هشام جعيّط في آخر كتبه متدبّرا للتاريخ والدين
|
بقلم: حمزة عمر
ظلّ المؤرّخ الراحل هشام جعيّط (1935-2021) محافظا على نسق انتاجه الغزير إلى آخر أيّامه، إذ أنّ آخر كتبه صدر بالفرنسية أربعة أشهر قبل وفاته، وتحديدا في فيفري 2021 وهو المعنون: “تدبّر التاريخ، تدبّر الدين” (Penser l’Histoire, Penser la Religion) الذي نشرته دار سراس في 174 صفحة.
ينقسم الكتاب إلى قسمين غير متساويين، أولاهما المعنون “مشكلتان في التاريخ” (ص.ص. 17-48) ويعرض فيه الكاتب إلى الهجرات الكبرى في التاريخ البشري مؤكّدا على الطابع السلمي لأغلبها ومعتبرا الطابع العنيف لهجرة الشعوب الهندو-أوروبية إلى الهند بمثابة الاستثناء. كما يشير جعيّط إلى التمايز في العالم القديم بين الشرق والغرب، مقدّما تقسيما طريفا إذ أنّ الغرب عنده لا يقف في أوروبا بل يتجاوزه ليضمّ الهلال الخصيب وإيران وأفغانستان وحتّى الهند (ص. 39). أمّا الشرق، فهو ما يُصطلح على تسميته بالشرق الأقصى: الصين وجنوب شرق آسيا واليابان، وهو حسب تعبير الكاتب “عالم في ذاته” (ص. 39).
أمّا القسم الثاني فهو ذاك المعنون “تدبّر الدين ويمتدّ على ما يزيد عن مائة صفحة. ونجد في هذا القسم إبحارا في ديانات العالم قبل الحديث يتجاوز الديانات التوحيدية الثلاثة، إذ نجد تحليلا للغنوصية وأثرها على المسيحية بالأساس إضافة إلى الاعتناء بديانات الهند. ولا يقتصر التحليل على الأرثوذكسيات إذ يعرض إلى الهرطقات الّتي عرفتها مختلف الأديان. ويبرز جعيّط تطوّر النظرة إلى الدين في الفكر الحديث، مركّزا بالأساس على دور هيغل ومن تلاه في ترسيخ فلسفة الدين ومبرزا تطوّر الفكر التاريخي في مقاربة الأديان (مع ماكس فيبر خصوصا) خاتما تحليله بقضيّة العلمنة.
إضافة إلى القسمين المذكورين، يشتمل الكتاب على ملحق بعنوان “وجاهة وحدود الأديان التوحيدية”، وهو نصّ محاضرة ألقاها الكاتب في ملتقى “الأديان التوحيدية والحداثات” سنة 1995 بقرطاج.
نجد في الكتاب رجوعا إلى أفكار سبق أن طرحها هشام جعيّط في مؤلّفاته السابقة، لا سيّما ما تعلّق بتاريخ الإسلام، من ذلك فكرة الأمصار الّتي أنشأها الفاتحون المسلمون خارج حدود شبه الجزيرة العربية كمراكز حضارية يتمّ فيها التفاعل مع الدين الجديد على نحو يحاكي نموذج المدينة في عهد الرسول (ص. ص. 78-80). لكنّنا نجد كذلك انفتاحا على عوالم غير معروفة بما يكفي للقارئ في بلادنا، ونعني بذلك ثقافتي الصين والهند، هو ما يفسّره الكاتب بتنوّع قراءاته حولهما في الأعوام الأخيرة ذاكرا: “أدّت أعباء التقدّم في السنّ إلى أن تصير هذه الكتب رفاقي، مؤنسة لوحدتي” (ص. 10).
لئن كان الجزء التاريخي من الكتاب مبنيّا بشكل منهجي يسهل تتبعّه، فإنّنا نلاحظ في الجزء الفلسفي انتقالا إلى ما يُشبه التداعي الحرّ للأفكار، إذ يمضي بنا الكاتب في رحلة متعدّدة الوجهات بين أديان مختلفة وفلسفات متباينة في مقارباتها للمسألة الدينيّة. ولئن كانت هذه الرحلة تكشف عن تبحّر كبير في معرفة أدقّ خصائص هذه الفلسفات والأديان، فإنّ المطالعة تضحي عسيرة على القارئ غير المتخصّص أو حتّى على المتخصّصين، فلا العلم بالتاريخ وحده ولا العلم بالفلسفة وحدها يكفيان للتعمّق في فهم الكتاب، بما أنّ جعيّط يراوح بينهما دون أن يقدّم، في أغلب الأحيان، عرضا ولو موجزا للأفكار المُتناولة، فما لم يكن القارئ مطّلعا مسبقا عليها، فسيتوه بلا ريب بينها. ينافي ذلك الطابع البيداغوجي الّذي أشار إليه الكاتب في المقدّمة (ص. 9) أو لعلّ هذا الطابع يقتصر على الإيجاز في العرض.
ختم هشام جعيّط مسيرته الفكريّة بهذا العمل شديد التكثيف حول مجالين خصّص لهما الحيّز الأكبر من مجهوده على امتداد ما يناهز نصف قرن. ومن المؤسف أنّ عملا فكريّا بهذا الثراء لمؤرّخ ومفكّر في قيمة هشام جعيّط لم يجد من الاحتفاء إلّا أقلّه، إذ لم نعثر إلّا على عدد قليل من المقالات التي تناولت هذا العمل بالتحليل، كما أنّ المنابر الإعلاميّة التي اهتمّت بهذا المؤلّف بشكل جاد نادرة للغاية.
نشر هذا المقال ضمن مجلة حروف حرّة، العدد الخامس، جويلية 2021، ص.13 .
كامل العدد متوفّر على الرابط التالي: