في ضرورة الاهتمام بعلم الأديان في جامعاتنا التونسية
|بقلم: فهمي رمضاني
تزايد الاهتمام في العقود الأخيرة بالظاهرة الدينية – باعتبارها ظاهرة جديرة بالدراسة لما لها من وشائج عميقة تربطها بالأبعاد الاجتماعية والثقافية للمجتمعات -وذلك منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وصعود العنف الديني بشتى أشكاله وانحسار الفكر التنويري والحداثي وغياب القراءة التاريخية للأديان.
ولئن لاقت الأديان اهتماما واسعا من لدن الجامعات الغربية حيث تم تخصيص مخابر بحث ومراكز دراسات متنوعة ومجلات علمية لدراسة الأديان وتفكيك الظاهرة الدينية وفهمها من خلال الاستناد إلى مناهج حديثة ورائدة تنهل من معين التقارب بين العلوم الانسانية، فإن الجامعات العربية عامة والتونسية خاصة لم تعر هذا الاختصاص أدنى اهتمام إلى حد يومنا هذا، حيث لا توجد أقسام لدراسة الأديان بجامعاتنا، حتّى في كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولا ريب أن تجاهل مثل هذا الاختصاص المهم وغياب إرادة واضحة لمعالجة الظاهرة الدينية، يضعنا أمام أزمات دينية دورية تعيشها مجتمعاتنا كل عشرين سنة تقريبا، هذا بالإضافة إلى تخلف جامعاتنا التي لم تعد حاملة لمشاريع ولا تحركها أحلام جديدة، لذلك أصبحت المدرسة والجامعة تكون أجيالا تعيش في الماضي وتنتج شبابا ينزع نحو تساؤلات تأصيلية.
ظهر علم الأديان كعلم مستقل بالمعنى الحديث خلال القرن التاسع عشر الذي مثل قرن العلوم الانسانية بامتياز وتبلور كاختصاص في الجامعات الغربية. ويعتبر ماكس مولر مؤسس هذا الاختصاص في 1868. تزايدت فيما بعد الأقسام المخصصة لهذا العلم في الجامعات الغربية خاصة الفرنسية والألمانية والانكليزية والأمريكية.
ويعتبر علم الأديان أحد العلوم الإنسانية المعنية بدراسة الأديان دراسة علمية وفق مناهج البحث التي وفرتها العلوم الانسانية ومناهجها. وقد ظهر مصطلح علم الأديان لأول مرة في ترجمة لكلمة ألمانية وهي religions wissenschaft التي استعملها المفكر ماكس مولر سنة 1868 عنوانا لكتابه ثم استعملها الفرنسي إميل بورنوف عالم الأديان الفرنسي. وتكمن أكبر مساهمة لمولر في التأسيس المبكر لعلم الأديان فهو أول من وضع مصطلح “علم الأديان” في كتابه “المدخل إلى علم الأديان”.
وقد تطور علم الأديان خصوصا خلال الربع الثالث من القرن التاسع عشر حيث ابتعد عن النزعة الاعتقادية الايديولوجية المعيارية التي ميزت العصور الوسطى نحو النزعة العلمية الابستمولوجية المخبرية، كما انفتح على بقية العلوم الانسانية القريبة منه كالتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الأساطير، فظهرت بذلك عديد الاختصاصات الأخرى المتفرعة عن علم الأديان مثل تاريخ الأديان المقارن وعلم اجتماع الأديان والأنثروبولوجيا الدينية.
ويكمن أهم إسهام لماكس مولر في أنه جعل تاريخ اللغة وعلمها (الفيلولوجيا أو فقه اللغة) مدخلا لدراسة الأديان علما وتاريخا ومقارنة فحسب رأيه تعد اللغة الأداة الأولى لفهم الأديان وتاريخها وتطورها الحضاري لذلك اعتقد أن اختلاف الأديان متأت من اختلاف اللغات.
إلى جانب دراسات ماكس مولر أسهم كل من رودولف أوتو الذي أنجز أطروحة حول “فهم مارتن لوثر للروح القدس” ومرسيا إلياد الذي كتب مؤلفا ضخما حول تاريخ الأفكار والمعتقدات الدينية في اعتماد مناهج جديدة للبحث مثل تاريخ الأديان وعلم نفس الأديان وعلم اجتماع الأديان.
وقد أصبح اليوم علم الأديان من أهم الاختصاصات التي لها من الأهمية بمكان في الجامعات الغربية، فيكون بذلك الغرب قد قطع شوطا بعيدا في هذا الميدان قلّب فيه التجارب الدينية للبشر من أوجه مختلفة وزوايا عدة وصاغ بشأنها الموسوعات والقواميس والاحصاءات والمؤلفات وخصص لها أقسام الدراسات ومراكز الأبحاث في جامعاته، في مقابل ذلك لا يزال التناول العلمي للظواهر الدينية وللمقدس شبه غائب بجامعاتنا، إذ يستمر التعامل مع التجربة الدينية دون تقدير لعمقها وثرائها وفي إطار إيماني وبمقاربة لا تبتعد كثيرا عن أدب الملل والنحل. لذلك يتوجب علينا اليوم إعادة الاعتبار للظاهرة الدينية ودراستها دراسة علمية وأكاديمية من أجل خلق أجيال متصالحة مع عصرها ومنفتحة على كل الأديان والثقافات والحضارات. فدراسة الأديان تمكننا من الانتقال من المسلمات القدسية الإيمانية التي سادت طيلة عصور الانحطاط إلى الفحص العلمي والدراسة الأكاديمية الرصينة التي تتطلع للإحاطة بالتجربة الدينية للإنسان ودراستها بكل عقلانية وموضوعية.
الأمر الذي لا يمكن تجاهله كذلك هو أن أهمية علم الأديان تكمن في كوننا لا يمكننا فهم الحضارات والثقافات المعاصرة وقيمها إلا إذا فهمنا الأديان التي تنتمي إليها، لذلك فإن دراسة الأديان دراسة منهجية مقارنة وموضوعية تساعد على اكتشاف ذواتنا في ضوء اكتشاف الآخر.
تكثيفا للقول تعتبر دراسة علم الأديان محاولة لفهم الظاهرة الدينية داخل التاريخ والواقع وليس ضمن الإطار اللاهوتي والاعتقادي وذلك من أجل إدراك أن الأديان مترابطة التواتر والتشكل ولها سياق تاريخي يجب البحث عنه وأن الدين في النهاية ليس إلا ظاهرة اجتماعية يفرضها وجود مجتمع إنساني في ظروف معينة وتتطور وفق إطارات وحاجات اجتماعية. والأهم من كل ذلك في اعتقادنا هو أن علم الأديان يعمل على النظر إلى كل الأديان باحترام وباعتبارها ثقافة نوعية للمجتمعات البشرية كانت لها الأدوار الكبرى في صنع ثقافته وحضارته على مدى التاريخ. لذلك فإن علم الأديان علم حيادي قدر الإمكان إذ ينبذ المواجهات الإيديولوجية والعقدية.
ما نستخلصه في النهاية هو ضرورة الاهتمام بعلم الأديان اليوم وتأسيس مراكز بحث متخصصة في الدراسات الدينية أو ما يسميه الأستاذ فوزي البدوي “البولتكنيك للدراسات الدينية “وذلك من أجل خلق تعليم حديث متشبع بقيم الانفتاح والتسامح وينبذ التعصب والعنف الديني ويبتعد عن التساؤلات التأصيلية. ولا ريب أن عدم اهتمام الدولة بالمسألة الدينية وعدم التفكير في حلها بطريقة راديكالية ستجعلنا عرضة لأزمات دينية دورية ولعل ما نعيشه اليوم يثبت صحة ما ذهبنا إليه.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 16، جوان 2022، ص. ص. 10-11.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf16.tounesaf.org