باعة الهوى السياسي واللامسؤولية التاريخية
|إنّ الظواهر والتفاعلات السياسية التي برزت بعد 14 جانفي ليست في أصلها بالجديدة، فالإسلاميون واليساريون والقوميون والتقدّميون كلها تيارات قديمة التواجد ولكن تعبيراتها وتحركاتها كانت محتشمة لغلوّ القبضة الأمنية وكذلك لأسباب أخرى تكشّفت لنا في الفترة الأخيرة وسنعود على ذكرها لاحقا.
غير أن اللافت للعيان، هو هذا الطرح المتصلب والمتكبر للقناعات السياسية (باستثناء قلة قليلة دشنت قراءات نقدية ومراجعات فكرية قبل هروب الطاغية) الذي يحاول أن يوهم التونسيين، الذين هم في طور بلورة حسهم المواطنيّ، بتفرّد هذا الطرح وبصلوحيته لكل زمان ومكان! إنها محاولة لاستغلال هذا الطّور “الدّاروينيّ” من قبل أغلبية الأحزاب السياسية وذلك بغية زرع قوالبهم الفكرية حتى يتشكل البنيان السياسي للمواطن فالمجتمع حسب توجهاتهم الضيّقة. إنهم باعة الهوى السياسي، بحسّهم الانتهازي وبمراوداتهم المادية والمعنوية، يسعون للالتفاف على مرحلة المراهقة السياسية التي تتميّز بضروب متعددة من الأحاسيس المتضاربة كالضياع الايديولوجي والتّضارب الفكري واللاّتجانس المعرفي… الكل يتربّص ويتوثّب وهنالك من انقضّ استباقيا حتى لا تداهمه مرحلة النضج السياسي وتكشف حقيقته المفزعة وتشهر إفلاسه.
هؤلاء هم باعة الهوى السياسي، وإغراءاتهم تتخذ أشكالا عدّة ومختلفة فالقوميون يراهنون على فكر اهترأ وفقد نضارته وفتنته ولكن في الآن نفسه، يرون في المراهقة السياسية فرصة فريدة لاستمالة المواطنين، وكم من مراهق تعلّق بامرأة جاوزت الأربعين مفتتنا بخبرتها وتجاربها حتى إن كانت فاشلة. أما اليساريون، أو قل أغلبهم حتى لا نضع الجميع في خندق إيديولوجي واحد، فهم كأهل الكهف لم يأت إليهم بعد خبر المراجعات الفكرية العميقة والجذرية على مستوى الحركات اليسارية في جل أصقاع العالم. كما أن اليسار التونسي ما زالت له إشكالية نفسية في التعاطي مع مسألة القطاع الخاص وأصحاب رؤوس الأموال، فالتعاطي متشنج ويفتقد بصفة صارخة للبراغماتية. إن الإغراء اليساريّ يستند إلى عذرية قيميّة كاذبة وغير واقعية ضمّنت نهائيا في أسفار التاريخ. لكن هذه العذرية ساحرة للمراهقين السياسيين وكم من امرأة داعبت شبابا متحمّسا لقصص الحب المثالية ليتهاووا في النهاية على إسفلت الواقع المخيّب للآمال بعد أن آمنوا بحب زائف بل قل بعد أن استميلوا بعذب الكلام.
وأنت تتجول وتسترق النظر لباعة الهوى السياسي، يلفت نظرك ركن التقدّميين الجدد وما أدراك ما التقدمييّون الجدد، هؤلاء يراهنون على آليات الاتّصال المؤثرة ليروّجوا هواهم السياسي ولم يتبقّى لهم سوى إدخال حيزّ التشغيل خدمة “الهاتف الوردي” علّهم يستنفرون كل مراهق سياسي ما زال لم يفتن بعد بسحر توجّهاتهم ذات الألوان البّراقة.
أما الفتنة الكبرى التي بإمكانها تطويع النفوس واحتكار القلوب فهي فتنة الإسلاميّين، لأن الهوى السياسي الذي يروّجون خطير ويمكن أن يتطور لأحاسيس جيّاشة وتعلّق أعمى.
إن إغراء الفكر السياسي الإسلامي يتماهى مع إغراء الفاتنة المتحجّبة التي تبعث لك رسائل استلطاف مشفّرة ومودّة متّصلة مع تطمينات مضمونة الوصول. وأنا أتحدّث عن باعة الهوى السياسي الإسلامي، أستحضر أستاذا جامعيا في العلوم الإنسانية فاعل على طريقته في المخبر الفكري للإسلام السياسي التونسي، حدثني عن زيارته سنوات خلت لطهران وعن فتنة النساء الإيرانيات المتحجّبات اللاتي حسب رأيه (أو قل حسب إحساسه) جعلته في حالة استنفار وتأهّب (والقول قوله) منذ الدقائق الأولى التي اشتبكت فيها العيون. ذاك هو الهوى السياسي الإسلامي غواية متنفذّة ذات سلطان على النّفوس.
الكل إذن يغازل ويمارس الإغراء علّه يستهوي هذا المراهق السياسي والكل يتناسى أننا في مرحلة التأسيس لينغمس في الهرسلة التعبوية والهرولة التنافسية والإسهال الإيديولوجي. الكل يتحدث عن خصال هذا المراهق السّياسيّ، عن أنفته وحبّه المتناهي لوطنه، ويتفادى في الآن نفسه أن ينتقد هذا المراهق السّياسي الّذي يتهيأ له أن لا رادع لسلوكياته المنحرفة من اعتصامات غير مبرّرة وقطع طرق همجّي وغيرها من المغامرات الغير محسوبة التي كلّفت ومازالت تكلّف المجموعة الوطنيّة ما تكلّف. تلك إذن هي مقتضيات ترويج الهوى تستوجب المجاملة والمراودة، إنها اللامسؤولية التاريخية بعينها تتجسّد نصب أعيننا كل يوم وكل ساعة.
وبين باعة الهوى السياسي، عراك وصخب ومدّ وجزر، فتخال أن انتخابات المجلس التأسيسي هي المنتهى وكأن بعدها ستتكلّس ديناميكية الحراك السياسي وتتحدّد نهائيا شاكلة المنظومة السياسية لبلادنا. إنه الهوى السياسي أعمى البصائر وغلّب ثقافة التهافت والانتهازية.
لقد غيّب الهوى السياسي عن ساستنا معطى هاما وأساسيّا يتمثل في أن التعامل مع انتخابات المجلس التأسيسي لا يجب أن يكون حصريا من زاوية المسار التنافسّي الذي يفرز غالبا ومغلوبا، لأن هذه الإنتخابات ستؤسّس لعقد مبادئ جديد في هذا الوطن العزيز. والفعل التأسيسي لا يمكن أن ينطلق فقط من نتائج حسابيّة تكرّس فكرة الأغلبية بل يجب أن ينخرط كذلك في مسار جدليّ يسعى إلى استثمار التقاطعات المشتركة بين مختلف الأطراف دون أن يجعل من الهوس التوافقّي حجر عثرة أمام صياغة الدستور والمرور إلى ديمقراطية مستديمة.
ولكن في ظل هيمنة الهوى السياسي يصبح هذا الطّرح من باب التمنّي العقيم. وأخشى ما أخشاه هو فشل هذا المجلس الموعود في صياغة الدستور الجديد وهو لعمري أمر خطير قد يدشّن لفترة حالكة في تاريخ البلاد.