الفايسبوك والممارسات اللغوية الجديدة

بقلم: سوار الغابري

ارتسمت خارطة جديدة يتحرك فيها العالم حسب غاياته، مع مطلع القرن الحالي. وسمّيت هذه الخارطة بالعولمة. وعليه، لم يعد من الممكن اليوم، الحديث عن هويّة واحدة وثابتة في عالم يعيش غمرة “ثورة تكنولوجيّة”  لوّحت بمسألتين:

 -أوّلها الديمقراطيّة اللّغويّة أو مايعرف بـ دعه يتكلّم « Laissez parler ».

-ثانيها “مجتمعُ الشّفافيّة”. 

تحوّل موقع التواصل الاجتماعي “الفايسبوك”” بفضل العولمة إلى فضاء استراتيجي بالمعنى الهابرماسي ((Jürgen Habermas وسمح للأفراد بالكشف عن هويّاتهم طوعا. وقد تشكّل الفايسبوك في سياق ثقافيّ مخصوص تنامت فيه مظاهر جديدة من العيش الاجتماعي  (sociability)وأنماط من الفردانيّة أفرزتها شبكات التواصل الاجتماعي (Social Media). فأصبحنا اليوم نتحدّث عن عيش “جمعيّ منفرد”. يقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة باريس باتريس فليشي (2002) في هذا الصّدد:

نعيش معا منفصلين « Living together separately»

تعتبر عالمة الاجتماع سارة مونكيبيرج أنّ الفرد كان يعيش الهويّة بصفة داخليّة أي داخل مجاله الخاصّ بعيدا عن الأنظار وهي هويّة العالم الحقيقي، لكنّه مع الفضاء الرقمي صار يعيش هويّة رقميّة بصفة علنيّة وهو ما يعبر عنه اليوم بالانكشاف.

ترى الباحثة الأستراليّة ليليا غرين ((Lelia Green في كتابها   « Technoculture »أنّ كلّ تطوّر تكنولوجيّ عبر التاريخ نابع عن حاجة اجتماعيّة. ومن هنا فإنّ أيّ تغيير يلحق اللّغة، مردّهُ التغيير الّذي يلحق البنى الاجتماعيّة (نعني بالبنيّة شبكة علائقيّة متداخلة العناصر وهذه العناصر تكوّن علاقات مع الكلّ مع المحافظة على وحدتها واستقلالها في نفس الوقت).  يقع الاهتمام بالعلامات في تحليل بنيّة المجتمع.

وبما أنّ اللّغة ممارسة اجتماعيّة مثلما أكّد على ذلك فردينان دي سوسير(( Ferdinand de Saussure  في دروسه الشهيرة المؤسسة لعلم اللّسانيات  « Cours de linguistique générale» فمن الطبيعي أنّ تتأثر بالظّواهر المحيطة بها. وهو ما يقودنا إلى افتراض وجود تجانس بين اللّغة والمجتمع.

تعتبر لغة الفسبكة لغة مولّدة لدلالات جديدة نظرا لكونها نسيجا من الدّوال. وعلى اعتبار أنّ الألفاظ أشبه شيء بكائن حيّ، تنمو بنموّ الحياة الاجتماعية وتتحرّك بتحرّكها، تطرح لغة الفايسبوك رهاناتها على التماسك المجتمعي نظرا لكوّنها أصبحت نظاما يجتاح جميع لغات العالم. وتمكّنت من إخضاع النسيج اللّغوي إلى تغيير عميق.

 

الإجراءات المنهجيّة

إنّنا لا نروم في هذا العمل شيطنة « diabolisation » لغة الميديا الجديدة- الفايسبوك مثالا- ولا نعتبرها تهديدا للّغة العربيّة- كما لا نذهب إلى تقديسها « idéalisation » . إنّما نريد إخضاع هذه اللّغة في دائرة التفكير.

نسعى بمنهجيّة وصفيّة تحليليّة إلى إثارة تساؤلات حول الممارسات اللّغويّة الجديدة التي تشكلت بظهور الفايسبوك. فماهي التغييرات الّتي أوجدها موقع التواصل الاجتماعي “الفايسبوك” على مستوى النسيج اللّغوي؟

إنّ نظريّة الاستخدامات والإشباعات هي النظريّة الأكثر ملاءمة لما نحن بصدد إنجازه. فمن خلالها يتمّ تحقيـــق الوجـــود الافتراضـــي، أي شـعور المسـتخدم بالتواجـد فـي بيئــة افتراضــية تختلــف عــن البيئــة الماديــة الفعليــة الّتــي يتواجد فيها. فما هي ملامح الهويّة الافتراضيّة؟

 

شبكة المفاهيم الرئيسيّة

يمكّننا الضبط المفاهيميّ من حصر مجال البحث وتفادي تداخل المفاهيم. وهو ما أكّده عالم الاجتماع الفرنسيّ “إيميل دوركايم”.

 في مفهوم نظرية الاستخدامات والإشباعات « uses and gratifications theory »

تمكّننا هذه النظريّة من فهم طبيعة استخدام المجتمع الافتراضي لموقع التواصل الاجتماعي “الفايسبوك”. كما تسمح لنا بفهم سلوكات الأفراد وفهم الآليات السوسيولوجية والفردية التي تحدث عند الاستخدام.

الاستخدامات

 نعني بالاستخدامات كلّ نشـاط اجتمــاعي يتحـوّل إلى نشاط عادي بفضـل التكـرار والقـدم. ويشـــير الاســـتخدام إلـــى الممارســــات وإلـــى الســــلوكات والعــــادات والاتجاهــــات.

 الاشباعات

يعتبر الإشباع نوعا من الرضى الّـذي يُحقـق عنـد بلـوغ هدف ما. ويرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الدافع والحاجة. وهو مجمـوع الرغبـات الّتي يتوصل مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي إلى تحقيقها بناء على رغبة ما أو دافع ما. هنـــــاك عــــــدة إشـــــباعات تتحقـــــق لــــــدى الجمهـــــور المســـتخدم للفايسبوك، يمكن إدراجها كالتالي :

 إشباعات معرفيّة /الاكتشاف/الترفيه والتسليّة/الاتصال /التواصل /تحقيـــق الوجـــود الافتراضـــي.

 

 

في مفهوم المجتمع الافتراضي

مصطلح يعود للباحث هوارد راينجولد (Rheingold Howard) وهو أوّل باحــث يتنــاول مفهوم المجتمعات الافتراضية في كتابه (  The Virtual Community ). ويرى راينجولد أنّ تكنولوجيا الاتّصال هي ما يُـبقي المجتمعات المتفاعلة علـى تواصل دائم داخل بيئة تكنولوجية ديناميكيـة.

المجتمع الافتراضي مجتمع يملــك حيــاة افتراضـية موازيـة لحيـاة موجــودة فـي الواقـع. أي أنّه يملك اسما وبيتا وتجـارة ولغة خاصّة به وبالتّالي هويّة تختلف عن الهويّة الموجودة في الواقع. وهوما يعرف بالحياة الثانية أو الحياة الأخرى  « second life».

 

مفهوم الحياة الأخرى « Second Life »

تشرف الذات الافتراضية بصفة إرادية على تنشئة نفسها من خلال التنقل عبر الفضاءات الرقمية في محاولة لبناء ذات أخرى في حياة أخرى أو مايصطلحُ عليه بالحياة الأخرى (Second Life ) .

الممارسات اللّغويّة الجديدة داخل غرف الصّدى (Echos Chamber)  :

تعيش المجتمعات الافتراضيّة داخل فضاءات منغلقة على نفسها تعرف بغرف الصّدى (Echos Chamber) . وهي غرف تصطف داخلها الجماعات الّتي تشترك في نفس الخيارات الافتراضيّة وينعزل عنها بالتالي كلّ من وما لا يتفّق معها. هذه الغرف هي عبارة عن فقاعات وهميّة توحي بالتوافق والانسجام داخل المجموعة الواحدة.

قد أوجدت المجموعة الواحدة لغة تفاهم جديدة فيما بينها تتمثل في جملة من الألفاظ تكتب بحروف لاتينية ورموز وأرقام عوضا عن اللّغة العربية. كما يتم المزج أحيانا بين الاقتراض الّلغويّ والتوليد ممّا خلق نظاما لغويّا جديدا.

 

 ليس لهذه اللّغة- لغة الفسبكة- أسس لغويّة واضحة ولكن عموما يتم استبدال الحروف العربيّة بمقابلها اللاتيني وعند غياب الحرف المقابل يتم تعويضه بالأرقام. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحروف هي ما تنفرد به اللّغة العربيّة عن غيرها ولا وجود لمعادل لها في اللّغات الأخرى. والطريف في هذه الظاهرة أنّ الحروف تتشابه  في الرسم مع الأرقام معكوسة:

حرف العين يقابله رقم (3).

حرف الغين يقابله رقم (8).

حرف الحاء يقابله رقم (7).

حرف الخاء يقابله رقم (5).

حرف الضاد: لا مقابل له.

 الظاء: لا مقابل له.

 

التشفير والاختصار من سمات اللّغة الهجينة « hybrid language »

رغم كونها لغة مشبّعة بالمعاني والرّموز، تلصقُ بلغة “الفسبكة” أحيانا صفة الشذوذ« hybrid»  والاستثناء باعتبارها ممارسات لغويّة لا تستجيب لقواعد النحو والصرف والتركيب ولا لأسس لغويّة واضحة.  وإنّما تستند فقط للتفاعل الحاصل بين مستخدمي الفايسبوك فيما بينهم.

هذا النمط من الكتابة الّذي يشبه عمليّة التشفير« codage » يجمع بين الفصيح والعامية، كما يجمع بين لغات متعدّدة. ولإيصال الرسالة في أسرع وقت يعتمد المستخدم على الاختصارات التّي تحافظ غالب الأحيان على الحرف الأول والأخير مع حذف باقي الحروف الأخرى. وكمثال توضيحيّ نورد الأمثلة التاليّة الّتي تعبّر جميعها عن معنى الضحك:

LOL : كلمة مختصرة من « LAUGHING OUT LOUD » يقع ترجمتها صوتيّا بـ “لوول”.

xD: كلمة مختصرة من « EXTERME DROLL »

إلى جانب تعابير مثل: Mdr/   هههههههه/  خخخخخخخ/hhhh دون أن ننسى تعبيرات الوجه الصامتة الإيموجي  « emoji » المعبّرة عن الضحك.

الكلمة

الممارسة الجديدة

الحمد للّه

إنّ شاء اللّه

كلمة مختصرة من OH MY GOD

كلمة مختصرة من Anytime, Anywhere, Anyplace

Hmd

Nchalah

OMG

A3

جيّد

صباح الخير

B1 – Bien

Bjr- Bonjour

لا شكر على واجب

 

مرحبا

2r1 – De rien

 

Slt- Salut

 

يرى الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبراي   « Régis Debray »أنّ التكنولوجيا  ليست شيئا هامدا أو محايدا فهي تتطوّر وتتفاعل ووجدت يوم أحسّ الناس بالحاجة إلى التفاهم فيما بينهم. وما هذه الممارسات الجديدة إلاّ تعبير عن حاجة الفرد اليوم إلى لغة مختصرة ومشفّرة.

تعتبر اللّغة الوطنيّة من أهمّ مكوّنات الأمّة والدولة، ونعني بالوطنيّة تلك الجوانب التاريخيّة والجغرافيّة والجيوسياسيّة للغّة. ولا يشترط أنّ تكون لغة الاغلبيّة السكان. أمّا اللّغة الرسميّة فينصّ عليها دستور الدّولة وتستعمل هذه اللّغة على مستوى رسميّ. ويتميز المجتمع التونسي بكونه مجتمعا ذا تعدّديّة لسانيّة. ومع تنامي جذوة لغة “الفسبكة” في العشرينية الأخيرة، خُلقت وضعيّة لغويّة جديدة من الضروري دراستها.

 أثبت علم الاجتماع أنّ تباعد المستويّات اللّغوية دليل على تباعد المجتمع وانقسامه. أمّا تقاربها فدليل على تجانس المجتمع وتوازن طبقاته. ألا يؤدّي تغير النسيج اللّغوي-عبر حقن جملة من العبارات الهجينة فيه- إلى  لاتوازن الجماعة اللّغويّة الواحدة؟

توصيات

 ظلّ النظر في علاقة اللّغة بالتكنولوجيا موضوعا موزّعا بين حقول معرفيّة متعدّدة في نطاق الدّراسات اللّسانيّة والسوسيولسانيّة والسياسيّة.

صارت مراقبة ما يدخل على النسيج اللّغوي من مفردات جديدة، ومعرفة أسباب التغيير الحاصل في البنية اللغويّة أمورا ملحة وعاجلة من أجل المحافظة على المدّونة المصطلحيّة والأمن اللّغويّ.

وعليه، نقترح القيام بعمليّتي التأثيل والتأريخ للألفاظ الجديدة. ونعني بالتأثيل ذكر أصل الكلمة ونشأتها وتطور شكلها الصرفي عبر الزمان والرجوع إلى الأصل اللغوي الذي جاءت منه (يوناني لاتيني آرامي…). أمّا  التأريخ  فهو البحث في تطور المعانى للكلمة الواحدة عبر التاريخ: في أي زمن نشأت وما هي الدلالات التي اتخذتها عبر مختلف العصور.

كما نقترح رصد جميع الألفاظ الجديدة التي جاءت بها لغة الفسبكة وتصنيفها كالتالي:

المولّد

هو كل لفظ وقع توليده ودخوله للرصيد المعجمي بعد انقضاء عصر الرواية والفصاحة عند العرب. وكذا قولنا المدرسة، المرطّبات، السيّارة، الدرّاجة، الصاروخ، العجلة، الفضاء…   

 

الفصيح

ما كان قديما عربيّا خالصا. ومن القبائل التي اطمأن اللّغويون إلى عربيّتها وعُدّت لغتها فصيحة: قريش وقيس وهذيل وتميم… ومن الألفاظ الفصيحة؛ أمّ، الحنظل…وقد عُدّت الألفاظ التي وردت في القرآن والسنّة من الفصيح مثل الزكاة والصلاة والصيام…   

المعّرب

ما كان مستمدّا من لغات أخرى غير العربيّة ووقع إخضاعه لمقاييس العربية كقولنا:

فلسفة فهي مستمدّة من اليونانية، والمغازة فهي مستمدّة من الفرنسيّة.

 

الدخيل

 

وما وقع اقتراضه من لغات أخرى غير العربية وبقي على عجمته :كوميديا، كمبيوتر، أنترنات، تراجيديا، تاكسي

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد العاشر، ديسمبر 2021، ص. ص. 15-17.

للاطلاع على كامل العدد:  https://tiny.cc/hourouf10

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights