قراءة في كتاب “حركية المجتمع التونسي في عشرية الثورة”
|بقلم: فهمي رمضاني
يمثّل الكتاب الجماعي “حركية المجتمع التونسي في عشرية الثورة: بين إرادة الحياة واستجابة القدر” الصادر عن دار محمّد علي الحامي سنة 2020 بتنسيق المولدي قسّومي معالجة متعددة المقاربات للتحولات السريعة والراهنة التي عرفها المجتمع التونسي بعد الثورة. ويمكن تقسيم مضامين هذا الكتاب إلى اتجاهين رئيسيين، يتمثل أولاهما في التأصيل المفاهيمي للثورة وتشريح شروطها من منظور تاريخي مقارن أما الاتجاه الثاني فيتمثل في مقاربة الواقع والوقوف على تجليات حركية المجتمع في سياق ما بعد ثوري.
الجانب الأول: في التأصيل النظري والمفهومي للثورة
تضمن هذا الجانب مقالات تبحث في التأصيل المفاهيمي للثورة، حيث نجد مقالا لحمادي بن جابالله تحت عنوان “ماهي الثورة؟”، اعتمد فيه مقاربة ابستمولوجية تاريخية من خلال استنطاق المفهوم من الابستمولوجيا والفلسفة وتاريخ الأفكار وتاريخ الذهنيات ليرجع معنى الثورة ومفهومها الى أصلها وطورها الأول في بلاد الرافدين ثم الى امتدادها وطورها الثاني مع كوبرنيك. وينتهي بن جابالله إلى وجود ثلاث ثورات مختلفة: الأولى هي الثورة العلمية الّتي استبدلت مركزية الأرض بمركزية الشمس وهيّأت الظروف المواتية لقيام الثورة الصناعية، أما الثورة الثانية فهي ثورة فلسفية جعلت من الـ”أنا أفكّر” سبيلا وحيدا للمعرفة وللسيطرة على الطبيعة ومواجهة التقاليد الزائفة ليصبح لا سلطان على الفكر إلا فكرك ذاته، أما الثورة الثالثة فهي ثورة سياسية أسست للديمقراطية وقيم حقوق الإنسان وللحرية كجوهر للوجود الانساني. يؤكّد حمادي بن جابالله على ضرورة اعتبار الثورة التونسية ثورة ذات أبعاد وطنية وإقليمية وعالمية يمكن تحقيق أهدافها إذا توفرت ثقافة تستبطن كل أبعاد الحداثة.
ورد المقال الثاني تحت عنوان “ثورة بلا ظفرين” لعياض بن عاشور حيث يؤكد منذ البداية على أن ما حدث في تونس هو ثورة بأتم معنى الكلمة، فعلى الرغم من إشارته إلى تباين واختلاف الثورات عبر التاريخ، فإنّ الثورة التونسية لا يمكن أن تنخرط إلا ضمن ثورة سياسية استجابت لأربعة شروط ضرورية ضامنة لتصنيفها كثورة. يتمثل الأول في وجود احتجاج عمومي وشامل في المجتمع. أما الشرط الثاني فيتمثل في نجاح هذا الاحتجاج من خلال الإطاحة برموز النظام السياسي القديم. ويتجسّد الشرط الثالث في أهداف الثورة وبرامجها وقيمها المتمحورة أساسا حول الكرامة والحرية والمساواة. أما الشرط الأخير فهو الاعتراف برسالة الثورة رغم عدم انبثاق حكومة من الثورة ذاتها.
ويرى عياض بن عاشور أن ما يميز الثورة التونسية هو نجاحها في تكوين مجتمع مدني يقوم بدور التوازن بين الدولة والأفراد.
الجانب الثاني: تجليات حركية المجتمع في سياق انتقالي ما بعد ثوري
تضمن هذا الجانب العديد من المقالات المتعلقة بتعطل المسار الثوري في تونس وعدم إيجاد المنوال المجتمعي المناسب لتحقيق أهداف الثورة وقيمها. وقد أبرزت الأستاذة منوبية بن غذاهم من خلال مقال بعنوان ” الجرح النرجسي للثورة التونسية” أن السياسة كما نعيشها اليوم في تونس هي قضية رجال فقط حيث تم إقصاء المرأة من الفضاء العام ومن الحياة السياسية والاجتماعية. وقد اعتبرت بن غذاهم أنّ العنف المسلّط على النساء بعد الثورة ما انفك يتزايد متّخذا أشكالا عديدة تهدّد المكاسب التي تمتلكها المرأة، الأمر الذي يعكس “تدميرا ذاتيا حقيقيا” على حد تعبيرها في بلد يعيش تغييرا ويروم بناء فكر جديد.
أشارت كذلك الأستاذة الى مفارقة كبرى تتمثل في اعتماد الرئيس الجديد أستاذ القانون الدستوري على النص الديني للحسم في مسائل متعلقة بالمرأة كالمساواة في الميراث وفي المقابل فإنه يحيل قضايا الرجال الى النص القانوني الوضعي وإلى أحكام الدستور.
تعلق المقال التالي بدور منظمات المجتمع المدني في الثورة التونسية للأستاذ الحبيب مرسيط حيث أكّد على أن التنظيمات المدنية تواجه اليوم عديد التحديات المتمثلة أساسا في:
أولا- تحديد الخيارات التي يتوجب على المجتمع المدني الانخراط فيها
ثانيا ضرورة مواجهة الأخطار المحدقة والتوقّي منها كالاختراقات المضادة والانحرافات الانتهازية والفساد.
ثالثا- في ضرورة توسيع القاعدة الاجتماعية للعمل الجمعياتي وتفادي الطابع النخبوي وترسيخ ثقافة المواطنة وقيم السلوك المدني والحضاري.
اهتم المقال الموالي بالانتقال الديمقراطي والمجال العمومي والميديا الاجتماعية حيث أبرز أستاذ الصحافة الصادق الحمامي الأدوار المزدوجة لوسائل التواصل الاجتماعي والمتراوحة بين توسيع المجال العمومي وفضاءات التعبير عن الرأي والفعل السياسي، وبين إفساد النقاش العام وتعزيز الاتصال العدائي الهستيري وسجن الناس داخل فضاءات منسجمة ايديولوجيا، الأمر الذي يجعل من الميديا الاجتماعية على حد تعبيره داء ودواء في نفس الوقت.
تناول البحث الموالي مسألة الثقافي والابداعي في تونس بعد الثورة من خلال التعبيرات الفنية حيث أبرز الأستاذ فاتح بن عامر تأثر الحراك الفني في تونس بعد الثورة بنفس الحرية الذي أصبح يميّز الشارع التونسي إلا أن هذا المكسب لم يتوج بإبداعات فنية تعكس قيمة الحدث، ويظهر ذلك حسب رأيه من خلال تراجع القيمة الإبداعية في العديد من المجالات مثل المسرح والسينما والرواية والشعر على الرغم من وجود بعض الاستثناءات التي برزت في الميادين الثقافية والإبداعية كعروض الجعايبي أو طلياني شكري المبخوت أو فيلم عرائس الخوف لنوري بوزيد. وعموما فإن عدم التحام المبدع بالثورة لا يمكن أن يؤدي الى ولادة أنماط فنية وتعبيرية جديدة تعبر عن نهضة حقيقة للفن والابداع في تونس.
تطرّق بكار غريب في مقال موال إلى مسألة “منوال التنمية البديل” حيث أكد منذ البداية على أننا قد تأخرنا كثيرا في طرح المسالة الاقتصادية على الرغم من وجود شبه إجماع سياسي واجتماعي حول هذه القضية. في هذا الإطار يعتبر بكار غريب أنّ دور الدولة في الاقتصاد محكوم بثلاثة معيقات متعلقة أساسا بتخلف المنظومة القانونية والادارية المسيرة للاقتصاد التونسي واتساع مجال نشاط الاقتصاد الموازي وإمكانية استرجاع الدولة لدورها التنموي. وينتهي غريب إلى أن دور الدولة في الاقتصاد ومحتوى اصلاح الدولة هما مسألتين جوهريتين في علاقة بمنوال التنمية المنشود خاصة وأن الجميع يقرّ بأن الاقتصاد التونسي هو ابن الدولة.
يمثّل مقال حكيم بن حمودة المعنون “بحول العقد الاجتماعي” محاولة لتناول المسالة الاقتصادية من منظور آخر حيث بين أن الحكومات المتعاقبة منذ الثورة قد فشلت في إيجاد إجابات للتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويعود ذلك حسب رأيه إلى غياب الرؤيا الشاملة والمشروع الذي يوحد التونسيين ويجمعهم، لذلك يتوجب اليوم تحديد تصور جديد حيث يكون نقطة انطلاق وبداية تجديد للعقد الاجتماعي وبناء عقد جديد ديمقراطي واجتماعي على أنقاض العقد البالي.
تطرقت بقية المقالات لمسائل متنوعة حيث اهتمّ أحمد العزعوزي بعوائق مسار التحديث في تونس ويعود ذلك حسب رأيه الى أربع نقاط متمثلة في: الخلل في تطور بنية المجتمع التونسي ومحدودية حاضنة الفكر التنويري ومصادرة الدولة للتعبير السياسي وقدرة تيار الإسلام السياسي على النفاذ. أما يوسف الصديق فقد عالج اختلالات الخطاب الموجه للفضاء العام من خلال الخطاب السياسي حيث أثبت أنّ أصحابه لا يملكون لغة مخصوصة ولا يتقنون لغة يمكنهم من خلالها تبليغ خطاب خال من الاختلالات، بل أنه رصيد لغوي لا يصلح للخطاب على غرار “الله غالب” وكان حب ربي” …
في علاقة بذلك تناول مقال محمد علي الحلواني إشكالية المجتمع التونسي المعطل حيث اعتمد على ثلاث مقاربات لتفسير أسباب التعطل. تكمن المقاربة الأولى في فهم التعطل من خلال نموذج التوازن السكوني أو الستاتيكي الذي يعتمد فقط على مؤشرات تستخدم للتمويه ولا يعكس الواقع الحقيقي للنمو الاقتصادي أو التقدم الاجتماعي. أما المقاربة الثانية فتتمثل في فهم التعطل المجتمعي من خلال نموذج التوازن الديناميكي الذي يمكن اعتماده كمقياس لكشف منسوب التحولات الاجتماعية الهيكلية وتسارعها أو استقرارها أو تراخيها. أمّا المقاربة الثالثة فقد اعتمدت على نموذج التوازن التراكمي لتستنتج أنّ تراكمات الهزال العلمي والتقني والثقافي الذي ميّز مجتمعاتنا طيلة عقود ليس سوى عقبة وعامل تعطيل نحو النمو والتقدم، فالذهنيات مثلا بقيت على حالها منذ قرون رافضة ومقاومة لكل تغيير.
تعلّق المقال الأخير بمحاولة في فهم الأبعاد والخلفيات للتنوع الطيفي للحشود القيسية لمنسّق العمل المولدي قسومي. ولئن رصد الكاتب الروافد المتنوعة للحشود القيسية (الجماعات التي ساندت ترشح قيس سعيد) وبعض أصولها المختلفة فإنه ركز على تصاعد الشعبوية التي ساهمت في صعود قيس سعيد وفوزه في الانتخابات الرئاسية الاخيرة.
صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثالث، ماي 2021، ص. ص. 8-9.
لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf3