يا أساتذة العالم اتحدوا… (الجزء الثاني)

مقال لفيليب ميريو

ترجمة: خالد جبّور

فعلُ التدريس: تطبيقٌ أم تصوّرٌ واستحداث؟

 في الحقيقة، تفرض هذه المهمة نفسها نظرا للضرورة الحيوية التـي يكتسيها التزامُ الأساتذة وشحذ قِواهُم الجماعية للإجابة عن أسئلة الرهانات الحضارية الكونية التـي تواجهنا، شِئنا ذلك أم أبيناه. والحال أنه، وبالرغم من تطوّر المستوى الأكـــاديمي لتوظيف الأساتذة، فإنه لمن الواضح أن هذه الفئة أصبحت تعيش نوعا من البَـلْـتَــرَة [1].

نعتقد أن كـــارل ماركس أطلق اسم البروليتارية على العُمّال، والحال أنَّ هذا الفهمَ فهمٌ ناقص. لقد بيّـن ماركس، بطريقة علمية، كيف أن الطبقة العاملة هي أولى الطبقات المتضرّرة من سيرورة البلترة. فالآلة تفرض قوانينها وَالعمّالُ مُكرَهون على الخضوع لسلطانها المتمدّد [2]. وقد بدأ هذا الامتداد بالهيمنة على نمط عيشهم (تحديد ساعات العمل…)، ليستمر عبــر تقسيم العمل. هذا العمل الذي أصبــح تِبيانُ طبيعتِه مستحيــلا (التــايلوريــة فـي الأزمنـة الحديثة )، عملٌ سمتُه الأساسيةُ هي العزلة المُمَأسَسَة، حيث لا مجال فيه للتعاون والعمل المشترك، والذي يؤدي إلى استحالة استثمار الذكــــاء الإنسانــي من أجل الإبداع فــي العمل. هذا ما يسميه ماركس اغتناء المساهمين (مالكـــي الأسهم) وتفقير (مادي وفكري) المنتِجين المباشرين. هذا النظام الفارض لسلطانه بطريقة ديكتاتورية يستحيل فــي ظله أن يُطوّر الفرد ذاته فـــي شغله، وأن يقدم رأيه الشخصـيَّ ويُبدي نزعة إبداعية فـــي فيه.

 هذه هي الوضعية التــي يُواجهها معظمُ الأساتذة اليوم. وهـي الوضعية عينُها التـي سلط عليها سيلفان غرانسير SYLVAIN GRANDSERRE ما يكفــــي من الضوء فــــي مؤلفه : Un Instit ne Devrait pas (avoir à) Dire ça

هذا الكـــاتب المناضلُ المُقتنعُ تمام الاقتناع بقضيّته، دائمُ الالتزام فــــي”المغامرة الفريدة للّقاء اليومـي مع المتعلمين”. هو كــاتبٌ يعيش بألمٍ تجربةَ ما سماه إيف كـلوت Yves Clot، الطبيب النفسـي المتخصص فــي الأمراض ذات العلاقة بالشغل، بـــ ” Le travail empêché” (العمل المكبوح): يحكــي أنه دائما عاجزٌ عن مواكبة الإجراءات والبروتوكولات السارية: وُجوبُ استعمال الوسائل نفسِها التـــي تستهلك الوقت والطاقة، كــالامتحانات الوطنية، والكُتيّبات الرقمية، أو الإجراءات الرقمية. يقول: ” نحن محاصرون كـلَّ يوم بالجداول والشبكــات والدراسات والتحريّات وبالتقييمات الواجب القيام بها، وبالروابط التــي يجب الاطلاع علـى محتوياتها، وبالإرشادات من كـــل نوع. يجب أيضا تقديم طلبات مكتوبة قانونية للإدارة أو للممرضة أو للمستشار النفســي فــي انتظار جواب يَبقـــى محتَملا نظرا لقلة هؤلاء الأطر، ولأنهم منشغلون بالعديد من الشؤون ” الطارئة”. اليومَ، هناك العديدُ من الأشياء يمكن قضاؤها طيلة اليوم دون ممارسة فعل التدريس فــي الفصل، طالما أن هناك أمورا يمكن (بــل يجب) الاهتمامُ بها خارجَ حجرة الدرس“. أمّا فــي ما يتعلق بالمؤطِّر التربوي الذي يجب أن يكون حاضرا لمواكبة الأشخاص ولتبسيط سُبل اشتغالهم، فهو يعيد ضبط نفسه مع كـــل تغيّر جديد “لملكِـيَـــتِه”، وينفـــي ذاته باستمرار عندما يُطالِب بالامتثال المطلق لآخر المناهج والمراسيم والمذكرات، والتـي فـي الغالب ما تكون مناقضة لما سبقها.”

وهكذا فالأستاذُ يجد نفسَه منجرفا فـي دوّامة من التعليمات والتوجيهات، لدرجة يصبح من العسير عليه أن يركّز جُلَّ انتباهه فــي وظيفته البيداغوجية، هذه الوظيفة التـي أصبحت مخنوقةً بـاشتراطات ومتطلّبات لا تدع مجالا لمبادرات الأستاذ وتفكيـــره الخلاّق. إنَّ المؤسسة، بِـتَـبّـنيها، رسميا، ” لمقاربة [يُقالُ إنّها] مُعقلَنة ومُجرّدة من أي إيديولوجيا، ومرتكزة على التجريب والمعطيات القاطعة الإثبات” [3]، فــإنها تتــرك مجالا شاسعا للاعتقـــاد بـــوجود، لـيـس فــقـــط وســائـــل أبــانت عن فعاليتها بصفة مطلقة فـي حقل التربية، بل أكثر من ذلك، إذْ تَــدَّعــي وُجودَ خوارزميات [4] موضوعة سلفا وجاهزة للتنزيل. وبالتالـي، وأمام سطوة الهواجس المؤسساتية، تصبح مهمةُ الأستاذ مختزلةً فــي التطبيق، حيث يتلقّــى تكوينه فقط فـي طرق تشخيص صعوبات التعلّم لدى المتعلّمين – هذا ما يفسّر هوس الأنظمة بالامتحانات – من أجل تطبيق تدابير بلورها الباحثون وتَـقَــرّرَ تبنّيها بعد مقارنتها بتدابيــر أخرى، تماما كما يحدث فــي مجال صناعة الأدوية. إن هذا لسببٌ من الأسباب الرئيسية التـي أدّت إلى ترسّخ الفكرة القائلة بوجود ممارسات جيدة موحَّـدة، ومتتاليات موضوعة بصفة نهائية، وسيرورة من العمليات أو التوجيهات التــي تُيسِّرُ حلّ مجوعة من المشاكـل المُحدّدَة. وهنا أبيح لنفسـي حقَّ القول إن الأمرَ يتعلقُ بتنزيل ميكانيكــيٍّ لطرق الخوارزمية التقليدية فـي مجال شديد التعقيد، ألا وهو تربية النشأ. غـيـر أنّ هذه الفكرة تتنافــى تمام التّنافــي مع حقل البيداغوجيا حيث كــلُّ وضعية تتميز بتفرّدها [5]، وحيث إن لا شـيءَ يُمكِنُ تنزيلُه بطريقة ميكانيكية، حتــى وإن اسْتَـمَــتْــنا فـي البحث عن التجسيدات الأكثر إقناعا لدحض هذه الفكرة.

وجديرٌ بالــذكر ها هنا أن حتـى أولـئـك الـــذين يدافعون عن الفكرة القائلة بإمكـان وجود “خــوارزمــيـــات بيداغوجية” – مع الكثير من الحيطة والحذر من جانبهم، أكثر من الصحافيين والسياسيين الذين يعتمدون على أبحاثهم – يضربون ألف حساب قبل اقتراح خوارزمية من هذا القبيل! إنهم يكتفون فقط بتقديم بعض النصائح الأوليةِ حول ضرورة الأكـل والنوم الجـيِّــدَين، وحول إثارة فضول المتعلّم أو إشغاله. لهذا انتشرت العناوين الرنّانة: ” الانتباه والطرق الفعالة “، والنصائحُ الغارقةُ فـي العموميات، وفي بعض الأحيان فــي صيغ بلاغية رديئة، كـ ” للإبقاء على الانتباه لابد من أن نُبدِيَ استعدادنا وأن نبتعد عن كــل مصدر للإلهاء”. نجد أيضا مجموعة من الأبحاث العلمية الرصينة الجديّـة التـي لا تنتهــي إلا إلــى سلسلة تعليمات، هــي فـي الجوهـر استرجاعٌ وإعادةُ صياغةٍ لتصورات بيداغوجية منتشرةٍ منذ زمن ليس بالقريــب: “يجب الحرصُ على ضمان التزام الطفل فــي تعلّماته، وعلى أن يستثمر انتباهه أثناء اشتغاله، وأن يُخطِــئ ويجعل من أخطائه موضوعا للتفكير قبل أن تتحول هذه الأخيرة لِعادات سيّئة، وأن يستوعبَ بعض التدابير التـي يجب أن يقوم بها لمواجهة وضعيات متعدّدة، وليُنجِزَ مهاما صعبة…”

هذه الأمورُ كـلُّها هـي – بطبيعة الحال – أمورٌ بالغةُ الأهمية، لكنَّ هذا لا يُعطـي لأي أحد الحقَّ فـي اعتبارها، بأي حال من الأحوال، برنامجا للتدريس. إن المُدرّس هو الذي من المفروض أن يبنـيَ وضعيات تعلّميةً أصيلةً ومُحفّزة، وأن يختار المُحتويات الثقافيةَ التـي تُمكّن المتعلّمين من اكتشاف معارف جديدة، إضافة إلى التمارين التـي هـي وسائل للتدرّب وتثبيت المكتسبات.

ولـمـزيــد من الدقّــة بخصوص السـؤال المصـيــري، سؤال تعلم الــقــراءة، فــيمكن الــقول إن الدرّاسات الـفـوقية-الدولية [6]، هـي أكثـرُ ما نلجأ إليه بحثا عن أفضل الطرق التعليمية. ولكن، إذا أمعنّا النظر جيدا فـي هذا الأمر، نكتشف أنها غيرُ جديرة وغيـرُ قادرة علـى بلورة هذه الطرق وطرحِها. إنّ هذه الدرّاسات، فـي أحسن الأحوال، لا تستطيع أكثر من تنبيهنا إلــى أهمية الـقــراءة، وإلــى ضـــرورة تــخـصـيــص أوقــــات خاصة للعمل تطوير القدرات ذات العلاقة بالكتابة، خصوصا فـي السنوات الأولــى من التّمدرُس. لكنَّ هذا كـلَّه لا يقول شيئا مُحددا عن طبيعة النصوص التـي يمكن استثمارها والآليات البيداغوجية التـي يمكن الاعتماد عليها والصلة الأساسية بين القراءة والكتابة. وبالتالـــي نمرّ، بطريقة تقريبية، من اليقظة “المقطعية “، إلـى فرض ” الطريقة المقطعية “. أمّا فـي ما يخصّ الصيغة الشهيرة المُقدَّمة كقاعدة ذهبية للقراءة، أي صيغة: فهم كتابي = قراءة + فهم شفوي، فهي قاعدة لم تعُد دقيقة. زد على ذلك أنها تترك للمدرّس حريةَ الاشتغال بأنشطة القراءة والتعبير الشفوي بوسائط من اختياره، وتبعا للطريقة التـي يقرّرها هو نفسُه. وتترك له أيضا مسؤولية إيجاد الحلول المناسبة ليستوعب المتعلّمون كيف أنَّ تعلّمَ الكتابة وقواعدها ليس امتحانا مفروضا عليهم لاختبار ردود أفعالهم ومقاومتهم، وإنما هو مغامرةٌ عجيبةٌ مدهشة، مغامرةٌ رائعةٌ لكونها فرصة للتواصل مع الآخر البعيد عن دائرة الأقارب.

وفي هذا الصدد يمكن أن نحلّل الإرشادات التقنيةَ المُقترَحةَ على المدرّسين بفرنسا فـي إطار منظومة EvalAide التـي وضعها المجلس العلمـي للتربية والتـي تُشخّص حاجات كـلِّ متعلّم فـي القراءة والرياضيات عبر امتحانات وطنية مُوحّدَة، وذلك لتمكين المُدرّس من القيام بفعل تربوي موائم لحاجات المتعلم. غير أنّ طرقَ معالجةِ التعثرات التـي تُرصَدُ تبقى فـي جوهرها مرتكزةً على النتيجة الواجب تحصيلها. هذا ناهيك عن أنّ الاختبارات تعتمد على بعض الآليات كأنّها صالحة لكـل سياق ولكـل زمان ومكـان، مع غض الطرف عن انعكـاساتها على أداء المتعلّمين والمُتعلّمات. نقترح على طفل يقرأ ببطء أن يفعل ذلك بطريقة سريعة، والطفلُ الذي لا يستطيع التفريق بين بعض الحروف، نقترح عليه تمارين يُنجزها كــي يصبح قادرا على ذلك وهلم جرا… هذه التمارينُ ليست غيرَ نافعة بشكـل مطلق، لكن لا يجب أن ننسـى أنّ الأستاذَ هو، فـي المقام الأول والأخير، القادرُ على زرع هذه الطرق العلاجية، بالطرق الأنسب لخصوصيات مجموعة قسمه. وذلك معناه أنَّ هذه الطرقَ مَهما بلغت درجةُ عِلميّتها فإنها لا يمكن أن تُحصَر فـي سلسلات من التمارين الفردية.

وفي الأخير وجَب التذكيرُ أننا هنا لا نتعدى تحليل الأعراض، لأننا نُنَحّــِي جانبا السؤال المركزي: سؤال علاقة الطفل بالكتابة وسؤال الـمعنـى الذي يُعطيه هذا الطفل لتعلّماته: لماذا نتعَلّم القراءة والكتابة؟ أمِن أجل أن نخضع لأوامر البالغين وخوض تجربة المدرسة، أم من أجل الوصول إلى تواصل أكثر دقة وأوفر سعادة مع بنــي البشر؟

الفعلُ التربوي: حِسابٌ أّمْ تَحكيم؟

 

فـي الحقيقة، إذا نظرنا إلى قطاع التربية من موقع قريب بما فيه الكفاية، نجد أنّ الفعلَ التربوي لا يمكن أن يكون إطلاقا “سلسلة من التدابير أو التوجيهات التـي تمكّن من معالجة مجموعة من المشاكــل المُحدَّدة”. وهذا من حسن الحظ! فعقلُ الأستاذ ليس آلةً حاسبة، بل هو “جهاز” للتّحكيم. ففـي الحساب، لا وجود إلا لحلّ واحد أوحَد؛ أما فـــي التحكيم فهناك دوما إمكــانات لا تُعدُّ ولا تُحصــى. أوّلا، لأن التحكيمَ يتِمُّ وِفق أهداف ضمنية أو صريحة. فـكُــل أستاذ يحمل مُثُلا تربويةً عن ” القسم الجيد”: إمّا قسمٌ فيه كــل فرد يفعلُ الفعلَ عينَه فــي الوقت نفسِه، أو قسمٌ فيه المتعلمّون يتبادلون فيما بينهم ويتشاركون فيما بينهم؛ إما قسمٌ وظيفةُ المتعلمين فيه وظيفةٌ تطبيقية، أو قسمٌ يُــفكّر فيــه المتعلمون بــطريقة جماعية… أضــف إلـــى ذلــك أنّ مثال هــذا “الــقسم الــجيد” يندرج ضمن تصور عن “المدرسة الجيدة “: إما أنهُ مشروعٌ قائمٌ على الانتقاء أو مؤسسةٌ فـي خدمة المُواطنة. وأخيـــرا، هذا التمثل عــن “المدرسة الجيدة ” يحيلنا – أولا وأخيرا- إلــى مشروع من أجل المجتمع والعالَم: تعزيز حرية الفكر بين أفراد الجماعات المتضامنة، أو دعم وضمان الانتصار الوشيك للهواجس الفردانية الأنانية، في البقاع كــلِّـها ، عبر جعل كـل فرد يتقوقع حول ذاته. وهكذا، فلا أحد يستطيع غـــضَّ الطرف عن الجوانـــب القيمــيّــة فـي مــجال الــتـــربــيـة، لأنها حاضـــرة دوما، واضعة بصمتـها فـــي أبسط إيماءاتنا، وبلا شك، أكثر وضوحا وشفافية فـي أعين متعلّمينا الذين لا يمكن إلا أن يشعروا بها ويستبطنوها.

غير أنَّ التحكيمَ يقتضــــي الاختيارَ أيضا، فـي وقت مُحدّد، بين ممكنات عديدة، الأمرُ الذي يقتضــي بالضرورة مِن الحَكَمِ إبداءَ تقديرِه الخاص وتأويلَ المؤشرات بطريقة آنية لتحديد أو تخيُّل ما يجب قَولُه، أو ما يجب فعلُهُ كـي يكون (يبقـــى) القسمُ بيئةً مواتية للتعلُّمِ. لقد قُلت مرارا وتكرارا إنَّها مسألةُ ” فن – ممارسة “، أو إذا صحَّ تعبير ميشيل سيرتو [7]: فَهمُ ما يقع، وتمحيصُ نتائجه، وتصوُّر بدائل مع تقدير آثارها المحتملة، ثم اختيارُ الوسائل بعد تحديد سُبلِ التدخل.

وبغض النظر عن المظاهر، فإنّ هذا العملَ لا صلةَ له البتة مع تطبيق الخوارزميات الجاهزة، بل العكس تماما. إنه نوعٌ من الحضور فــي الاشتغال وأثنائه، حضورٌ يقترن فيه الاستثمارُ الكـاملُ لما ندرِّسُ مع الجاهزية الكـاملة من أجل أولئك الذين ندرِّسُهُم. إنه القُدرةُ على تِبيان الوقت الذي فيه تتداخلُ الأهدافُ المتباينة، وأين يمكن استغلال الفرص، “هذه اللحظة اللغـز”، حيث مجموعةٌ من المعلومات تُكوِّنُ ترسُّبا، أي معطيات متنوعة متعددة، تتداخل فـي ما بينها وتندمج لتغدوا سندا لقرار يُتّخذُ: “ماري، أتستطيعين شرح ما كُتِبَ فــي السبورة؟” “سأوقف عَرضــي، وسيبحث كـل واحد منكم عن مثال يجسّد ما قُلته للتو.” ” سأشتغل من نعيم ولورا وماييل، فـــي الوقت الذي فيه الآخرون يُنجزون تمرينهم.” “هل بإمكـانكـم البحثُ كتابةً عمّا قلته للتو، ومقارنةُ نتيجة بحثكم مع نتائج زملائكم؟” “الآن، لنوقف النقاش، ولنحاول جميعا وضع خلاصة لما كنا نقوله.” زبدةُ القول، كثيرةٌ هــي القراراتُ البسيطةُ التـي تجعل القسمَ نظاما بيئيا حيّا حيث التعلّم دائما فــي قلب النشاط الجماعــي.

والقدرةُ على اتخاذ هذه القرارات البسيطةِ كـلِّها ليست هبة غامضة المصدرِ ولا بعدا روحانـيّا من أبعاد هذه المهنة. بل العكس ، لأنها التجسيد التام لمهنية المدرّس، وما يجعل منه خبــيــرا فعليا فــي التعلّمات، وهذا ما استطَعْتُ ملاحظتَهُ يوميا أثناء إدارتـي للمعهد الجامعـي لتكوين الأساتذة بأكـاديمية ليون.

إنَّ اتخاذَ مثل هذه القرارات قُدرةٌ قابلةٌ للتكوين وقابلةٌ للتفكير وبالتالـي قابلةٌ للتطوير، إذ ليس هناك فنّ يستطيع الانكماشَ علـى ذاته، وإلاَّ كـان مصيره التيه والتآكـل فــي فوضــى العادات. ولهذا السبب عيـنِه كـلُّ أستاذ بحاجة ماسة إلــى تحليل ممارساته التربوية وتبادل الخبرات والتفكير فــي مهنته بطريقة جماعية طيلة مسيرته المِهْــنِـيَّة. إنه بحاجة جوهرية لتكوين مستمر ذي أسس متينة، يندرج ضمن أوقات عمله، وحيث يمكنه الالتقاء بالباحثين، وفــي الآن ذاته، يصبح أستاذا باحثا، تماما كما يجب على كـل أستاذ أن يكون.

ولتحقيق هذا المبتغـى، لدينا اليوم وسائل كثيرة جدا. من جهتـي، أستعمل شبكـات للقراءة لتحليل التفاعلات البناءة فــي الفعل التربوي. نفهم أيضا كيف يمكن تغييرُ إعادة توجيه المؤشرات بين قطبين سهلي التحديد، من أجل التّمكّن من التحكيم فــي بيئة القسم الحيّة وبين تدخلات عديدة ممكنة. وكمثال لهذه التفاعلات، يمكن أن نأخذ التموقع الشاق بين صرامة البرمجة والانفتاح علـى الأحداث الطارئة. فالبرمجةُ أمرٌ لابد منه ضمانا لحزم المقاربة ولتوفير فضاء “مأمون” للمتعلّمين. إلا أنها قد تبلغ من الصرامة حدّ التحجّر لدرجة أنها قد تصيــر عائقا أمام التفكير فــي كـــل ما يقع بصورة فجائية. ضروريٌّ ضرورةً بالغةً ذلك الانفتاحُ على اللامُتَوَقَّع، وهو ضروريٌّ لأنه يمكّن من تكييف المعارف الأكــاديمية مع الظروف التــي يعيش فـي كنفها المتعلمُ، وضروري لأنه حافزٌ قوي لرغبة التلميذ فـــي التعلّم ولتيسير نقل المعارف خارج المدرسة. هذا الانفتاح ضروريٌّ كما قلنا، للأسباب التـي بَيّنا، إلا أنه قد يغدو، إذا كـان انفتاحا فوضويا، عنصرا مدمّرا للإطار الذي نشتغل داخله، وهكذا يمنع أي محاولة من طرف الأطفال فـي الفهم المعمّق للأشياء والأحداث.

من المفروض إذن أن نُخطّط المجزوءات، أن نجزئها إلى مراحل مختلفة، أن نحدد طرق الاشتغال بدقة… وفي الوقت ذاته، لابد من أن نكون كــلنا أذانا صاغية لردود الفعل الفردية أو الجماعية من طرف المتعلّمين، وأن ننتبه لمؤشرات عدم الفهم أو الفهم المغلوط، وأن نبدي اهتمامنا بالأمثلة والاقتراحات المُقَدَّمة، وأيضا للأحداث التــي قد تنشُب فجأة، للأحداث التــي قد تصلح لتكون وسيلةً يمكن استثمارها فـي عمل مشترك ينخرط فيه الجميع، أيْ فــــي عمل مشترك تُبنـى به التعلّمات وتَتَحَقَّقُ مشاركتها.

فــي الحقيقة، إنها موازنةٌ بالغةُ الصعوبة، ولا يمكن أن تكون مُكتَسَبة بصفة نهائية، بحيث تقتضـي تغيير المؤشّرات باستمرار كَـيْ يكون للقسم معايير اشتغاله وليكون قادرا على التكيّف مع اللامُتَوَقَّع، شأنه فــي ذلك شأن كلّ بيئة حيّة. هذه المُوازنة (بين التخطيط الصارم وتدبير اللامُتَوَقَّع) هي وحدها الكفيلة بجعل المتعلّمين والمتعلّمات جزءا من بروتوكول (تَعلُّمــي- تعليمـي)، فاهمين طُرُق اشتغاله، عارفين متـى يستطيعون التحرّر منه، ووفق أي شروط، وواعين بأهمية هذا البروتوكول ومتـــى وَجَــبَ الامتثال له حرفيا.

وقد نجد موازنةً من نفس النوع، بين دينامية الاكتشاف وثبات فعل الاكتساب. فالأولى تعطي الأولوية لكـــل أشكال البحث والاكتشاف، أما الثاني فيُركزّ أكثر على تتبُّع المكتسبات وهيكــلتها وإدماجها. إن الدينامية تُلِحُّ على الإتمام والصيغ النهائية، وترَكِّزُ على إشراك التلاميذ فــي بناء تعلّماتهم، دون غض الطرف عن إمكــانية تفضيلهم لأسهل الطرق، أسرعها وأكثرها سطحية. أما الثبات فَيَرنو إلى التمَكُّنِ من القدرات، وإعطاء الطابع الرسمــي للتعلّمات، الأمر الذي يحمل في طياته خطورة من نوع آخر، تتمثل فــي إمكــانية تحويل فضاء التعلّم إلــى كتلة جامدة متحجّرة، وجعل فعل التعلّم مجرد اجترار للكــلام.

وهنا أيضا لا مجال للحديث عن خلاصات مثالية، إذ لا وجود إلا لتصحيح وتعديلات وتنقيحات مستمرَّة، هي الضامنة لاتساق التعليم وتماسكه، وهي الكفيلة، في الوقت نفسه، بتكوين ذكـاء المتعلمات والمتعلمين.

لهذا أقول: يجب توسيع حقل الإمكــانات أمام الأستاذ، ومنحه فضاءات يستطيع فيها استثمارَ تقديراته الخاصة. وبعيدا عن كــل “بيداغوجية على طريقة الخوارزميات،” بإمكــان الأساتذة المطالبة بحقهم فــي أن يكونوا مصممين فعليين للتّـعـلمات، صانعين لوضعيات تعلّمية فيها يمحّصون باستمرار معارفَ تخصصاتهم.

هذا – بكــل بساطة – لأن تغيير المؤشرات ليس تأرجحا بين احترام المتعلّم وتقدير المعارف – خلافا لما تسوقه المشاحنات الكلامية الطاغية في وسائل الإعلام، كلما جرى الحديث عن إصلاح المدرسة- بل إن تغييرَ المؤشرات نقيضُ هذا بالضبط، أي عدم القبول بالتقوقع وسط هذا التخيـيـر العبثــي. الأمرُ عكسُ ذلك تماما، أي إنّه البحث الدائم عن التّماس الذي يجعل التلاقـي ( بين التلاميذ والمدرّس والمعارف) ممكنا ومثمرا، مع إثارة رغبة التدريس لدى الأستاذ، وتحفيز رغبة التعلّم عند المتعلّم.

إنها مغامرةٌ عجيبةٌ ومغريةٌ حيث التزامُ الأستاذ لا يمكن أن يؤدي إلــى التزام المتعلّم إلا إذا كـان هذا الالتزام مُرفقا بتقييد لا عنـى عنه: ” سأفعل كل ما بوسعــي لكي تتعلم، لكن أنت من يجب أن تقرر أنك ستتعلم.” وقدّم إيريك بريرا [8] مديحا رائعا للَّـبـاقَــةِ فــي مجال التربية والتعليم، وهو علـى حق تماما إذْ قال: فــي الجمع بين الالتزام والتقييد، هناك بحث عن المسافة الملائمة التـي تُمكِّن المدرس من أن يجيز دون أن يفرض، وأن يدرّب دون أن يُرغِم، وأن يحَفِّز دون أن يحتجز. فـاللباقةُ هــي بدون أدنـى شك أسمـى فضيلة تربوية. ولكن يجب ألاّ ننسـى أنَّ هذه اللّباقة تفلت من قبضة كــلِّ مخطط جامد على شاكــلة الخوارزمية. فهل يمكن تخيّل حاسوب يشتغل بلباقة؟ لا وجود لأي آلة يمكن أن تصاحب كائنا بشريا صغيرا فـي سبيله نحو الحرية، وإنْ كـانت هذه الآلةُ مجهَّزَةً بأحدث برامج الذكــاء الاصطناعــي. 

سيخسر الأساتذة كـلَّ شيء إنْ هم تنازلوا عن حريتهم التربوية. لديهم عالمٌ، عالمُ الغد، عالمٌ ليس جاهزا بل يجب عليهم بناؤه. وأولـى لبنات هذا البناء هي المطالبةُ بحريتهم فــي مجال عملهم.

  يا أساتذة العالم…

 

 

نُشر الجزء الأوّل من هذا المقال بمجلة حروف حرّة، العدد 33، ديسمبر 2023، ص. ص. 10-13. هذا العدد متوفّر على الرابط: http://tiny.cc/hourouf33

نُشر هذا الجزء الثاني من الترجمة في مجلّة حروف حرّة، العدد 35، صيف 2024.

للاطّلاع على كامل العدد: tiny.cc/hourouf35

 

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights