المجموعة القصصيّة ”عاشر هنّ“: منحرف نرجسي أمام تسع مرايا

بقلم: حمزة عمر

عادة ما تطرح الأعمال الأدبية المشتركة إشكالا. فرغم أنّ متنا واحدا يضمّها، لا تعدو أن تكون في الغالب جملة من الأعمال المتعدّدة بتعدّد كتّابها، بتجاربهم وشخصياتهم المتباينة، دون أن يكون لجمعها من غاية فنيّة واضحة إذ تطرح طيفا من النصوص متباعدة المرمى، ونادرا ما يكون لهذا الجمع من هدف غير ذاك الاقتصادي/التجاري البحت.

تكذّب المجموعة القصصيّة “عاشر هنّ” بجلاء هذا التعميم. إذ أنّ قصصها التسع رصّفت بعناية متناهية جعلت من جميع النصوص قطعا من نفس الأحجية… أحجية الطاهر الظاهري، أستاذ التاريخ والجغرافيا الّذي قفز إلى صدارة المشهد الإعلامي بعد الثورة. تروي كلّ قصّة جانبا من شخصيّة هذا الإعلامي من منظور علاقته بإحدى النساء اللاتي تحمل عناوين القصص أسماءهنّ.

يبلغ التناسق بين القصص حدّا يجعل من الصعب على القارئ أن يدرك أنّ كلّ قصّة لكاتبة مختلفة. صحيح أنّ الأسلوب يختلف من نصّ إلى آخر، بل أنّ ضمائر السرد نفسها تتغيّر، وصحيح كذلك أنّ لغة الحوار تتنوّع كلّ مرّة من الفصحى إلى العامية التونسية إلى الفرنسية، لكنّ كلّ قصّة تبنى على الأسس الّتي وضعتها سابقتها ولا تهدم منها شيئا. يتواصل هذا البناء المتقن إلى حدود النهاية التّي تتقاطع فيها جميع القصص لترسم صورة متكاملة، على تعقيدها، لشخصيّة الطاهر الظاهري وتسير به إلى مآله الّذي يبدو محتوما.

لا يمكننا أن نمنع أنفسنا من التساؤل إن كان الطاهر الظاهري شخصيّة حقيقيّة. لا شكّ أنّ الملامح الظاهرة منه موجودة في العديد من الوجوه التي عرفناها في السنوات العشر الأخيرة: محلّل سياسي ذلق اللسان، شديد الوطأة على محاوريه، يتحدّث بثقة من يمتلك الحقيقة المطلقة، وهو مع ذلك يخفي ثقوبا لا تعدّ من العُقد النفسيّة. تذكر النصوص أشخاصا يحيلون دون ريب إلى شخصيات معروفة، مثل عبد الحقّ منشّط برنامج “الكريم يسامح خوه”، كما أنّ الشخصيات التسع المجتمعات للكتابة لا يمكن إلّا أن يذكّر بصاحبات المجموعة القصصية أنفسهنّ. لا نظنّ هذا التشابه إلّا من باب الإيهام، إذ لا نخال الطاهر إلّا تجسيما لمظاهر تلك الذكورة السامة شديدة الحضور في مجتمعنا. هو ذلك “المنحرف النرجسي” الّذي لا يبالي بآثار أعماله، والّذي يجد نفسه في خاتمة المطاف محاصرا من قبل النساء اللّاتي آذاهنّ، فتطلق كلّ منهنّ عليه رصاصتها.

يختلّ التكامل بين القصص في بعض الأحيان. فرغم أنّ ملامح شخصيّة الطاهر تنجلي أمامنا شيئا فشيئا، نفاجأ مثلا في قصّة “يسرى” بصورة مغايرة تماما لهذه الملامح، بل أنّنا نجده، من ناحية الوقائع، مورّطا في علاقة زوجية لا نعلمها ولا يشار إليها لا سابقا ولا لاحقا. ورغم أنّ القصّة الختامية تحاول أن تجد نوعا من “التخريجة” لهذا الاختلال، إلّا أنّها لا تبدو مقنعة. كما أنّ تعدّد لغات الحوار يسبّب نوعا من الإزعاج للقارئ. ربّما يمكن تبرير ذلك بتعدّد الشخصيات ومرجعياتها، إلّا أنّنا نرجّح أن توحيدها كان ليجعل القصص التسع أكثر انسجاما. أمّا النهاية، فهي أقرب إلى أن تكون نوعا من العاقبة الأخلاقية الّتي تبسّط إلى حدّ ما ما تتميّز به شخصيّة الطاهر من تعقيد لُخّص في مفهوم “المنحرف النرجسي”   وهو مفهوم، على شيوع استعماله، لا يخلو من ضبابيّة ويمكن أن يجمع في طيّاته عديد المتناقضات1.

لا تغضّ هذه التفاصيل من متعة مطالعة “عاشر هنّ” كعمل قصصي جادّ وحسن التنسيق والصياغة. والحقيقة أنّ التصوّر الّذي بني عليه يستحقّ لوحده  الاهتمام: تقديم شخصيّة مركّبة من وجهات نظر تسع شخصيّات عرفنه. إنّ بناء العمل بأسره على تصوّر موحّد يجعل من المجموعة القصصية كلّا متجانسا، يتجاوز في فرادته مجموع شخصيّات كاتباته، وهو ما يقلّ نظيره في المجاميع المشتركة، بل أنّنا لا نكاد نجد مثل هذا التصوّر الموحّد حتّى في المجموعات القصصية التّي يؤلّفها كاتب بمفرده.

عاشر هنّ“ مجموعة قصصية صادرة عن دار ”نقوش عربية“ سنة 2022، ساهمت في كتابتها كلّ من حنان جنّان وهدى المجدوب وشهرزاد عليّة ونسرين المؤدّب وآمال مختار ويلدز عطيّة ونادية الذوّادي وإيمان النفزاوي ومهيبة شاكر.

 

1حول ضبابية مفهوم المنحرف النرجسي، انظر: https://www.lemonde.fr/idees/article/2014/03/04/les-pervers-narcissiques-ou-le-triomphe-d-un-concept-flou_4372944_3232.html

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 14، مارس 2022، ص. 13.

للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf14.tounesaf.org

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights