الوعي بغياب العدالة وردات فعل المجتمعات عليه
|بقلم: عماد قيدة
تمثل العدالة مفهوما اشكاليا أقضّ مضاجع عدد كبير من المفكرين والساسة عبر التاريخ، بدءا من اليونانيين ووصولا إلى أروقة الجامعات ومراكز البحث المعاصرة التي لا تزال تراكم فهما وتطويرا للعدالة ومقاصدها من منطلقات فكرية وايديولوجية عديدة ليس أقلها المذاهب النفعية والجوهرية (جوهر العدالة).وقد تقدّمت البحوث والنزاعات الفكرية بفضل الكثير من المنظرين، لعل أهمهم الأمريكي جون رولز الذي ناقش وقدم إضافات كبيرة على مباحث العدالة السياسية والأخلاقية، كما أخضع مدونته ونظريته عن العدالة للنقاش والتطوير الذاتي خلال رحلته الفكرية.
إلا أننا هنا لا نبحث عن سيرورة تمثل العدالة كقيمة سامية داخل أروقة السياسة والبرلمانات والمحاكم، ولا في مدرجات الجامعات، وإنما نطمح إلى محاولة الإحاطة بفهم الشعوب لهذا المفهوم وتمثلها له، والمصادر التي تلهمها في استبطان العدل والعدالة وما ارتبط بها من قيم كالمساواة والكفاية والحق. وما أن نفهم فكرة الناس عن العدالة، سنجد أنفسنا أمام تحدي معرفة مدى وكيفية وعيها بانتفاء العدالة في حيواتهم اليومية والسبل التي يلجؤون لها في مقابل هضم هذه القيمة من جانب المكلفين بتكريسها.
يتشكل الوعي بغياب العدالة بطرق متنوعة، فقد تساهم سياسة تنتهج الظلم والطغيان لفئة أو جهاز معين في مراكمة احساس عام بالإقصاء والحرمان لدى الأغلبية الواقعة تحت نطاق الإكراه المسلط عليها عبر وسائل العنف الحصرية، كما يمكن أن يكون الاحساس بغياب العدالة لدى أقلية تحس أن هيمنة جمع الأغلبية وديكتاتوريته في ادارة الشأن العام وفي توزيع الثروة والأدوار السياسية، مظهرا آخر من مظاهر استدعاء مفهوم العدالة كمطلب ومحور صراع.
نادرة هي المناسبات التاريخية التي كان فيها الوعي بغياب العدالة وعيا جماهيريا منتشرا بين الجموع، ذلك أن الشعوب تتصرف غالبا وفق حاجتها للأمن والاستقرار واجتنابها للقفز في المجهول. أما في حالات التنوير من فوق، فتضطلع النخبة الثقافية أو السياسية بمهمة رفع الاحساس بالقهر والاستغلال، ويفرز هذا الوعي تحركا في الفضاء العام، سواء الواقعي أو الافتراضي وتتراوح بين الاحتجاجات الجماهيرية السلمية، كما المظاهرات العنيفة التي تتخذ رمزيتها وهويتها الرافضة من “التخريب” وإلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بالممتلكات الخاصة والعامة.
الثورات الشعبية باعتبارها التمظهر الأسمى للوعي بغياب العدالة
لا يمكن الحديث عن العدالة وتمثلاتها واستحضار الجماهير والنخب لها من دون الإتيان على ذكر الثورات والحركات الاجتماعية كتجارب واساليب تنظم إنسانية ما انفكت ترفع لافتة العدالة كمطلب لا يقبل التجزئة على رأس جدول أعمالها.
يقول بعض الباحثين في الثورات “بنظرية السلوك الجماعي” Collective Behavior Theory التي ترى أن سلوك الجماهير يسعى دائمًا للخروج عن المألوف مثل الهبّات الجماهيرية والمظاهرات في إطار ما يُسمى “بسياسات الشارع”، بينما تركز “نظرية تعبئة الموارد” Resources mobilization theory على ما تمتلكه هذه الحركات من موارد في مجال العمل السياسي وعلى وجه الخصوص الموارد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وكذلك التكنولوجية (خاصة مع ولوج عصر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات). أمّا الباحث المعروف تشارلز تيلي فيرى أن الحركات الاجتماعية سلسلة مُستمِرة من التفاعلات بين أصحاب السلطة وأشخاص ينصبون أنفسهم كَمُتَحدِثين عن قاعدة شعبية تفتقد للتمثيل الرسمي وقد تلجأ هذه الحركات إلى الشارع لدعم هذه المطالب: يركز تيلي إذن بصورة أعمق على الجانب السلوكي حيث اعتبر التعبئة عملًا جمعيًا يستخدم أدوات مختلفة بغرض الوصول للأهداف المحددة.
تعددت المسميات الشائعة للتحركات الاحتجاجية واختلفت أوجه تناولها باختلاف الخلفية الايديولوجية أو الثقافية أو اختصاص الدارس، إلا أنها سواء كانت ثورات راديكالية أو انتفاضات وتحركات احتجاجية، فإن الجدل حول العدل والعدالة يبقى دائما حاضرا بقوة خلال فترة ارهاصاتها ثم في مجرى تطوّر هذه التجمعات الاحتجاجية ومدى نجاحها في التنظم ومقارعة السلطة.
كيف يتبلور هذا الوعي بغياب العدالة، مثلها مثل غيرها من المبادئ السامية والحقوق الطبيعية للبشر، كالحرية والكرامة وحق تقرير المصير؟
يخلص أغلب الباحثين ومؤرخي الثورات إلى أن هذه الأخيرة تنقسم في هذه النقطة إلى تيارين رئيسيين: ثورات يتراكم فيها الوعي ذاتيا بين الجماهير لا من خلال الخضوع الطويل لممارسات ترسخ احساسا بالقهر والمهانة، فتنفجر الحالة الثورية بمساعدة قادح مجتمعي (الثورة التونسية مثالا) وثورات أخرى تلعب فيها النخب الدور الأهم في صياغة قيم جديدة وتعبئة الجماهير على أساس تعطشها للتغيير (الثورة الفرنسية ودور فكر التنوير في بلورة مبادئها).
ارتبطت فكرة العدالة في اللحظة الثورية لما سمي بالربيع العربي بفكرة المطالبة بالديمقراطية وجملة البادئ السامية الاخرى على غرار الحرية والكرامة، كيوتوبيا تتطلع إليها الشعوب كانت بحاجة إلى بلورة سياسية في شكل نظام حكم من شأنه أن يضمن الحد الأقصى من هذه التطلعات، فأضحت بذلك الدمقرطة هي الهدف الذي وضعته الجماهير والنخبة نصب أعينها، على الأقل في المرحلة الأولى من الحراك، أي قبل إرساء المؤسسات الجديدة.
يقول الباحث المغربي مراد دياني في كتابه “حرية، مساواة، كرامة إنسانية” :
“إن تحدي الدمقرطة في العالم العربي هو تحدي بناء شرعية جديدة، على اعتبار توطن اشكال غير ديمقراطية داخل الانسان العربي، متجذرة في الخبرات والتصورات والأساطير المؤسسة. فالديمقراطية ليست أفقا لا مفر منه في واقع يلفظها بقد ما هي بناء ممكن في واقع يرغب فيها. وتظل المثل العليا للديمقراطية غير متحققة في الأساس بسبب الاعتقاد السائد بنجاعة العنف والإكراه وليس بسبب أوجه القصور المؤسساتية فحسب. كما تظل هذه المثالية غير متحققة بسبب الاعتقاد أن المصعد الاجتماعي لم يقع اختراعه بعد، بل لم يجر حتى اختراع السلالم الاجتماعية، وبأن البناء الاجتماعي هو نتاج نظام طبيعي، يخصص في السكن في العلية للسادة والمترفين، والسكن في الدونية للمعدمين والخدم.”
لم تعتمد الانتفاضات العربية على تحريض أو تعبئة مقصودة من نخبة تنويرية تقدمية حتى تعي حالة غياب العدالة الاقتصادية والسياسية في مجتمعاتها، كما هو معروف عن الثورة الفرنسية 1789 التي قادتها النخبة الليبرالية ضد نظام الإقطاع غير العادل، والثورة البلشفية في روسيا 1917 التي كرست الايديولوجيا الاشتراكية لتعيد ترتيب النظام لسياسي بما يضمن توزيعا للثروة على نحو أكثر عدلا، إلا أن عوامل أخرى حضرت بقوة لتنمية هذا الوعي الجماعي المفاجئ الذي رافق الهبة الشعبية، وهو الرمزية العالية لبعض الأحداث والشخصيات تنوعت من بلد إلى آخر.
في تونس كان المصير المروّع لبائع الخضار محمد بوعزيزي حدثا مأساويا مكثفا بالمعاني التي تحيل على الظلم غياب الاعتبار للمهمشين، وحضور المظلمة التي تعرض إليها الشاب المحترق في أذهان مليون عاطل عن العمل كمصير محتمل.
نماذج احتجاجية مبتكرة:
لم تكن ردات فعل الشعوب في مواجهة غياب العدالة دائما في شكل ثورات أو احتجاجات بالمفهوم التقليدي، إذ لطالما جادت القريحة الشعبية بأساليب تعبيرية وطرق في التنظم كان لها في كثير من الأحيان أثر أكثر أهمية من رفع اللافتات في الشوارع.
في 2011 ظهرت حركة “احتلوا وول ستريت” وانتشرت حتى كادت تغطي أكثر من 180 موقعا آخر. ورغم التعتيم الكبير الذي واجهته هذه الحركة من وسائل الاعلام الخاصة والعمومية على حد سواء، تمثّل السر في بقائها وانتشارها في سياستها الأفقية في التواصل والتعبئة التي جعلتها عصية على الاختراق من قبل الأجهزة الامني إلى وقت طويل.
طالبت حركة احتلوا بديمقراطية حقيقية لا سلطوية، تنشد العدالة الاجتماعية والسياسية عبر التمثيل الفعلي لإرادة الشعب معتبرين أن من يحكمون البلاد يمثلون إرادة الشركات الكبرى ورأس المال الفاسد لا إرادة الشعب. من الطبيعي إذن أن يكون مطلب العدالة غير مطروح أساسا للنقاش العام ما دام من يستحوذون على مواقع اتخاذ القرار وأصحاب مجموعات الضغط “لوبيات” هم من يقررون لمن نصيب الأسد في كعكة الثروة الوطنية والعالمية، وهو ما اعتبرته حركة احتلوا يتنافى حتى مع جوهر الرأسمالية نفسهما، فحين تغيب المنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص، فإنه ما مجال للحديث عن المبادرة والعمل الحر.
يقول عالم الانثروبولوجيا الأناركي دافيد غريبر، أحد الوجوه البارزة خلال حركة احتلوا:“عوض ان نطالب نظاما سياسيا نخره الفساد منذ زمن بعيد بأي شيء، خيرنا أن نعمل بكما لو كان غير موجود”.
كانت حركة احتلوا من أكثر التجارب النضالية والتعبيرية أصالة بدئا برمزية الحيز الجغرافي الذي أقامت عليه مشروع “ديمقراطيتها المباشرة التشاركية” وهو منتزه زوكوتي بالقرب من وول ستريت مركز سوق المال الفاسد، المسؤول بحسبهم عن تفقير الـ 99 بالمائة وتقويض نظامهم الصحي والدراسي لصالح زمرة متحكمة في السياسة من بوابة الاقتصاد، خاصة وأن هذه الحركة جاءت خلال فترة الرئيس الديمقراطي أوباما، الذي بدت وعوده الانتخابية ثورية في ما يخص نظام التغطية الصحية والعدالة العرقية ومساواة الدخل بين الجنسين، إلا أن السخط كان كبيرا حين أخلفت إدارته بأغلب وعودها بسبب ضغط اللوبيات غير الراغبة في تحقيق أي من تلك المطالب التي كان شأنها أن تكرس بعض العدالة الاجتماعية.
تتنزل حركات احتلوا التي دشنتها احتلوا وول ستريت في اطار حركة العدالة العولمية Global justice movement التي تتطلع الى خلق نظام عولمة بديلة. ويؤرخ كثيرون لها بحدث انتفاضة الزاباتيستا في المكسيك وصولا الى الاحتجاجات ضد منظمة التجارة العالمية في سياتل في 1994، وتشترك كل هذه الحركات في نقطة وهي درجة عالية من الوعي لدى تركيبة قد تبدو غير متجانسة من مثقفين ومهمشين وفلاحين (في حالة انتفاضة الزاباتيين) ورفض للمؤسسات السياسية والاقتصادية وللبيروقراطية التي تكرس استحواذ الواحد بالمائة على موارد الـ 99 بالمائة.
العدالة الجهوية في تونس: جدل قديم جديد
بعد الثورة، عادت بقوة للنقاش مسألة التفاوت الجهوي في التنمية الاقتصادية والبنية التحتية، وظهر لأول مرة مفهوم التمييز الإيجابي كتمشّ سياسي وإداري لرد الاعتبار للجهات التي عانت تهميشا منذ دولة الاستقلال رغم امتلاكها لثروات طبيعية هامة.
في السنوات الأولى بعد الثورة وفي الهيئات المؤقتة والبرلمان الأول لم تكن المطالبات بإرساء نظام تمييز لفائدة المناطق الداخلية في ميزانيات البلديات، وفي التسهيلات ونسب الفوائد للمستثمرين هناك، تلقى أي معارضة أو تشكيك في مشروعيتها، باعتبار حالة الاجماع وقتها حول فضل الداخل التونسي في اشعال شرارة الثورة وواجب انصاف هذه المناطق، حتى من باب اتقاء شر انتفاضة اخرى حسب منطق من هم في السلطة.
غير أنه مع تعاقب السنوات والمؤسسات والأشخاص المشاركين في صنع القرار والتشريعات، راح الصوت المنادي بذلك التوجه يخبو تدريجيا، حتى أضحى يوصم بالشعبوية والبعد الى الواقعية في أيامنا هذه.
و إن كانت الحركات الاحتجاجية والانتفاضات ذات الطابع الاجتماعي في هذه المناطق قد لاقت تعاطفا قبل 2011 وحظيت بالاعتراف فيما بعد، على غرار أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 التي كانت أبرز مطالبها العدالة في توزيع الثروة المنجمية التي تزخر بها المنطقة وتشغيل أبنائها، إلا أن مثل هذه التحركات ذات المطالب الجهوية أو القطاعية بعد الثورة صارت تمثل عند أغلب شرائح البلاد عبئا وعائقا للتنمية وضربا لمبدئ وحدة الدولة، وهو ما يتجلى في الموقف الشعبي من اعتصام الكامور الذي مارس تقنيات ناجحة نسبيا من حيث احتلال الحي الجغرافي والتعبئة وتعطيل وسائل الانتاج وإفراز قيادات قادرة على الضغط والتفاوض، إلا أن صموده لم يدم بوصول قيس سعيد للسلطة، الذي ركز برنامجه ومشروعيته على فكرة وقف الانفلات وتضييع الوقت في المطالب القطاعية والجهوية الضيقة والدفع بعجلة الانتاج من جديد.
تبقى إذن فكرة التمييز الايجابي من حيث كونها اجتهادا يمنح قيمة العدل أهمية على حساب المساواة، فكرة هشة من حيث الأساس الفلسفي لها كما من حيث القابلية للتحقق. ففي حين يرى مفكرون على غرار الصغير الصالحي في مؤلفه المعروف “الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة” أن حصيلة التفاوت الذي نعيشه في حاضرنا إنما هو نتيجة لعقود من سياسات دولة الاستقلال التي ورثت عن الاستعمار الفرنسي استعمارا داخليا مارسته العائلات النافذة المتمركز اساسا في السواحل وباستحواذها على أهم الأراضي وتطويع الإدارة بمختلف أجهزتها الأمنية والتشريعية والطوبوغرافية لترسيخ هذا الاستعمار.
بينما يؤكد شق آخر من الباحثين على فكرة عمومية التفاوت المناطقي في جميع أقطار العالم، كون أن المناطق الساحلية حظيت وستحظى دائما بالنصيب الأكبر من الثروة والرفاه نظرا لأن الموانئ تمثل لاعبا رئيسيا في ازدهار التجارة، وبالتالي كل القطاعات من خدمات وصناعة وفلاحة. ويشدد آخرون على العامل الثقافي في عدم التكافؤ في النصيب من الثروة، على غرار المؤرخ التونسي الهادي التيمومي الذي قام في كتابه “انتفاضات الفلاحين في تاريخ تونس المعاصر” بتحليل دور العوامل الثقافية والتنشئة الاجتماعية في تخلف سكان الداخل والفلاحين خاصة في أخذ نصيبهم من الثورة في جميع الحقب التي مرت بها البلاد، وذلك لافتقارهم إلى حس المبادرة والمغامرة واغتنام الفرص والتأقلم مع المستجدات والطوارئ، التي ساعدت العائلات في المناطق الساحلية على اقتناص نصيبها من اقتصاد الريع المتواصل منذ الدولة الحسينية إلى العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين التي نعيشها.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 29، أوت 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf29