أكسيل هونيث: في الاعتراف، مسارات وأشكال (الجزء الأوّل)

بقلم: إبراهيم خليفي

ليس القول أنّ “المقدمات لا يجب أن تقرأ إلا في النهاية”1إلا تأكيدا على جزئية الفهم الذي تأتي به المقدمات، فإن الخواتيم دائما ما يحصل بها الفهم خالصا ومكتملا عما يقع إغفاله في البداية. ومع ذلك فإنّا نعقد العزم على الإيفاء بما تقتضيه المسألة في بداية طرحها وخاتمتها، فذلك نفسه اعتراف بما تختص به كل من الاثنتين.

ولعل تناول الاعتراف موضوعا للدرس يقتضي في البدء القول به فعلا وعملا، لا مجرد الاكتفاء بالنظر فيه من جهة ما هو قضية فلسفية ذات مسار ضيق لا دلالة له خارج الفلسفي. ومع ذلك فنحن بصدد تتبع الفلسفي فيه لنتبين أثره على مجالات أوسع يتعين فيها الاعتراف أساسا لما هو عملي.

لقد دأبنا من خلال قراءتنا لمختلف النصوص الفلسفية التي تحمل إشارات لما سميناه ”الاعتراف” على مساءلتها على أنها إحالة لبداية تشكل المفهوم، إذ يبدو أنها تضمنت أول أشكال الاعتراف من حيث ما هو سياسي، أخلاقي بالأساس. من خلال تقصينا لهذه المسألة عبر تاريخ الفلسفة عموما، تبين أنّ للاعتراف مسارا فلسفيا كاملا وإن كنا قد عرفناه من جهة كونه قضية تجمع بين الفلسفي، السياسي-الأخلاقي والحقوقي إلّا أنّه مع هونيث تبلور من خلال قراءته التاريخية لمفهوم الاعتراف في فلسفة هيجل انطلاقا من إشكالية الوعي -بين الذات مع ذاتها ثم خارجيا مع الذات الأخرى وبالتالي تعارفها -ثم هابرماس على نحو أكثر توسعا لمسألة التواصل والتفاهم وهما محطتان اساسيتنا في نحت قول للاعتراف كان لهونيث الدور الأخير في تشكيله.

يتعلق بحثنا في المسألة إذا بتقفّي أثر القول في الاعتراف في فلسفة هيجل حيث استحضر منها هونيث أشكاله الأولى، ثم النظر فيما مهّد به هابرماس من خلال فلسفته في التواصل ليستخلص منه التفاهم على أنه شكل الاعتراف ومن ثمة نأتي على خصوصية المسألة كما نحتها فيلسوف الاعتراف أخيرا على نحو يمزج بين الأصالة والإضافة. والأسئلة التي وجهت بحثنا هذا، ترد كآلاتي:

على أي نحو تتحدد منطلقات القول في الاعتراف لدى هيجل باعتباره أساسا يعود إليه هونيث؟ كيف مثل نموذج التفاهم في فلسفة هابرماس إسهاما لنحت قول في الاعتراف لدى هونيث؟ كيف يفهم الاعتراف في فلسفة هونيث؟ وماهي أسسه وأشكاله؟

هيجل أساسا للقول الفلسفي في الاعتراف من خلال نموذج التعارف

مثل مفهوم “فهم حالة البدء” أو فهم المنطلقات عند هيجل أحد أوجه الأهمية التي لمسها هونيث في فلسفة هيجل أثناء محاولته تبيان شروط استحقاق نيل الاعتراف، وعلى عكس هوبس الذي ينطلق من فكرة صراع الكل ضد الكل كأصل في الفعل البشري في معركة انتزاع الاعتراف، يرى هيجل أن الفعل على أساس الوعي هو السبيل لنيل الاعتراف والدافع للصراع من أجله. بمعنى أن هذا الفعل القيمي هو حصيلة مجهود ذهني.

بهذا يجد هيجل مخرجا من فلسفة فيشته حيث غادر معها التحديد التليلوجي للفعل البشري إلى فلسفة الوعي، لعدم قدرة الأولى على تفسير الظواهر السلوكية كما يرى ذلك هونيث.

يقر ريكور أنه» قد تم وضع الفلسفة السياسية لهوبس تحت راية التحدي: فالسؤال المطروح راجع إلى معرفة إن كان بإمكان نظام سياسي أن يقوم على مقتضى أخلاقي يتمتع بالسبق الذي للخوف من الموت العنيف وللحساب العقلي… «2.

بهذا المعنى يمكن القول أنّ المؤهلات الفكرية أصبحت في هذه المرحلة من الفكر الهيجلي المقياس الوحيد في انتزاع الاعتراف مما يجعل من العمل الذهني والمنتوج العقلي المحور في الصراع من أجل الاعتراف. فالعمل العقلي-باعتباره حراك واع-هو الجدير بالاعتراف في اتجاهيه؛ في تحديد ماهية الاعتراف ونيله عكس ما يقره هوبس من إعتبارات مفادها أن الرغبة في الحفاظ على الحياة، وبالتالي نزوع الإنسان إلى القوة والعنف أساسا لانتزاع الاعتراف. يضيف ريكور تعقيبا مؤكدا أنه قد» لاحظ ذلك أكسيل هونيث في فاتحة عمله المخصص للصراع من أجل الاعتراف، أن مفهوم التعارف مأخوذا في بسطه الكلي، يوفي بهذا التحقيق على جهات ثلاث:

أنه يضمن في بادئ الأمر الرابطة بين التفكر الذاتي والتوجه نحو الاخر. فهذا التحديد المتبادل للعلاقة بالذات وللاشتراك بين الذوات، يمثل مبدأ الرد عند هوبس وعلى هذه الثنية للذاتية يستند أساس الفلسفة السياسية التي عرفت أول انتظامها في المقاطع الفلسفية لهيجل في إينا بين 1802 و1807«3.

إنّ الصياغات المختلفة للتعارف عند هيجل تفتح تاريخا للصراع من أجل الاعتراف حافظ على معناه مادامت البنية المؤسسية للاعتراف لا تنفصل فيه عن الحركية السلبية للسيرورة برمتها، وحيث كل مكسب مؤسسي يستجيب إلى تهديد سلبي. ويشبه أن يكون هذا التضايف بين صعيد الظلم وصعيد الاعتراف صورة لمطلب الاعتراف يقوم مقام الخوف من الموت عند هوبس وبصورة أدق إنما هو التضايف الأصلي بين العلاقة بالذات والعلاقة بالغير والذي يعطي التعارف الهيجلي هيئته المفهومية.

يبدو أن اشتغال هيجل على مفهوم الاعتراف كان في البدء منطلقه مساءلة مفهوم الانا في علاقته بذاته في مرحلة اولى كما من جهة علاقته بالأنا الخارجة عنها، بمعنى الذوات الاخرى. انطلاقا من فرضية تحدد العلاقة في البدء على أنها اساسا موجهة بطابع النكران حيث تعود الذات الى ذاتها لتجعل من وجودها مطلقا. ويعلق هابرماس في هذا الصدد في كتابه العلم والتقنية كإيديولوجيا، من الفصل الأول بعنوان ’’ العمل والتفاعل’’ كالاتي:

»…ثانيا الانا هي مباشرة هي فردية السلبية العائدة الى ذاتها، وجود متعين مطلق، يواجه الاخر ويقصيه، شخصية فردية4. يأخذ هيجل منطلقه عن مفهوم الأنا عن ذلك الذي طوره كانط تحت عنوان ”وحدة الإدراك الأصلية ” حيث تكون الأنا متصورة بوصفها»الوحدة الخالصة العائدة إلى ذاتها «5.

من هنا يفهم الطالع التأملي للذات، حيث تتجرد هذه الذات العارفة من كل الموضوعات الخارجية وتحيل ذاتها إلى ذاتها بوصفها موضوعا وحيدا، فيكون الوعي بالذات عملا ذاتيا تتموقع من خلاله هذه الذات موقع الذات الفاعلة.

يعتمد هيجل ديالكتيك الأنا والآخر في إطار التفاعلات الذاتية للروح في حين لا تتواصل الأنا مع ذاتها بوصفها آخرها وإنما أنا مع أنا أخرى بوصفها آخر غير أنا. إن الأنا بوصفها مبدعة لذاتها مباشرة تبقى مسألة لا تتعدى الارتباط بعلاقة التأمل المنعزل، بمعنى أن فكرة الوعي الذاتي لم تنفك عن التعبير عن استحالة تلك العلاقة في الوقت الذي تبني فيه الأنا ذاتها من خلال أنها تعرف نفسها لدى اخر بوصفه متماهيا معها ولهذا فإن ديالكتيك هيجل للوعي الذاتي يتجاوز علاقة التأمل المنعزل لصالح الأفراد اللذين يعرفون ذواتهم، فالوعي الذاتي بالنسبة له لم يعد منطلقا لكونه ناتجا عن خبرة التفاعل الذاتي الذي أتعلم فيه أن أرى نفسي بعيني الذات الأخرى، على أن الوعي بالذات إنما هو مشتق من تشابك المنظورات فيما بينها.

قبل كل شيء، وعلى قاعدة الاعتراف المتبادل، تتكون فكرة الوعي الذاتي الذي يجب أن يكون مثبتا على انعكاس ذاتي في وعي ذات أخرى. لذلك يجيب هيجل عن السؤال حول منطلق هوية الأنا بنظرية الروح: ليس على أنه القاعدة التي تشكل أساس ذاتية الذات في الوعي الذاتي، وإنما الوسيلة التي تتواصل بها أنا مع أنا أخرى، والتي منها كتوسط مطلق تتحول الاثنتان إلى ذاتين عن طريق التبادل. يوجد الوعي إذن كمركز تلتقي فيه الذوات، ذلك أنها لا يمكن أن تكون ذواتا دون أن تتلاقى.

من التفاهم لدى هابرماس نحو أفق أوسع للاعتراف

إذا كان التواصل الاجتماعي الذي يدورفي مجالات الواقع الأخلاقي، السياسي والاقتصادي قد بيّن عجزه عن الإيفاء بمقتضيات التفاهم بين الأفراد لما تعرّض له من عراقيل ما فتئت تفسّر وجود أزمة تعيشها المجتمعات الرأسمالية الغربية منذ العصرالحديث. هذه الأزمة المتعدّدة الوجوه التي أدّت ببعض الفلسفات إلى بلورة نزعات تشاؤميّة رسّختها الأحداث التي انزلقت فيها المجتمعات المعاصرة عبرحروب دامية، ومزيد من الحيف في توزيع الثروات، واغتراب الإنسان المعاصر مما قد انعكس في تصاعد يأس من تحقق المشروع التنويري الذي تجسّد في الكثير من النصوص، من بينه كتابات الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت التي بدا فيها العقل في وضعية ”الكسوف” كما تعمقت أزمة الإنسان المعاصر مع كل ذلك التطور التقني والتكنولوجي حتى أضحى ذا ”بعد واحد”. فإن مشروع هابرماس الفلسفي يتنزّل مقابل ذلك في إطار البحث عن مخرج من الأزمة عن طريق صياغة نظريّة تقوم على مبدأ التواصل. ويمثّل المقام الأمثل للقول وضعاً تنتفي فيه عوائق التواصل جميعاً؛ لذلك يبقى في منزلة المعيار الذي نقيس به مدى معقولية التواصل بين الذوات في المجالات التي تكون فيها الحرية والاستقلالية هي الرهان وفي مقدّمتها الأخلاق والسياسة.  تقوم فلسفة التواصل على مسلمة أخلاقية عبّرت عنه فلسفة كانط كسند أول ومفادها: أن النّاس سواء أفراداً كانوا، أم جماعات، كائنات لايمكن اختزالها في مجرد وسائل؛ إنها غاية، وكل تعامل بين الناس يُسقط هذا المعطى لايعَدّ تواصلاً بالمعنى الأصلي للكلمة، ويُدرَج ضمن المعوّقات.  لذلك ترث فلسفة التواصل من الفلسفة الحديثة الطاقة النقدية لمؤسسات المجتمع والدولة لغاية العمل على ترسيخ قيم الديمقراطية الجذرية في دولة الحقوق وفق نموذج التفاهم البينذاتي.

يتنزل هذا المبدأ (التفاهم) منزلة ثمرة الجهد في إعادة بناء العلاقات بين الأفراد وفق نموذج التواصل المبني على الحوار وأخلاقيات النقاش، فيكون التفاهم الشكل الأمثل للخروج من أزمة الإنسان المعاصر والحد من العنف والصراعات التي تعبر عن التنكر للحق الفردي والجماعي وسلب الحريات.

يتسع على هذا النحو أفق التواصل ويتنزل الاعتراف – وإن لم يخصص له هابرماس حيزا للحديث فيه كمفهوم تقني خاص- وهو ما ارتأينا فيه جهد أكسيل هونيث في الاشتغال عليه انطلاقا من نموذج التفاهم في فلسفة هابرماس. فيكون بذلك منطلقا لهونيث ليقوم بتأويله وفق نموذج الصراع من أجل الاعتراف  في وجه مشروعه الفلسفي الأخلاقي في اتجاه تشخيص أشكال الاعتراف المشوّه الذي  يلعب دورا إيديولوجيّا والغاية من ذلك تعميق المفهوم.

يُقرّ هونيث بأنّ مفهوم الاعتراف قد لعب على الدوام دورا أساسا في صلب الفلسفة العمليّة؛ إذ كان الفلاسفة منذ القديم على اتفاق بأنّ »الطيبين من الناس هم فقط أولئك الذين يحصلون عبر أعمالهم الخيّرة في المدينة التقدير6  «ويرى أيضاً أن الاحترام معنى من معاني الاعتراف. ومع ذلك فهو يشير إلى أنّ هذا المفهوم لم يرق إلى مستوى المفهوم المركزي إلا مع الفيلسوف الشاب هيجل الذي جعله أساسا لنسق إيتيقي. لذلك فقد ركّز جزءًا من عمله النظري على البحث داخل هذه الفلسفة عن الطاقة التي يمكن أن تدفع من جديد العقل التواصلي نحو التحقق في الواقع »لما نكفّ عن تأويل العمل التواصلي وفق نموذج التفاهم البينذاتي، ونؤوّله وفق نموذج الصراع من أجل الاعتراف، تتضح معالم عقل أخلاقي يرسم طريقه عبر الواقع الاجتماعي الذي ينظم اعتراف قائمة وضرورات اعتراف غير ملباة«7  وعلى ضوء هذا التمشّي المنهجي تصبح المهمّة الأوليّة للفلسفة الاجتماعية مع هونيث تعريف وتحليل مسار تطور المجتمع التي تبدو تطوّرات مُجهَضة أواختلالات،»أي أمراضاً تخصّ ما هو اجتماعي8«.

الهوامش

1Gilles Deleuze, Différence et répétition, Paris, PUF, 1972, p. 1.

2بول ريكور، سيرة الاعتراف، ثلاث دراسات، ترجمة فتحي إنقزو، تونس، دار سيانترا-المركز الوطني للترجمة، 2010، ص 221.

3نفس المصدر، ص 221.

4يورغن هابرماس، العلم والتقنية كإيديولوجيا، بيروت، منشورات الجمل، 2003، ص 9.

5 نفس المصدر، ص 10.

6Axel Honneth, « Reconnaissance », in Monique Canto-Sperber  (Dir.), Dictionnaire d’éthique et de Philosophie Morale, Paris, PUF, 1997. pp. 1272 – 1278

7Axel Honneth, La Société du Mépris, Paris, Editions la Découverte, 2006. p.36 

8Ibid p.40

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 14، مارس 2022، ص. ص. 5-7.

للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf14.tounesaf.org

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights