تاريخ تونس منظورا إليه من أسفل: قراءة من الهامش*
|بقلم: فهمي رمضاني
ليس الهدف من دراسة التاريخ هو تقديم الدروس والعبر، فهي مسألة قد تجاوزها الزمن ربما لأنه لا وجود لدروس بحكم أن السياقات التاريخية تختلف من عصر لآخر ولنفترض جدلا بأن للتاريخ عبر ومواعظ ودروس فلماذا نكرر نفس الأخطاء وكأننا نعيشها للوهلة الأولى؟
يؤكد هيغل على هذه الفكرة، إذ يعتقد أن كل شعب عليه أن يقرر مصيره على ضوء حالته الخاصة وسياقه العام لذلك فإن أهم شيء نتعلمه من علم التاريخ هو الوعي التاريخي، الوعي بالعصر وبما يحركه من أحداث والأهم من ذلك كله هو الوعي بالمنعطفات التاريخية الكبرى والتحولات الحضارية.
يقول نيتشه “التاريخ يهمّ الأحياء لأسباب ثلاثة. أولا لأنهم ناشطون وطامحون ثانيا حريصون على المحافظة على الاشياء وحب التقديس والسبب الثالث لأنهم يتألمون ولا بد لهم من الخلاص”.
لذلك فمن الضروري اليوم تجديد الكتابة التاريخية والإتيان بأفكار جديدة حتى ولو ثبت لاحقا أنها خاطئة، فالمهم هو تحريك السواكن واثارة النقاش وكسر الأطواق والابتعاد عن المسالك المعهودة.
ماهو التاريخ من أسفل ؟
يقول جان كلود شميت (وهو من رواد التاريخ من أسفل وكتب مع جاك لوغوف التاريخ الجديد )”كان التاريخ قبل كل شي عملا تبريريا للتطورات التي شهدتها العقيدة أو العقل والتطورات الذي عرفه النفوذ الملكي أو البرجوازي، لذلك ظل التاريخ يكتب لفترة طويلة من الزمن انطلاقا من المركز”.
أسهمت مدرسة الحوليات في بروز التاريخ من أسفل والخروج من السياجات التي تفرضها الكتابة التاريخية التقليدية، وقد برزت في هذا الإطار المدرسة البريطانية (من خلال مجلة “حاضر وماض”) التي قامت كردة فعل على المدرسة الوضعية التي أقصت “عموم الناس” وركزت على الحدث السياسي والعسكري وأعطت أهمية كبيرة للحدث. من أهم رواد هذا الاتجاه في المدرسة البريطانية نذكر تومبسون وايريك جون هوبسباوم صاحب الكتابات الشهيرة المتعلقة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية في أروبا الغربية في العصر الحديث (عصر الثورة، عصر الامبراطورية، عصر مثير رحلة عمر في القرن العشرين، أزمنة متصدعة).
ظهر هذا الاتجاه أي التاريخ من أسفل بعد الحرب العالمية الثانية حيث بدأ التخلص من “عقدة البطل” وإعادة الاعتبار لدور المهمشين واستعادة مكانتهم كفاعلين صامتين في التاريخ فأصبحت المجتمعات برمتها هي التي تصنع التاريخ وليس القائد. وقد كشف القرن العشرين الذي جاء مثخنا بالجراح عن تراجع فكرة المركز وافتقاد الثقة في مبادئ التنوير وتهاوي فكرة التقدم التي آمن بها الغرب منذ العصور الحديثة. وقد تزامن ذلك مع الإحساس بتزايد إيقاع التاريخ مما جعل المؤرخ يهتم بالواقع الاجتماعي ويساءل التاريخ ويقترب من المجتمع ونبضه. ويعتبر ألبرت سبول أول من استعمل التاريخ من أسفل عند دراسته للثورة الفرنسية التي كان عوام الناس ذواتا فاعلة فيها.
قدم هوبسباوم مفاهيم مرادفة “للتاريخ من أسفل” مثل التاريخ الشعبي والتاريخ القاعدي وتاريخ الأصول وتاريخ كل الناس والتاريخ الراديكالي.
يعتمد مؤرخو “التاريخ من أسفل” على وثائق ومصادر متنوعة لا تقتصر فقط على وثائق الأرشيف والتاريخ الرسمي. في هذا الإطار، يعتبر نص الكاتب الألماني برتولد بريخت المعنون “تساؤلات عامل يقرأ” محاولة لكتابة التاريخ من منظور جديد:
“من بنى طيبة ذات البوابات السبع؟
في الكتب سنجد أسماء الملوك
فهل حمل الملوك كل تلك الاحجار ؟
و بابل التي دمرت مرات عدة من شيدها كل هذه المرات؟
سور الصين؟ روما العظيمة مليئة بأقواس النصر فمن أقامها؟
الاسكندر الشاب غزا الهند فهل كان بمفرده؟
و قيصر انتصر على بلاد الغال فهل كان لوحده؟
و من طبخ وليمة المنتصرين؟
أسئلة كثيرة وتقارير كثيرة؟“
بدأت تظهر كلمة “الهامش” و”الهامشيين” بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد أحداث “ماي 1968″ في ظل الحركات الاحتجاجية التي اكتسحت أوروبا الغربية والتي زعزعت القيم الحضارية المسيحية اليهودية وأسس المجتمعات الصناعية الرأسمالية. وقد هاجمت هذه الاحتجاجات السلوك والأخلاق الجنسية التقليدية ومؤسسة العائلة وأخلاقيات العمل وإيديولوجيا التقدم وقانون الربح والتلوث الصناعي لذلك فإنها تعد نقدا لقيم الحداثة وثورة تطالب بإعادة بناء النظام الاجتماعي. يتم تعريف الهامش بالنسبة إلى المجتمع المهيمن بصورة سلبية :”ليس له مقر دائم” ،”يوجد في كل مكان ” ،”ليس له اعتراف” لا يصلح للدنيا.
مسألة التحقيب
التحقيب هو تأطير حوادث الماضي وتصنيفها وفق حقب تاريخية ذات سمات مشتركة وينبغي أن يكون هناك بين كل حقبة وأخرى قطيعة معرفية (مثل النهضة الأوروبية وتغير العقليات) أو وقائعية (مثل سقوط روما).
ارتبط التحقيب بحرص المؤرخ على رصد القوانين التي تحكم الظواهر التاريخية وتفسر التحولات الحضارية وتدرك سيرورتها. وتتأسس الحقبة على التحولات العظمى التي تغير حياة الناس اليومية وسلوكاتهم الثقافية ومواقفهم من الظواهر.
كيف جرى هذا التحقيب وكيف ننظر إلى تاريخنا؟ أولا يتوجب الاشارة إلى أننا نقسم تاريخنا إلى أربع فترات الفترة الاولى تمتد من تأسيس قرطاج 814 ق.م إلى القدوم العربي الاسلامي وهو التاريخ القديم. الفترة الثانية تبدأ مع القدوم العربي الاسلامي إلى حملة سنان باشا وانتصاب الاتراك بتونس 1547 وهي التاريخ الوسيط. أما الفترة الحديثة فهي تمتد من 1574 إلى 1881تاريخ احتلال تونس وانتصاب الحماية الفرنسية. وأخيرا الحقبة المعاصرة التي تنطلق مع تاريخ الاستعمار الفرنسي وتتواصل إلى اليوم.
هذا التحقيب هو خاضع للتحقيب الأوروبي ومتأثر بالمركزية الأروبية الأمر الذي يجعلنا نقر بأنه لا يتماشى وخصوصية تاريخنا، إذ أنه لا يمكن الحديث عن تاريخ وسيط لدينا، فماذا يتوسط تحديدا؟ في أوروبا يتوسط فترتي ازدهار: الفترة القديمة (الإرث الإغريقي الروماني) والعصور الحديثة (نهضة أوروبا وتزعمها للعالم). أقترح أن يتحول التاريخ الوسيط عندنا إلى تاريخ الاسلام الكلاسيكي أو العهد العربي الإسلامي لتجاوز الإشكاليات المتعلقة بالتحقيب الغربي.
أما ثانيا فإن التحقيب الذي نتبعه يخضع إلى سردية الغازي الخارجي الذي يجلب معه حضارة جديدة للبلاد: 814 قدوم الفينقيين، 647 قدوم العرب، 1574 قدوم الاتراك و1881 قدوم الفرنسيين. الا يعكس هذا استبطان الضعف والخوف من الآخر؟
لماذا لا نخترع تحقيبا آخر خاص بنا؟ أقترح مثلا تحقيبا حسب الشخصيات التي كان لها أثر واضح في تاريخ تونس مثلا:عصر حنبعل، عصر يوغرطة، عصر ابن خلدون، عصر خير الدين ؟ أو عصر المسيحية، عصر الاسلام الكلاسيكي، عصر الطاعون الجارف، عصر تكون الدولة، عصر التحديث… فالتحقيب المعمول به حاليا يساهم أولا في طمس وتغييب الذات التاريخية ودورها في الفعل في التاريخ مما يجعل تاريخنا ممزقا ومقطعا إلى شرائح لا تربط بينها قطائع ابستيمولوجية مثل قطائع الغرب الأروبي. ويبقى التحقيب في النهاية ملفا مفتوحا ومتجددا.
متى يبدأ تاريخ تونس؟ ومع من ؟
السردية الكبرى التي ما انفكت ندرسها في تاريخنا هو 814 ق.م ومجيء عليسة بجلد الثور الشهير وتأسيس قرطاج فوق هضبة بيرصة. يقصي هذا التصور الحضارات التي سبقت الحضور الفينيقي وهي حضارات لا نعلم عنها الكثير إلى حد هذه اللحظة. كما تفتقر جامعاتنا لأقسام تدرس الحضارات التي سبقت الحضارة القرطاجية فلا نجد مختصين في هذا المجال. لذلك يبدو أن الرواية الرسمية تؤكد على أن الفينقيون هم من أدخلوا البلاد في التاريخ والحضارة العالمية.
ثانيا، يمكننا تبين أن الرواية الرسمية تعتبر أن تاريخ تونس يبدأ مع المدينة والحضارة المدينية فتاريخنا متمركز حول المدينة والحواضر الكبرى: قرطاج عاصمة للحضارة البونية، القيروان عاصمة الحضارة العربية الاسلامية، المهدية عاصمة الدولة الفاطمية تونس عاصمة الدولة الحفصية. في حين تم تهميش دور المجالات الطرفية والأرياف والقرى والمدن الأخرى.
ثالثا، يشكل تاريخنا صورا مضخمة لرموز تم انتقائها لخدمة مشاريع الدولة السياسية والايديولوجية، فحنبعل هو بطل وطني منتصر (على الرغم من هزيمته في الحرب البونية الثانية) في حين أن الكاهنة (تم تغييب الاسم وهو دهيا وتعويضه بالكاهنة بكل ما يحمله ذلك من خلفيات وتمثّلات) منهزمة في المخيال على الرغم من انتصارها في عدة معارك.
رابعا، المرجعيات الحضارية التي تم الاستناد إليها لصياغة سرديات الانتماء : المرجعيّة الشرقية القديمة إذ تم الإقرار بأهمية حضارات الشرق القديم ومنها الحضارة الفينيقيّة، ثم المرجعية المتوسطية فتمّ التأكيد على أهمية البعد المتوسطي وتأثيره في تاريخ تونس وحضارتها، ثم أخيرا المرجعيّة العربية الإسلامية التي تبقى من أهم المرجعيات الحضارية والتي تمّ اعتبارها أهمّ بعد مؤثر في التكوين التاريخي للشخصية التونسية. بيد أننا لاحظنا تجاهل العديد من الغيريات الحضارية الأُخرى التي ما انفكّت تُمثل الآخر الكامن فينا مثل البعد الآسيوي والبعد الافريقي.
خامسا، يمكننا الاشارة إلى وجود سردية ازدهار البلاد التونسية عبر كل العصور وفكرة إشعاعها في كل الحقب(ازدهار قرطاج في العهد البوني، ازدهار ولاية أفريكا في العهد الروماني، ازدهار القيروان في العهد الأغلبي، ازدهار تونس في العهد الحفصي).في حين تمّ تجاهل فترات الضعف والانحطاط التي تمثل كذلك جزءا لا يتجزأ من تاريخ البلاد ومرحلة من السيرورة الحضارية والتاريخية مثل العهد البيزنطي والعهد الوندالي والفترة الأخيرة من العهد الروماني وبعض الفترات من العهد الحفصي، لذلك وجب تنسيب فكرة الازدهار والإشعاع حتى لا نساهم في كتابة تاريخ غير موضوعي لا يخدم سوى ذاكرة موجهة وانتقائية هدفها تدريس التاريخ لا كما وقع في الماضي وإنما كحقائق جاهزة لخدمة مشاريع مُعينة. فيصبح بذلك التاريخ تشكيلا لخطاب مُعين حول الماضي وليس إعادة تركيب الماضي في شكل عملية عقلانية ونقدية.
من الإشكاليات الكبرى التي نجدها عند دراسة تاريخنا التونسي هي إشكالية التاريخ والذاكرة. هل كُتب تاريخ تونس تحت ضغط الذاكرة؟ وقبل كل شيء لا بد من التمييز المنهجي بين الذاكرة والتاريخ: فللذاكرة وظيفة شُعورية عاطفية وهي انتقائية تعيد بناء الماضي وفق متطلبات الحاضر في حين أنّ التاريخ عمل علمي ومنهجي وهو عملية بناء معقدة، فكرية نقدية ثم تأليفية.
يبدو أنّ ما تقدمه الروايات الرسمية، لا يعدو أن يكون تمثّلات تاريخية تخدم في معظمها ذاكرة موجهة وانتقائية وظيفتها إعادة تركيب الماضي من وجهة نظر حاجياتها لا وفق الموضوعية التاريخية. فالتركيز مثلا على فكرة ازدهار البلاد التونسية وإشعاعها عبر العصور لا يمكن أن يصب إلا في إطار خدمة ذاكرة جماعية تنتقي ما تراه صالحا.
حالة انفصام مع تاريخنا القديم
يبدو أننا لم نخترع بعد العصور القديمة الخاصة بنا مثلما اخترعها الغرب l’antiquité إذ أننا لا نزال نعتبر الفترة القديمة فترة سابقة للحضور العربي الإسلامي فقط في حين أننا نهمل جوانب عديدة من تاريخنا القديم كالحضور المسيحي والأثر الأركيولوجي الروماني لذلك فإننا نتعامل مع تاريخنا القديم وكأنه فترة غريبة عنا أو هو تاريخ غيريات ليست لها علاقة بالأنا الحضاري. لذلك وجب اعادة الاعتبار للحضارات القديمة من الحضارة القبصية إلى الحضارة القرطاجية مرورا بالرومان والوندال والبيزنطيين وتثمين هذا التنوع والتعدد من الوثنية إلى المسيحية إلى الاسلام.
وقد استثمرت الدولة الوطنية هذه التوجهات في التاريخ القديم مثلا بورقيبة هو يوغرطة الذي انتصر، بن علي يمثل عودة حنبعل…الخ.
الآخر في تاريخنا التونسي
غيّبت الرواية الرسمية دور الأقليات اليهودية والمسيحية في تاريخنا التونسي، الأمر الذي يمنع التأسيس لهوية حضارية مُركّبة تتعدد فيها الروافد وتتنوع فيها التأثيرات ويسهم في تشكّل تصورات ضيّقة وأحادية الجانب نحو الذات التاريخية لا تُحصّن الفرد ضد التوجهات العنصرية والإقصائيّة.
إضافة إلى ذلك يمكننا تجاوز سرديات الامتزاج والانصهار لأن ذلك يؤسس لسرديات قائمة على التجانس والتآلف. نجد ذلك من خلال بيان مدى استيعاب البلاد التونسية للعناصر الوافدة (مجيء الفينيقييّن وانصهارهم مع العنصر المحلي اللوبي لتكوين العنصر البوني، مجيء الرومان وانصهار العنصر المحلي في إطار الرومنة، مجيء العرب وانصهارهم في إطار الحضارة العربية الاسلامية)، وعلى الرغم من وجاهة هذه الفكرة، إلا أننا يمكننا تنسيبها خلال العصور المختلفة. ولا ريب أن تقديم مثل هذه السرديات على أنها حقائق ثابتة في التاريخ، تجعلنا نسقط في مقولات غير علمية، مثل التأكيد اليوم على تجانس المجتمع التونسي في حين أنه تشقّه عديد الاختلافات.
تكثيفا للقول ، يمكننا الاشارة إلى أن التاريخ الرسمي قد شكل صورًا نمطية حول الآخر وفي بعض الأحيان مُعقدة ومتناقضة (مثلا صورة الغرب باعتباره مصدرا لقيم الحداثة ومصدر الاضطهاد الاستعماري في نفس الوقت)، لا تعكس حضور إرادةً واضحة لترسيخ قيم الانفتاح والتسامح، فالآخر إما عدو حرب (الآخر الروماني) أو صليبي (الآخر المسيحي) أو مقاوم للوجود العربي الاسلامي (البربري) أو المستعمر (الفرنسي) في حين لاحظنا استبطانًا واضحًا للأفضلية وهذا ربما ما نجده لدى تودوروف حينما أقرّ بأنّه ” لطالما اعتقد الناس أنهم أفضل من جيرانهم…لذلك نرسم صورة الآخر من خلال إبراز نقاط ضعفنا عليه…إنّه مُشابه أو أدنى منّا…ما حُرم منه قبل كل شيء هو أن يكون مُختلفًا”
قضايا متنوعة في تاريخنا القديم
تتمثل أهم الإشكاليات التي طرحها “عبد الله العروي” في مؤلفه “مجمل تاريخ المغرب” في ضرورة إعادة قراءة تاريخ المغرب بعيدا عن نظريات المستشرقين والقراءات الايديولوجية المتسرعة حيث رح في هذا الإطار أسئلة مهمة من قبيل من أين أتى البربر؟ لغتهم؟ حضارتهم؟ لماذا أطلقت عليهم عدة تسميات البربر، اللوبيون والنوميديون؟ ما هو أصلهم؟ شرقي أم غربي؟ولماذا يصر البعض على الأصل الشرقي للبربر؟أليس في ذلك تبريرا لانغراس الإسلام القادم من الشرق كذلك؟
يبدو أننا لا نعلم كثيرا عن الحضارة البربرية وخصوصياتها ومميزاتها وعن علاقة قرطاج بالعنصر البربري المحلي إذ دائما ما تتم الإشارة إلى انجازات قرطاج والفينقيين وتجاهل دور البربر الحضاري. يؤكد العروي على أن البربر كانوا يستعملون منذ زمان بعيد وقبيل وصول الفيقيون آلات حربية وعربات أي أنهم مروا مبكرا بثورة نيولوتية.
نمر الآن إلى الحقبة القرطاجية التي لا نعلم عنها شيئا سوى ما أخبرنا به الرومان أو الاغريق.كيف أخضعت قرطاج الشعوب المحلية؟ وكيف كانت علاقتها بهم؟ وما هي أهم الثورات التي قامت بها العناصر المحلية ضد قرطاج؟ هل يمكن الحديث عن البونقة زمن قرطاج مثلما نتحدث عن الرومنة زمن الحضور الروماني؟
فترة الحضور العربي الاسلامي: قطيعة أم استمرارية؟
لا نكاد نعرف شيئا عن وقائع الفتح العربي إلا من خلال نصوص عربية متأخرة وفي بعض الأحيان متضاربة مثلما أشار إلى ذلك العروي (روايات ابن عبد الحكم). هل أن الحضور العربي قطيعة أم تواصل؟ ماهي أخبار الفترة الفاصلة بين الحضور البيزنطي وقدوم العرب؟
ماذا عن حملة عبد الله بن سعد بن أبي سرح 27 ه وما يلفها من غموض؟ هل جاء العرب لنشر الإسلام أم لغايات أخرى؟ لكن لماذا قبل العرب مغادرة البلاد بعد لم يبق أمامهم أية معارضة؟ نجد العديد من السرديات التي يتوجب مراجعتها: كيف اندمج البربر في العروبة والاسلام ولم يندمجوا في اللاتينية والمسيحية من قبل؟ يبدو أن صعود الخوارج بنزعتهم الاستقلالية أسهم في خلق المناخ المناسب للحركات الاستقلالية في بلاد المغرب عامة مما فسح المجال لتكون أول نواة لدولة شبه مستقلة وهي الدولة الأغلبية. إذ بيّن بعض الدارسين بأن افريقية خلال العصر الوسيط لديها نزعة استقلالية تتجلى أهم معالمها خلال العهد الفاطمي. وقد اعتمد الفاطميون على الفئات المهمشة مثل البربر وأهل الذمة ونجحوا في اعادة الاعتبار إلى هذه الفئات وعاملوا أهل الذمة معاملة حسنة لكننا نلاحظ تغييب التاريخ الفاطمي والشيعة من التاريخ التونسي.
يعتبر العهد العربي الاسلامي من العهود الحافلة بالثورات والانتفاضات التي صورتها المصادر على أنهم شرذمة من السفلة والأوباش والعصاة والمارقين. ابن أبي زرع مثلا يخصص صفحتين لوصف يوسف بن تاشفين من أعلى رأسه لأخمص قدميه مع ذكر الجزيئات الدقيقة من ملامح وجهه ولم يتعامل بنفس السخاء مع بقية شرائح المجتمع إذ لم يتحدث عن المتشردين والمنبوذين والمتسولين، لذلك فإن كتابات العصر الوسيط هي كتابات التأريخ للسلطان والمؤرخ كان حبيس رؤية البلاط نظرا لوجود الرقابة.
الفترة المعاصرة
على الرغم من تعدد الانتفاضات خلال الفترة المعاصرة إلا أن الفئات المهمشة لم تكن قادرة على فرض نفسها وصوتها بوسائلها الخاصة وكتابة تنتج سردياتها وتمثلاتها عن الدولة والمجتمع. ويبدو أن أغلب الانتفاضات التي قادتها الفئات الشعبية كان مآلها الفشل نذكر هنا انتفاضة 1864،خطرة الفراشيش 1906، المقاومة الشعبية المسلحة اثر انتصاب الحماية الفرنسية، انتفاضة الودارنة(1915-1916)،حركة الصعاليك الشرفاء(1916-1929)،انتفاضة المرازيق، فلاقة زرمدين (1945-1948)،ثورة الخبز جانفي 1984.
غياب تاريخ المرأة وحضور الاستبطان الذكوري
تكشف الرواية الرسمية عن حضور الاستبطان الذكوري من خلال كتابة تاريخ الرجل وتغييب تاريخ المرأة، إذ تمّ ربط حضور المرأة بأدوار سطحية ونمطية لا تعكس دورها الفعلي في التاريخ، فقد ارتبط وجودها إما بأسطورة التأسيس مثل عليسة أو الألوهة المؤنثة (ايزيس، تانيت) أو المرأة المقاومة لعمليات الانتشار الإسلامي مثل الكاهنة أو زوجة للنبي مثل عائشة (لم يتم التطرق إلى دورها السياسي خلال الفتنة الكبرى مثلا).
من هنا نفهم أنه تم النظر إلى المرأة كعُنصر صامت في التاريخ وليس كعنصر فاعل، الأمر الذي يعكس غياب رغبة حقيقية لكتابة تاريخ المرأة الفاعلة في التاريخ وهو بذلك تواصل للاستبطان الذكوري والجندري الذي يُقصي المرأة ويربط دورها فقط بالوظيفة البيولوجية كما يذكر أحد الدراسين.
هل يمكن كتابة تاريخ العبيد في تونس؟
للعبيد دور مهم منذ الحضارة القرطاجية، هذا أمر لا يختلف فيه اثنان إلا أننا قد نقف عاجزين أمام أية محاولة لكتابة تاريخ العبيد نظرا لشح المعلومات التي يمكن انتقائها من المصادر. يتحدث البعض عن نمط انتاج عبودي خلال العهد الأغلبي نظرا لدورهم في تطوير المشهد الفلاحي لذلك كان المغرب الاسلامي أرض رقّ بامتياز حتى أن موسى بن نصير أبهر خلفائه بالمشرق بإمدادهم بعدد كبير من العبيد. لكن على الرغم من ذلك غيبت المصادر أدوراهم في الثورات والانتفاضات خلال العصور القديمة والعهود العربية الاسلامية.
هل أن ثورة 2010-2011حقبة جديدة في تاريخ تونس؟
هل أعلنت ثورة 2010-2011عن بداية عهد جديد؟ هل يمكن اعتبارها من أبرز متغيرات الزمن الراهن بعد حادثتي تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين؟
الفاعلين الأساسيين في هذا الحدث هم المهمشون من أبناء الطبقات الشعبية وهم شباب كانوا تواقين إلى التغيير. هل يمكن اعتبار الثورة التونسية انتقالا من عصر الحرب الباردة إلى عصر الخوف البارد أو الهلع البارد؟
تزامنت الثورة التونسية مع تصاعد خطاب النهايات: نهاية الأيديولوجيات، نهاية المثقف نهاية التاريخ، وبداية حقبة جديدة لم يعد فيها للصراع الطبقي دور مهم وإنما أساسها هو التواصل والتشابك اللذان يجعلان كل شخص يساهم في تغيير الآخر.
الثورة التونسية هي تحول وبداية حقبة جديدة لأنها أبرزت النشطاء الشباب في الساحة التونسية وفي الفضاء العام وأسهمت في خلخلة نظام توزيع الأدوار بين الأعمار المختلفة ونزع امتياز القيادة الذي كان حكرا على الكهول والطاعنين في السن والاطاحة بذوي الأسنان والأشراف وكسر العلاقات العمودية هذا مع تصاعد دور المرأة في عملية التغيير اذ لم يعد الاحتجاج مقتصر على العنصر الذكوري.
خاتمة
لقد غلبت على الرواية الرسمية للتاريخ التونسي التوجهات الأحادية الضيقة والإقصائيّة التي تمنع من خلق الهوية المركّبة والمتعدّدة ولا تُؤسس للاختلاف وإنما للتجانس والتماهي والنمطية ، فالمعارف المُجزّأة والسطحية والموجهة لا يمكن أن تشكل مناعة ضد العديد من الأخطار المحدقة ولا يمكن أن تعترف بالإنسان في تنوعه ولعل مراجعة السرديات الكبرى بمثابة التشخيص الأولي لفهم تناقضات مجتمعنا المعاصر وما يعيشه من تمزقات وكبوات وأزمات تعكس غياب تمثل حقيقي وفعلي للمواطنة وبالتالي فإن مثل هذه المراجعات كفيلة بأن تجعلنا نفهم ذواتنا أكثر وذلك من أجل الاندماج في المجتمع والاعتراف بقيم العيش المشترك.
أهم المراجع
- التيمومي، الهادي، كيف صار التونسيون تونسيين، دار محمد علي الحامي للنشر صفاقس،2015.
- عيسى ، لطفي ، أخبار التونسيين مراجعات في سرديات الانتماء والأصول، دار مسكلياني ، تونس ،2019.
- شميت، جان كلود، ” تاريخ الهامشيين ” ضمن لوغوف، جاك (إشراف) مؤلف جماعي “التاريخ الجديد، ترجمة وتقديم د. محمد الطاهر المنصوري، مراجعة د. عبد الحميد هنية، المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 2007، ص ص 437-473.
- Goody, Jack, le Vol de l’histoire, comment l’Europe a imposé le récit de son passé sur le reste du monde, Paris, éditions Gallimard, 2010.
*نص المحاضرة الّتي قدّمها الكاتب بالسليمانية يوم 18 جوان 2022 في إطار سلسلة المحاضرات ”التاريخ من رحاب الأكاديميات إلى الفضاء العام“ التي تنظمها جمعية تونس الفتاة
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 17، جويلية 2022، ص. ص. 8-11.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf17.tounesaf.org