توكفيل في السونترـ فيل: قراءة في العشرية الديمقراطية التونسية (الجزء الثاني)

بقلم: عماد قيدة

تناول الجزء الأول من هذا المقال حدود التجربة الديمقراطية التونسية وأعطابها كنظام للحكم وكعقيدة يفترض أن يتبناها المجتمع وتدور حول مبادئها جميع محاولات التنظم ومساعي التغيير والتطوير في كامل المجالات.

أما في هذا الجزء فنسلط الضوء أكثر على الجامعة التونسية التي يفترض أن تكون المنبع الذي تخرج منه نخبة البلاد لتغدو الزاد البشري للمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجموعة الوطنية.

 

متى نتحدث عن جامعة ديمقراطية؟

الجامعة هي مؤسسة تعليمية لها نظام مستقل وقوانين هياكل تحكمها، تتكون من عنصرين أساسيين: طالب العلم والمدرّسون الذين هم موظّفون صلب المؤسسة. وقد تطوّر مفهوم الجامعة والعلاقات التي تحكمها عبر العصور، مما سمح بتغيير كبير تقدّمي كبير في أساليب طرح المعلومة وتحصيلها، حيث مالت نحو منح الطالب المتلقي هامشا أكبر من المساهمة في صناعة المعارف عوضا عن مراكمة المعلومات وإعادة تلقينها، وذلك من خلال ظهور مخابر البحث في العلوم التجريبية كما الإنسانيات وتمكين الطالب من المناقشة الحرة في المدارج وفي الندوات التي تنتظم في حرم الجامعة.

يمكننا الحديث عن جامعة ديمقراطية حين يكون للطرفين المذكورين آنفا أن يلعب كل من موقعه دورا (سياسيا) فاعلا داخل هذا المجتمع المصغّر، وأن يكون سلوكه في الأثناء تجسيدا للقيم العليا للديمقراطية، لعل أهمها الحرية والشجاعة في التعبير عن الرأي، واحترام الرأي المخالف، والتمثيل عبر الانتخاب والحرص على الفعل المباشر اللاعنيف:

1 ـ المدرّس: يمارس الأستاذ الجامعي الديمقراطية داخل الجامعة حين يتجرّد قبل كل شيء من عقلية الفوقية العلمية والرتبية في معاملاته مع طلبته وزملائه، فضلا عن فسح المجال للنقاش في القضايا المعرفية التي يدرسّها في مدرجه، أو غيرها من القضايا العامة التي تطرح في الندوات أو حتى في التجمعات احتجاجية كانت أم احتفالية، في ساحات الكلية.

بممارسته لهذه القيم، يرتقي المدرس من كونه موظف بأجر أوكلت له مهمة تدوير معارف وتقنيات دقيقة ضمن حقل معرفي معين، ليكتسب صفة المثقف الذي يتفاعل بطريقة جدلية مع ذوات واعية ومفكرة أخرى داخل الحرم، بغضّ النظر عن موقعها من السلّم الوظيفي أو تخصصها.

في ورقتها البحثية بعنوان “المثقف في الجامعة، لماذا يجب علينا أن نقرأ الماضي؟”1 تضرب لنا الباحثة المصرية شيرين أبو النجا مثالا من سنة 1940 حيث دخل الأستاذ الهولندي المتخصص في القانون المدني والتجاري رودولف كليفرنخا إلى قاعة الدرس وألقى خطابا ناريا منددا بممارسات القوات الألمانية تجاه زملائه من الأساتذة اليهود، حيث لم يأت المساء إلا وقد طبعت المحاضرة بأعداد كبيرة ووزعت على الطلاب وعلى غيرهم، ما أدى بالأستاذ المذكور للاعتقال، وهو ما زاد وتيرة الاحتجاجات والمقاومة إلى أن تم غلق جامعة لايدن تماما. بعد ثلاثين عاما، تم إنشاء كرسي كليفرنخا الذي يعنى بتكريم الأساتذة ذوي الإسهامات المرموقة في مجال الحرية الأكاديمية والبحث العلم (وكان نصر حامد أبو زيد أحدهم)

تساءلت الباحثة: ماذا لو لزم كليفرنخا الصمت؟

فالأستاذ الجامعي الذي يزعم أنّه ديمقراطي يتوجب عليه أن يكون ذاتا مفكرة وحرّة وحاملة لهمّ إنساني وقدرة على التعبير عن فلسفته والمرور إلى الفعل المباشر، لا أن يكون مجرد إنسان مأجور “ضاجّ بالمعلومات” ، مترفع عن هموم طلابه وزملائه داخل أسوار الجامعة وخارجها.

 

2 ـ الطالب: لا يكفي طالب العلم أن يضع نصب عينيه الشهادة التي تنتظره بعد سنوات الدراسة والتي ستؤمن له الوظيفة المستقبلية. تفرّخ الجامعة كل سنة جيلا من الخبراء في شتى المجالات، لكنهم يبقون أناس سلبيين لا يمكنهم الدخول في أي مجادلة تقع خارج تخصّصهم. ويكفينا التمعن الخارطة الفكرية الحالية وحتى ماض قريب لنجد أن أغلب المثقفين ورجال الفكر المؤثرين بالفعل في صفوف الجماهير وحتى على مستوى صنع القرار السياسي هم في الأصل من اختصاصات علمية ضيقة، واختاروا أن يكونوا أصواتا حرة تغرّد خارج الأفق الضيق للبحث العلمي وتدريسه ومراكمته، ويؤثروا حتى بالنزر القليل في المجال العام خارج الجامعة، ولعلنا كأبرز أمثلة عن هؤلاء نذكر الأمريكي نعوم تشومسكي (منظر اللسانيات) والفرنسي موران (عالم الاجتماع) والأمريكي دافيد غريبر (الانثروبولوجي) والسلوفيني جيجيك (أستاذ الفلسفة) وادوارد سعيد (الناقد الأدبي).

أخطر ما قد يقع فيه الطالب هو تبني التعريف الأفلاطوني للمثقف وهو الذي صاغه المفكر جوليان بيندا كالآتي: “هم هؤلاء الذي لا ينحصر نشاطهم بالدرجة الأولى في ملاحقة الأهداف العملية، ويسعون إلى مسرتهم في ممارسة فن أو علم ما أو تأمل غير علمي، باختصار في امتلاك مزايا غير مادية، ولهذا السبب يقولون بطريقة محددة: مملكتي ليست في هذا العالم”2

فالمقاربة الصحيّة إذن في التعامل مع الجامعة كفضاء عام، بالنسبة للمدرس كما الطالب، هي أن يرى كل فرد من هؤلاء في نفسه ذاتا فاعلة وقادرة على ممارسة قيم الديمقراطية انطلاقا من المدرج ووصولا الى الفضاء الأرحب للمجتمع، وذلك جنبا إلى جنب مع تحصيل المعرفة والدرجة العلمية للطلبة وتحقيق الارتقاء المهني والاجتماعي بالنسبة للمدرسين.

لمن تخضع الجامعة ولماذا؟

خلال تاريخ من النضال الطلابي والأكاديمي عموما، سعت الجامعة لنيل استقلاليتها الإدارية والمالية والهيكلية، إلا أنها نجحت بنسب كبيرة التفاوت، جغرافيا، وذلك في الفرق بين ما تحقق في بلدان الجنوب والشمال، وزمنيا، أخذا بعين الاعتبار الإخفاقات الكثيرة والانتصارات المتباعدة في الزمن، لعل أشهرها ما تمخض عن الحركة الطلابية في أوروبا والعالم سنة 1968.

وحتّى في خضم ما اعتدنا على تسميته انتصارات، كانت الأنظمة السياسية تجد هامشا للالتفاف على المطالب الحقيقية من خلال ألعاب هيكلية وإعادة توزيع للأوراق، مستعملة في ذلك في أغلب الأحيان شقا من الثائرين ضد الآخر، وهم الأساتذة والمجالس العلمية، الذي يستعان بهم إبان كل أزمة من ذلك النوع.

من الأمثلة على ذلك، كان أن ألغت الحكومة التونسية سنة 1968 الهياكل الجامعية التي كانت سارية وألحقت إدارات الكليات مباشرة بوزارة التعليم، قبل أن تعود إلى إرسائها خلال الاضطرابات الطلابية سنة 1986 حيث أوكلت مهمة امتصاص الزخم والحماس الإيديولوجي للأساتذة التابعين للحزب الحاكم كما لآخرين منتمين إلى اليسار، من أمثال محمد الشرفي الذي تقلد كذلك مناصب متقدمة صلب الوزارة.

اتجهت السلطات الأوروبية نهاية السبعينات نحو ما سمّي “مهننة” الجامعة، أي إعادة هيكلة الاختصاصات ودمج بعضها وحذف البعض الآخر بهدف ملاءمتها مع متطلبات سوق الشغل، وبالطبع حذت جامعات تونس حذوها في ذلك حيث ظهرت العديد من الإصلاحات، التي صرنا اليوم نعلم أنها لم تكن ذات فائدة، وآخر تلك الإصلاحات كان تبني نظام أمد وبعث الإجازات التطبيقية والماجستير المهني وغيرها من التسميات التي بقيت عقيمة في مسعاها للتشغيل، في اقتصاد وطني هجين يشهدا عسرا شبه مزمن في التطور وتجديد نفسه.

 

ما هي التحديات الراهنة لميلاد جامعة ديمقراطية حقيقية ؟

في تونس ما بعد 2011 خلت الجامعة التونسية من أي تحركات ذات تأثر للأساتذة الجامعيين، أرجعه البعض إلى غيابهم في الحراك الثوري في العام المذكور، إذ أن شريحة هامة ممن كانوا يدرسون في الجامعات التونسية كانوا من بين من تورّطوا في إمضاء عرائض المناشدة المعروفة. وباستثناء بعض التحركات النقابية الجديدة مثل حركة “إجابة”، فقد كان الصمت ومواصلة الخنوع هو الموقف السائد بالنسبة لأكاديمي ما بعد الثورة.

وخلافا لذلك الخواء ما بعد الإيديولوجي الذي غرق فيه الأكاديميون، شهدت النقابات الطلابية نشاطا كبيرا تنوّع بين الاحتجاج والتفاوض والتأثير، واصطبغ في أحيان كثيرة بأعمال عنف وتعطيل ممنهج لعمل الكليات والمعاهد العليا. لم تستوعب النقابات الطلابية هي الأخرى اللحظة الثورية، حيث أبقت على أساليب نضالية بائتة، كان من السهل على السلطة (ممثلة في مجالس علمية خانعة) احتواؤها عبر إعطاء مقاعد تمثيلية في المجالس العلمية لطلبة منتخبين بطريقة بيروقراطية بالية، لا يتجاوز سقف نضالهم الحصول على أذون لإقامة تظاهرات مكرّرة وإنشاء نواد لا يحضرها أحد من الطلبة.

في السنين الأخيرة صار جليّا للجميع ما تشهده الجامعة التونسية من تفريغ ذاتي لأي قيمة إنسانية من خلال إهمال الاختصاصات التي من شأنها مدّ المجتمع مستقبلا بكفاءات لها القدرة على تحليل الواقع والتدخل لتصحيح نشازه، وشهدت إعلاء لشأن الشعب التقنية والعلمية التجريبية، وهي في ذلك لا تشذّ عن المنطق النيوليبرالي الذي جعل من مؤسسة التعليم خادما طيعا لسوق الشغل بدل أن تكون فضاء للدربة على الإبداع والحرية والديمقراطية، وهنا نستحضر قول المنظر البريطاني تيري إيغلتون في مقاله المعنون “موت الجامعات” : ”إذا اختفى التاريخ والفلسفة وغيرهما من الحياة الأكاديمية، فما يبقى لدينا هو مجرد مكان للتدريب التقني أو معهد للبحوث. لكنها لن تكون جامعة بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح، وسيكون من الخداع أن نسميها هكذا3

أمّا عن اليد الخفية التي تدفع سنة تلو الأخرى نحو التوجّه إلى الجامعات الخاصة، فمن قبيل التضليل إن لم نقل أنها نتاج لتحالف القوى التي أتينا على ذكرها أعلاه، ونقصد قوى السوق وجهاز الدولة البيروقراطي، في سبيل جعل المعرفة سلعة مثل باقي السلع التي يعرضها السوق وتشجع الدولة على استهلاكها، وقد ظهر هذا التحالف بصفة سافرة ومرعبة بعد الإعلان عن نتائج التوجيه الجامعي الأخيرة (للسنة الجامعية 2021 ـ 2022) حيث وجدت أعداد هائلة من الناجحين في مناظرة الباكالوريا نفسها بلا جامعات مستعدة لاستقبالهم، تحت حجّة واهية هي تفاجؤها بنسب النجاح العالية.

الهوامش:

1  مجموعة مؤلفين، الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2017.

2  جوليان بيندا، خيانة المثقفين، دار الروافد الثقافية وابن النديم للترجمة، بيروت، 2020.

3Terry Eaglton, “The death of Universities” , The Guardian, 17 December 2010.

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثامن، أكتوبر 2021، ص ص. 8-9

للاطلاع على كامل العدد:  http://tiny.cc/hourouf8

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights