المساواة الشوهاء
|بقلم: سميّة رطبي
لا شك أن الشرخ الذي يتخبط فيه الإنسان داخل المجتمع المتخلف، وهو ذاك الّذي لم يصل بعد إلى استيعاب مكتسبات الحداثة، شرخ عظيم، إذ له أبعاد مختلفة، وزوايا متفرقة، لا تقف عند المستوى النفسي المنعكس في سلوكه، والمتمظهر في أفعاله، فهي ضاربة بجذورها في عمق مشكله الاجتماعي اليومي، الناتج بدوره عن التعقيدات الاقتصادية التي ولجها المجتمع في العالم قاطبة بسبب التطور الرأسمالي وغزوه، هذا التطور الهادف دوما إلى التصنيع والتسويق والتحريض على الاستهلاك.
إلا أن تمظهرَ هذا الشرخ يبدو أكثر وضوحا في وضعية المرأة التي تُعد الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة داخل المجتمع المتخلف، ذلك أن الرجل إذ يعاني من القهر والتسلط الذي يمارس عليه اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، بدرجات متفاوتة حسب الطبقة التي ينتمي إليها، فإن المرأة تواجه القهر نفسَه، بالإضافة إلى قهر الرجل لها، هذا القهر الذي يأخذ صيغ مختلفة ومتنوعة ابتداء من نظرة التعالي والدونية، إلى الاحتقار والتهميش، وأيضا بدرجات متفاوتة حسب الطبقة التي تنتمي إليها.
إن الحركات النسوية وإن كانت قد ناضلت عبر عقود متواصلة لتخليص المرأة من قيد التبعيةِ الذي يأسرها لصالح الرجلِ، وجَعْلها مساويةً له في الحقوق والوجبات ـ وقد نجحت في ذلك داخل البلدان المتقدمة بنسبة كبيرة ـ فإنها لم تستطع بعدُ أن تحقق لها الإنصاف، ذلك أن هذه المساواة في المجتمع المتخلف زادت من حدة القيد الذي يدمي حريتها وكرامتها، فزادت واجباتُها وتناسلت مسؤولياتها.
المرأة هنا والمرأة هناك !
إنّ المساواة بين الرجل والمرأة في الدول المتقدمة قد نبعت من صلب المجتمع ذاته، انطلاقا من الشروط الموضوعية التي تمخض فيها وعي الناس، ونظرتهم لها، فما أن اعْتُرِفَ بها مؤسساتيا، والقبول بموازاتها للرجل، حتى كانت كذلك في عينِ الرجل نفسهِ، فسارع لتقاسمِ الواجبات والمهام معها في شؤون البيت والتربيةِ والمطبخ، متحررا من العادات والتقاليد التي منعته فيما سلف من أن يتدخل في شؤون النساء، لأنه اقتنع بعدم وجود شؤون خاصة بالنساء في جانب المسؤولية والمهام المنوطة بالبيت.
إلا أن هذا الأمر لم ينطبق على المجتمع المتخلف، ذلك أن المساواة التي نزلت نزولا مظليا من فوق، لم تنل ترحيبا ولا قَبُولا لدى المجتمع الملتفّ حول تقاليده وعاداته القديمة، حيث تحتل المرأة دائما الدور الأدنى، ومنبع الشرف أو العار، كما لم تلقى تأييدا من طرف الرجل المتشبع بتلك القيم والأعراف، وبالتالي فما إن ولجت المرأة بعض قطاعات سوق الشغل التي كانت حكرا على الرجل، حتى تُركت لمصيرها وحدها، بعد أن قاست ونالت في البدايات ما قاست من أنواع السخرية والاستهزاء، وما إن خَفَّتْ موجة السخرية هذهِ حتى صارت المرأة ـ خاصة في الطبقة محدودة الدخل ـ تقوم بدورين عسيرين يثقلان كاهلها؛ فهي منقسمة بين واجبها القديم في البيت والأسرة، وعملها المجهد في الورشة والشركة والإدارة…
وعندما نتحدث عن مسألة العمل فنحن لا نقصد أنها جديدة على المرأة، فمن المعلوم أن المرأة عبر أزمنة طويلة كانت تعمل؛ ففي المجتمع الزراعي عملت في الحقل، وغاصت يداها في التراب، وفي المجتمع الصناعي عملت في الورشة وفي المصنع مع الرجل جنبا إلى جنب، بل إن مهامها كانت أشقّ وأكثر تعقيدا من الرجل، بل نتساءل عن عملها بعد أن أُقِّر مبدأُ المساواة في الواجبات والحقوق، وعن مكاسبِها فيه وخسائرِها.
فهذه المساواة التي يزعم المجتمع أنه حققهَا لها قسمتُها ضيزى، فهي وإن سمحت للمرأة بأن تآخي الرجل في أعماله المختلفة، وفي مهامه المعقدة، وفي شؤون يومه الملتوية، والتي تتطلب أحيانا جهدا عضليا خاصا، واعترافا اجتماعيا، فإنها لم تستطع أن تخفف من واجباتها الأسرية الكثيرة، ومعاناتها اليومية اللامتناهية.
من نزع الاعتراف إلى تعميق الاستلاب
ولقد أوجدت المرأة لنفسها في العالم المتخلف مُتّكآت تستند عليها لتصريف قصورها وقلةِ حيلتِها وسط واقع ينكرها، فقديما مثلا وخاصة في المناطق القروية والعشائرية التي يكون فيها منسوب هيمنة الرجل مرتفعا بشكل مجحف، كانت تلتجأ إلى الشعوذة والسحر، وزيارة الأضرحة، لكن بعد التغير السريع الذي طرأ على المجتمعات الإنسانية في العالم، جراء التطور التكنولوجي، وتعدد وسائل الاتصال السمعيّ والبصريّ والذي لم تكن الدول المتخلفة والتابعة اقتصاديا في منأى عنه، تغير المتكأ الذي تتكأ عليه هذه المرأة؛ إذ سرعان ما انتقل سحرها اللامرئي إلى سحر ظاهر يرتكز على هيمنة الصورة والإغراء، فغذت المرأة المستلبة تجد سلواها في افتخارها الزائد بعرض جسدها وراء وابل من الكاميرات، إنه شكل جديد من تصريف القهر والحرمان الذي يخصه بها المجتمع المتخلف.
وقد يقول قائل إن هذا حال المرأة في الغرب أيضا، هذا الغرب الذي استطاع أن يتقدم ويتفوق في كل شيء، لكنني سبق ونبهت إنْ كانت المرأة في المجتمع المتقدم لا تجد حرجا في استمتاعها بحريتها علنا، فإن ذلك نابع من وعي المجتمع ككل بحريتها، وخاصة الرجل، إذ لا يجد عيبا ونقصا إن هي ارتدت لباسا شبه عار مثلا، على عكس المرأة في المجتمع المتخلف، فهي تحاكي المرأةَ الغربيةَ التي تحررت تحررا طبيعيا، بينما يستمر مجتمعها هي بالنظر إليها كعورة، وجسد ناقص حتى وإن هي تدثرت وتحجبت. ولأنها تستبطن هذا النفي الذي لم يتغير منسوبه داخل مجتمعها، مع وعيها بحجم التمييز الذي لم يتزحزح في وعي الأفراد، فإنها تستخدم جسدها كنوع من التعبير عن تمردها على العقلية الصدئة التي لم ينل منها التطور التكنولوجي ولا الاقتصادي، وهكذا تغذو وسيلةُ التحرر أداةَ لمزيد من النفي و الاستلاب.
ذلك أن المرأة في المجتمع المتخلف إذا كانت تعتقد أن حريتها تكمنُ في طريقة لباسها، والتصرف كما تشاء في تغيير سحنتها، وتحديد مواقيتها في الدخول والخروج، فإن كلَّ ذلك وغَيرَهُ لا ينبع من الحرية في ذاتها، بل هو مشروط بإعجاب تسعى إلى نيله، واعتراف تجاهد لانتزاعه، والأنكى من ذلك أن المرأة لا ترى نفسها إلا بعيون الآخر. إنها لا تريد أن تكون قوية إلا في عين الرجل نفسه، مما يكثف اغترابها عن ذاتها، وهنا يكمنُ اعترافَها الضمني اللاوعي بهيمنة الجنس الذكوري، الذي وإن نافق امرأة من هذا النوع، فإنه لا يوليها سوى النكران المبطن، إذ سرعان ما يُدْبِرُ عنها متجها صوب الماضي بحثا عن الأصالة المفقودة المتجلية في انقياد المرأة الطوعي له؛ المرأة الخجول، التي لا تسقط كلمة الرجل أرضا أبدا؛ وهكذا تصير العلاقة بينهما، لا علاقةُ وشائج وأواصر، بل تبادلٌ مستمر لعنف رمزي كامن قد يصير سافرا ماديا في أي لحظة.
ومن ثمة فإن هذا المشهد الذي نراه اليومَ وكل يوم بخصوص وضعيةِ المرأة، لا يعبر عن الإنصاف الذي وجب أن نشملها به، ولا عن الاعتراف الذي يجب أن تحظى به؛ فنحن ساوينا بينها وبين الرجل في تقاسم مهام الرجل فقط، ولم نساو الرجل بها في تقاسم مهامها، الأمر الذي يزيد من استلابها واغترابها عن ذاتها، وبالتالي فحتى المساواة التي تنادي بها فهي شبيهة بالبنية الاجتماعية والسياسية والفكرية في كونها مساواة شوهاء.
نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 25، أفريل 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf25