في مفهوم المواطنة

بقلم: مريم مقعدي

يحتل مفهوم المواطنة (la citoyenneté) مكانة مركزية في الفكر الإنساني بشكل عام وفي الفكر الفلسفي السياسي بشكل خاص، فهو يمثل مدار تحليلات الفكر الفلسفي قديما وحديثا. ولعل ما يدعونا اليوم إلى إعادة التفكير في مفهوم المواطنة ليس المشكلات النظرية فقط بل أيضا الإحراجات العملية التي يطرحها الواقع الراهن. ففي أحيان كثيرة نجد الاستبداد يمارس باسم الديمقراطية، كما نجد حقوق الإنسان تُنتهك باسم المواطنة. ممّا يدعونا كذلك إلى إعادة النظر في هذا المفهوم الاستعمالات المتنوعة والمتعددة له، حيث أنّه يستخدم في الفكر السياسي وفي الفلسفة السياسية كما يُستخدم في العلوم السياسية. ولعلنا نجد في هذا الاستخدام المتنوع لمفهوم المواطنة مبررا واضحا لالتباس المفهوم. ومع ذلك سنسعى إلى تحديد دلالته (دلالاته) لا من أجل تأصيلها فحسب وإنما أيضا من أجل التفكير فعليا في مشكلات الاجتماع السياسي.

فكيف تشكّل مفهوم المواطن؟ وما هي المواطنة الحقيقية ؟ وهل أنه من المشروع القول بان المواطنة تُعتبر قيمة تفسيرية وصفية فقط أم أنها أيضا قيمة تقويمية، معيارية ؟

تحيل المواطنة إلى نمط من أنماط الوجود الاجتماعي تنظمه قوانين معينة ثم الاتفاق عليها بين مجموعة بشرية معينة وهذه القوانين هي التي تضمن للأفراد حقوقهم وحرياتهم كما تمنع كل انحراف للسلطة من شأنه أن يحولها إلى تسلط.

وتدل المواطنة أيضا -ولعل هذا هو الأهم- على الأفراد الذين يديرون شؤونهم معا بطريقة تكون فيها العدالة والمساواة مكفولتين. هذا يسمح لنا بالقول أنّ المواطن هو الفرد الذي يشارك في الشأن العام من منطلق الحرية والمسؤولية وتلك المشاركة نطلق عليها حرية سياسية. فالمفهوم المركزي الذي يستفز عقولنا ومواقفنا هنا هو مفهوم المشاركة، أي أن المواطنة يكون أساسها المشاركة في الشأن العام. كما تتأسس على مفهوم الحرية بما هي حق الفرد في الاختيار وفي ألا يمنعه أحد من أن يقوم “بما شاء من أفعال”.

يعود هذا المعنى لمفهوم المواطنة إلى الفلسفة اليونانية، فقد تداول الرواقيون هذا المعنى كما جسّد سقراط حالة المواطن كفرد ملتزم بقوانين دولته وفي نفس الوقت المشارك في هذه القوانين وإن كان الأمر ضمنيًا. ولعلنا نجد لدى أرسطو الصياغة الأوضح لمفهوم المشاركة، حيث يقول في كتاب السياسيات:”الّذي يُدعى مواطنا على الأخص هو من يشترك في مناصب الدولة.”

يمكن أن نفهم إذن من خلال هذا القول أن مفهوم المواطنة يمكن أن يُحدد بارتباطه بجملة من المفاهيم الأخرى المرتبطة بها مثل مفهوم الدولة. فهذه الأخيرة تمثل مجموعة من الأجهزة والمؤسسات تُمارس من خلالها السيادة. غير أننا يجب أن نُشير هنا إلى أن الدولة يجب أن تُوجد من أجل المواطن لا أن يُوجد المواطن من أجل الدولة.

المعنى الآخر الملازم لمفهوم المواطنة هو مفهوم الديمقراطية، وهي الحالة الّتي تكون فيها السيادة للمواطنين دون التمييز بينهم على أساس الجنس، الثروة، المولد… وهكذا يمكن تعريف المواطن على أنه الفرد الّذي يتمتع بحقوق سياسية في ظل دولة ديمقراطية.

لا يعني ما تقدّم أن مفهوم المواطنة قد تحدد بما يكفي من الدقة والوضوح. فالقول بأنّ المواطن هو من يشارك في الشؤون العامة من مطلق الحرية الفردية لا يُوضّح تماما من هو المواطن. ثمة أسئلة يجب تقديم أجوبة عنها من قبيل: ما هي شروط المشاركة في الشأن العام؟ وكيف يتم ذلك؟ كيف يمكن التوفيق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة؟ وبلغة أدق كيف يمكن أن أشارك في الشأن العام دون أن تُنتزع منّي حقوقي وحرياتي الفردية باعتباري إنسان تُحركه الأهواء والميولات الشخصية؟ أي كيف يُشارك المواطن في الشأن العام ويخضع لقوانين الدولة وفي نفس الوقت يبقى حرًّا؟

لقد عبّر أرسطو عن هذا الالتباس بقوله:”يتضّح لنا أنّه ينبغي قبل كل شيء أن نبحث عن المواطن. إنّ الدولة جماعة مواطنين، ومن ثمّ علينا أن نستقصي من يجب أن ندعوه مواطنا ومن هو المواطن إذ يكثر أن يكون المواطن موضوع جدل.”

يمكن أن نفهم إذًا من خلال قول أرسطو أن مفهوم المواطنة تختلف دلالته في الحكم الشعبي ودلالته في حكم الأغلبية. ففي حكم الأغلبية ليس من الضروري أن يُؤخذ قرار كلّ فرد بعين الاعتبار، إذ يتم الاكتفاء بما تتفق عليه الأغلبية. أما في الحكم الشعبي فالأمر يختلف ذلك أنّ كل الأفراد – المواطنين المكونين للدولة يُشاركون فعليًّا في إدارة الشأن العام. هذا المعنى هو ما يُسمّى في الفكر السياسي بالديمقراطية المباشرة. يقول أرسطو في هذا الإطار: ” ندعو مواطن دولة من له في تلك الدولة حق الاشتراك في السلطة الاستشارية وفي السلطة القضائية.”

يُمكن أن نقول هنا أن المواطنة في نظرية أرسطو تقوم على فكرة المشاركة في الشأن العام وفي إدارة شؤون الدولة، إلاّ أنّه بالنسبة إليه لا تُمثِّل الديمقراطية شرطًا ضروريا للمواطنة، فالمواطن بالنسبة إليه يُشارك في “مناصب الدولة” في ظل أي حكم (أرستقراطي، ملكي…).

غير أنّ مفهوم المواطنة يختلف من هذه الناحية مع تمثّل سبينوزا للمواطنة، فهذا الأخير يعتقد أنّ النظام الديمقراطي يُعتبر أمرًا مهما لتحقق مفهوم المواطنة بشكل فعلي. فالنظام الديمقراطي في هذه الحالة هو الذي يتكفل بحماية الحقوق الطبيعية للأفراد. “ففي الدولة الديمقراطية بيّنًا – يقول سبينوزا – أنّ جميع الناس يتفقون على العمل بإرادة مشتركة ولكنهم لا يتفقون على أن يُبدوا آرائهم أو أن يُفكّروا بطريقة واحدة.” فاختلاف الآراء إذن لا يعود إلى نقص أو تباين في عقولهم وإنما يرجع الى كونهم يوجهون عقولهم بطرق مختلفة في ظل نظام ديمقراطي يكفل لهم ذلك.

فإذا كانت حاجة الناس إلى الاجتماع لدى أرسطو هي الّتي تجعلهم مواطنين فإن المواطنة لدى سبينوزا تتأسس على حفظ الحقوق الطبيعية للأفراد. وإنّ شرط تجسّد تلك الحقوق وخاصّة حرية التفكير والتعبير لا يتجسد إلا في ظل نظام حكم ديمقراطي.

لا يبتعد جون لوك كثيرا عن تصور سبينوزا، فهو يرى ايضا ان المواطنة تتأسس على حماية الحقوق الطبيعية للأفراد.

فقد أكد في “رسالتين في الحكم المدني” وفي “رسالة في اللاهوت والسياسة” على أن وظيفة الدولة الاساسية هي حماية حقوق الأفراد. ولعلّ ما نقصده بمفهوم الفرد هنا هو أن أكون مواطنا مشاركا في شؤون الدولة وأن أكون في نفس الوقت فردا حرا يمتلك آراء ومواقف يمكن آن تكون مختلفة عن الآخرين.

بمعنى أدق يمكن أن نقول ان الفضاء الخاص لا يلغي الفضاء العام، فانا أشارك في دواليب الدولة بصفتي مواطنا وفي نفس الوقت أبقى حرا باعتبار أنّ الفضاء السياسي يحفظ لي حقوقي الفردية والطبيعية.

يمكن القول اذن إن المواطنة تقوم على مفهومين أساسيين هما الفردية والاجتماعية. تدل المواطنة على الفرد الحر الذي يتمتع بحقوق ذاتية ويتميز بقدرته على وضع غايات وأهداف يشارك الآخرين من أجل تحقيقها والوصول إليها. كما تعني المواطنة أيضا وجود علاقة قانونية بين الفرد والمجتمع وبين الفرد والدولة. وهكذا تكون المواطنة مشاركة أو تشاركا بين مواطنين أحرار يطلبون غايات مشتركة بعيدا عن كل سلطة استبدادية.

نجد لمفهوم المواطنة كما أشرنا إلى ذلك سابقا استعمالات متعددة، فهو يستعمل في العلوم السياسية بوصفه قيمة تفسيرية لدراسة الأنظمة السياسية ان كانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية (مثلا التنافس الحزبي والاقتراع في الأنظمة الديمقراطية) كما يستعمل مفهوم المواطنة في الخطاب السياسي، الخطاب الذي ينتجه الحاكم ويوظفه في سبيل تحصيل المشروعية السياسية. إذ يقدم من يستحوذ على السلطة ” كمواطن جدير بالثقة ” قادر على إدارة شؤون الدولة بشكل تكون فيه العدالة والديمقراطية مكفولتين ولذلك فهو يطلب ثقة ودعم المحكومين. تفهم المواطنة بهذا المعنى كعلاقة ثقة بين الحاكم والمحكوم من أجل تحقيق المصلحة العامة. لعلنا نجد الصياغة الأوضح عند لوك الصياغة الأوضح لعلاقة الثقة هذه واعتبرها شرطا ضروريا لصلاح الحكم.

الاستعمال الآخر بمفهوم المواطنة هو التوظيف الإيديولوجي لهذا المفهوم، والذي يفقر بدوره المواطنة من معناها الحقيقي. إذ تلعب الايدولوجيا بدورها أدوارا مختلفة يحددها ريكور في ثلاثة مستويات :

المستوى الأول يتمثل في تشويه الواقع وذلك من خلال تقديم صور أخرى مشوهة تخفي حقيقته.

المستوى الثاني يتمثل في تبرير السلطة السياسية القائمة من بواسطة خطاب معين وغالبا ما يكون خطابا إكراهيا، يمكن ان نذكر فن الخطابة على سبيل المثال. وفي هذا الصدد يقول بول ريكور: “لقد كانت العلاقة بين السيطرة السياسية وبين فن الخطابة معروفة منذ القدم. وليس هناك شك ان أفلاطون كان أول من أبرز أن وجود الاستبداد السياسي يحتاج ضرورة إلى رجل يتقن فن الخطابة.”

أما المستوى الثالث فيتمثل في وظيفة الإدماج الاجتماعي، فكل منظومة إيديولوجية إنما يكون من بين أهدافها توفير عناصر هوية جماعية معينة بحيث تبقى موحدة ومتماسكة عبر استحضار أحداث مؤسسة، وتكون تلك الأحداث بدورها مكونة للذاكرة الجماعية.

الدلالة الإيديولوجية للمواطنة هي إذن دلالة سلبية أدت إلى إفراغ المواطنة من معناها الحقيقي بل أكثر من ذلك نقول أنها أدت إلى انعدامها (مثلا التلاعب بإرادة الناخبين وإثارة الخوف والنخوة في صفوفهم) وهكذا تتحول الديمقراطية إلى مجرد وسيلة لممارسة السلطة لا يكون فيها المواطن صاحب القرار والفاعل بل يكون مفعولا به.

 إنّ الفلسفة اليوم مدعوّة إلى إعادة الانخراط في النظر في مفهوم المواطنة بعد ما طبعت به من التباس وغموض أدى إلى إفراغها من قيمتها ومعناها الحقيقي. فالفيلسوف يهدف إلى التأسيس لنمط راق من الوجود الإنساني يكون فيه الإنسان كائنا حرا ومتمتعا بالحقوق التي هو جدير بها، ولهذا فهو لا ينظر إلى المواطنة كمجرد ظاهرة سياسية بل انه يبحث في حقيقتها في إطار بحثه عن الشروط التي يتأسس عليها الاجتماع المدني والسياسي. ولعل هذا ما فعله أفلاطون في جمهوريته عندما سعى إلى إعادة تأسيس المدينة، كما نجد هذا أيضا في كتابه ” السياسة ” (Le politique).

يمكن للخطاب الفلسفي أن يمارس دوره النقدي إزاء الخطاب السياسي وذلك عبر إعادة التأسيس لدلالة جديدة لمفهوم المواطنة تكون فيها الإرادة العامة منبع التشريع كما تكون فيه المصلحة العامة هي المحددة للقوانين ولممارسات السلطة السياسية. غير أن السؤال الذي لا نكف عن طرحه بعد روسو هو: كيف يمكن إيجاد ديمقراطية حقيقية؟ إنها شيء منشود، مثل أعلى للوجود الإنساني لأنها أبعد من أن تكون ملائمة لنزعات البشر وميولاتهم التي غالبا ما تكون أنانية. لذلك يقول روسو ” لو وجد شعب من الآلهة لحكم نفسه ديمقراطيا. أن حكومة كاملة لا تلائم البشر” هكذا نقف إذن على استحالة الديمقراطية وبالتالي على استحالة المواطنة بشكل كامل. فالمواطنة والديمقراطية ليستا واقعا معطى وإنما هما مشروع للتحقق.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 11، جانفي 2022، ص. ص4-5.

للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf11.tounesaf.org

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights