّ وقت مضى راهنا وملحّا، فالأصوات التي تتخّذ موقفا سلبيّا من العربية لم تعد خفية ونراها كامنة في التراجع الكبير للمدارس العمومية، تلك الفضاءات التي تحوي الناشئة والتي من المفترض أن يكون دورها حاسما في الحفاظ على اللغة الوطنية. وبهذا فإن طرق ومناهج الحفاظ على اللغة والهوية بحد ذاتها تحتاج إلى إعادة نظر في خطتها، فالخيار يطرح الآن بين اندثار لغوي وهووي   تبقى معه اللغة العربية لغة دونية ومحقرة من ناطقيها والمتعاملين معها وأما مواجهة الإكراهات الواقعة لصالح حمايتها وإحيائها على المدى البعيد.

المحافظة على العربية وطرق إحيائها

في روايات المستشرقين حديثا وقديما نتبين مدى اعجابهم باللغة العربية ومقدرتها، كقول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون:” استطاعت العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر سواءً كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية أو وصف المشاهدات أو خيالات النفس وأسرارها“.

نتبين أنّ سبب أزمة اللغة العربية في منطقتها ليس فقط نتيجة لازدواجية اللغة في هذه البلدان أو لقصور الناشئة على استيعاب مناهجها وقواعدها وإنما تدهورت بالتخلي عنها وعن قصور الدفاع عنها عبر تشريعات صارمة وفرض رقابة على تطبيقها وأيضاً بسبب تقزيمها من قبل النخب المثقفة التي غالبا يكون لها تأثير في عامة الشعب. فلو أخذنا مثال اليابانيين في احترامهم لتراثهم اللغوي وكيف تمكنوا من بناء دولة مهابة رغم أحادية اللغة عندهم لتبينا أن قوة الدول في قوة هويتها إذ قبلت اليابان كل الشروط بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية إلا شرط إدراج لغة دخيلة عن المجتمع لتضمن بذلك اليوم شعبا على درجة عالية من التقدّم والرقيّ. وهكذا يمكن القول إن اعتماد المنهج الياباني في فرض توحيد اللغة هو المنقذ للعربية. اي أنه علاوة على الجانب التشريعي البحت يجب أن توفر الدولة مجالا حيويا للغة مثلا عبر التشجيع على الإنتاج السمعي البصري والفني بالفصحى وأيضا عبر خلق مؤسسات للترجمة من وإلى العربية لتزويد وتقريب المناهج بكل ما تحتاجه الناشئة والمجتمع والدولة أيضاً. كما يجدر الابتعاد عن اختصار الفصحى في الأعمال الفنية فحسب ودمجها في عجلة إنتاج البلد في المجال السياسي والثقافي والاقتصادي. وهذا ممكن جدا اليوم متى وجدت إرادة وتوجه ممنهج لاستغلال وسائل الإعلام الحديثة، وهو أمر متاح إذ أن العرب بصفة عامة هم الأكثر لجوء لوسائل التواصل الاجتماعي اليوم خصوصاً في حياتهم اليومية.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد العاشر، ديسمبر 2021، ص. ص. 12-14.

للاطلاع على كامل العدد:  https://tiny.cc/hourouf10

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights