الحالمون يرحلون باكرا: ملامح من مسيرة مالك الصغيري (الجزء الثاني)
|بقلم: سوسن فري
الالتزام بعد الثورة
لم يبلغ عزة أي خبر عن مالك طيلة فترة اعتقاله داخل أقبية الداخلية. تقول بأسى بأنّ تلك الايام كانت شديدة الوطأة عليها. ذهبت بها الظنون والمخاوف بعيدا جدا وفكّرت بأبشع السيناريوهات، خاصة بعد أن اشتد الخناق على النظام وأضحى يبالغ في التنكيل بمعارضيه.
لا تنكر عزة بأنها قفزت فرحا عندما أعلن التليفزيون الرسمي عن فرار بن علي في تلك الليلة المشهودة، غير أنها سرعان ما انتكست مجددا وشعرت بانكسار بعد أن تذكرت أنه لم يبلغها عن مصير مالك اي خبر حتى ذلك الحين.
تقول محدثتنا مسترسلة في حديثها بأنه كاد يغشى عليها من شدة الهلع عندما شاهدت صور الأستاذ الجامعي الذي سقط قتيلا برصاص القناصة في تلك الأيام الحالكة. جزعت حينها بعد أن هيّء إليها أنه مالك، بفعل تشابه الملامح والملابس. لم يهدأ روعها إلا بعد أن تأكدت أنه لم يكن هو.
تذكر عزة بأن الاحباط تسرب إلى قلوب بعض أصدقائهم، حتى أن أحدهم قال لها حرفيا “السجون احترقت، والمساجين فروا. لم يبق أحد داخل الزنزانات. لو كان على قيد الحياة لاتصل بك. يجب أن توطني النفس على امكانية فقدانه. احتمال موته وارد جدا.”
لم تنته رحلة عذاب عزة وعائلة مالك إلا مساء يوم 17 جانفي، بعد أن زار أحد اصدقائه الذين تم التحقيق معهم في الداخلية منزل العائلة وأخبرهم بأنه لمح مالكا هناك. مثل الخبر طوق النجاة لعزة وللعائلة بعد أن أرهقهم غيابه الطويل.
غادر مالك مبنى الداخلية صبيحة يوم 18 جانفي 2011 بعد أن سلمه الأعوان اغراضه بكل احترام وعاملوه بالكثير من اللياقة. فور خروجه من هناك سارع مالك بمهاتفة عزة من هاتف عمومي.
“كأنما بعثت في الروح من جديد، لن أنسى في حياتي ما اعتراني من مشاعر عندما أتاني صوته من خلف السماعة“
دخل مالك حيه دخول الابطال وهو محمول على الأعناق واحتفى به أهله واصدقائه، كما يليق بتضحياته في سبيل بلوغ حلم الثورة.
تقول عزة مازحة بأن مالك أسر لها بحماس إثر خروجه من السجن، بأنه حفر بأظافره اسمها على جدار زنزانته وكتب تحته “يا ظلام السجن خيّم خيّم، نحن لا نخشى الظلام” وقال لها في فورة حماسه تلك “أرجو أن تريها يوما ما”. تقول عزة بأنهما ضحكا كثيرا حينها بعد أن ردت عليه مستنكرة “أهذا خير ما تتمناه لي؟ أن أزور اقبية الداخلية. اللطف علي، مش لازم نشوف الي كتبتو”
اعتبر مالك أنّ لحظة الثورة هي جزء من مسار كامل يستوجب المزيد من النضال والمقاومة من أجل استكماله. غير أن رهانات المرحلة الجديدة تتطلب تجديد الرؤى وأساليب العمل وأشكاله. من أجل تحقيق ذلك، تمسك بتجربة “جيل جديد” باعتبارها بديلا شبابيا للفعل السياسي وحاول بمعية رفاقه تطويرها للخروج بها من بين أسوار الجامعة للتأثير في مجريات الأمور في الفضاء العام. فبالرغم من أن الاعلان الرسمي عن تأسيس الحركة كان قبل الثورة، إلا أنها ظلت في الاغلب عبارة عن حلقات نقاش تدور بين أعضائها حول التأصيل النظري للفكرة بالأساس. بعد الثورة بعثت في الجميع روح جديدة وقرروا تطوير التجربة.
تقول عزة بأنه رغم حرصهم جميعا على رفض كافة اشكال الهرمية التي ضاقوا بها ذرعا في التنظيمات ذات البنى الكلاسيكية، إلا أن مالكا كان يملك سلطة معنوية كبيرة داخل المجموعة، لم تفلح حتى هي في تجاوزها، رغم احتجاجها المتواصل عليها. حتى أن مالكا كان يشاكسها بقوله “بش تعمل علي انقلاب ظاهر فيك انت؟ الجماعة يقدروني نقلهم لا “. كانوا يستشيرونه في أغلب التفاصيل، ويرفضون الحسم في بعض الأمور عندما لا يكون موجودا بينهم ولا يدلي برأيه.
تقول عزة أنّ مالكا، وعلى عكس البعض من الرفاق الذين عانوا من متلازمة الطالب الأبدي، كان قد قطع فعلا مع الجامعة إثر مغادرتها. كان يرفض العودة إليها إلا باعتباره من قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس وحاول البحث عن أطر فعل سياسي ونضالي مختلفة. كان حريصا على عدم الوقوع في هذا المطب الذي استنزف الكثيرين ممن يعرفهم ولم يسمح لهم بتطوير أنفسهم وجعلهم ينكرون وجود عالم آخر خارج فضاء الجامعة. فتجاوز مرحلة الالتزام داخل اتحاد الطلبة ليست أمرا هينا بالمرة حسب تعبير عزة.
” أتفهم حقا معاناة البعض من رفاقنا ممن لم يقدروا على قطع الحبل السري مع الجامعة. فطقس العبور من هناك مؤلم جدا خاصة لمن عاشوا داخل الاتحاد تجارب ثرية، نحتت بعضا من شخصياتهم وشكلت هويتهم وخلقت لديهم شعورا قويا بالانتماء“.
في أثناء ذلك، لم يتوقف مالك عن الخروج في جل التحركات الاحتجاجية التي كانت تحرك الشارع إثر الثورة. كان يؤمن جدا بالشارع، ويعتبره السبيل الأمثل لإحداث تغيير حقيقي في البلاد.
على خلاف عزة التي انخرطت في “مانيش مسامح” منذ بداياتها، تردد مالك كثيرا وتريث قبل أن يتخذ قراره بالانضمام إليهم. “كان ببساطة وفيا لنفسه، غير مندفع بالمرة ولا يخوض اي تجربة الا بعد تأن وتفكير وملاحظة“، تقول عزة. لكنّه فيما بعد انخرط فيها بكلّ جوارحه، واعتبر أنّ شكلها الأفقي وطابعها الاحتجاجي يجسدان ما كان ورفاقه في جيل جديد يطمحون إليه، لذلك لم يزعجهم بالمرة انصهار “جيل جديد” في “مانيش مسامح” واعتبروا أنفسهم جزءا منها.
إثر انتهاء مرحلة “مانيش مسامح” ومرور ثلثي قانون المصالحة، دخل مالك في حالة نفسية صعبة أطلقت عليها عزة اسم “الاكتئاب السياسي”. حيث أيقن بأن الفساد متغلغل بشكل يصعب فعلا مقاومته وبأن الحملة رغم الزخم الذي أحدثته والنجاحات التي حققتها لم تنجح في التحول إلى بديل حقيقي للفعل السياسي.
رغم إيمان مالك العميق بالشارع إلا أنه اعتبره غير جاهز بعد للإجهاز على المنظومة، لذلك قرر خوض غمار تجربة الالتزام الحزبي من خلال الالتحاق بصفوف حزب التيار الديمقراطي، وقد كُلّف بالإشراف على أكاديميته السياسية. وأتيحت له من خلال ذلك فرصة تكوين وتأطير مجموعة من الشباب المتحمس للانخراط في الشأن العام.
“كان سعيدا بهذا الدور الذي استهلك الكثير من وقته وجهده، ولكنه كان مؤمنا بقدرته على التغيير والتأثير، ويبدو أنه كان محقا فبعد وفاته تلقيت عشرات رسائل التعزية من شباب وطلبة أكدوا لي عمق الأثر الذي خلفه مالك في نفوسهم“. تقول عزة بتأثر.
تقول عزة بأن فهم مالك العميق لمجريات الوضع السياسي جعله قادرا على توقع زلزال سياسي بحجم ما حدث يوم 25 جويلية. كان يعتقد بأن الانقسام السياسي الحاد بين مؤسسة الرئاسة من جهة والبرلمان والحكومة من جهة اخرى، لا يمكن أن يظل على حاله حتى موعد الانتخابات القادمة. لذلك كان واثقا من أن الرئيس ينتظر أن يتحرك الشارع ليكتسب من خلاله شرعية تخوّل له القيام بخطوة ما في اتجاه حلحلة الوضع القائم. وهذا ما حدث فعلا.
إثر وفاته ارسل أحد الاصدقاء لعزة فحوى رسالة كان قد كتبها له مالك يوم 11 ديسمبر 2020 يقول له فيها “قيس سعيد يستنى في الشارع بش يتحرك، ما فمة حتى حل كان حل البرلمان والحكومة وتنظيم انتخابات مبكرة بقانون انتخابي جديد“.
مالك أبا وزوجا
عندما تزوج مالك من عزة، كانا في مقتبل العمر. كان زواجهما تتويجا لقصة حب رائعة. رغم أن عزة اعتبرت بأنها غير جاهزة بعد للزواج، خاصة وأنها لم تنه دراستها بعد، إلا أن مالك أصر على إتمام الزواج بأسرع وقت ممكن.
“كأنما كان يستعجل كل شيء، ربما كان يعلم بـأن القدر لن يمهله من العمر كثيرا، لذلك كان مستعجلا جدا..” تقول عزة بأسى.
إثر الزواج، حافظ مالك وعزة على نفس الاجواء والصداقات التي كانوا قد كونوها فيم مضى. كان بيتهما لا يكاد يخلو من الاصدقاء، الذين يحرصون على تقاسم القهوة معهم يوميا.
في هذا الصدد، تذكر عزة بأنها كانت تنزعج من أن يقوم البعض بنسبتها إلى مالك ويختصروا تجربتها النضالية في كونها زوجة الرفيق مالك. حيث تقول “كنت فخورة جدا به ولكني كنت ارفض الانصهار وان تمحى تجربتي النضالية وتختصر في تعريفي بكوني زوجة مالك، وقد كان رحمه الله يحترم هذه الرغبة ويقدرها جدا”.
حتى أنها تذكر بأنها تصادمت مع أحدهم في إحدى المرات بسبب هذا، حيث تذكر بأنهم كانوا قد نظموا تظاهرة حائطية داخل كلية الحقوق في إحدى المناسبات باسم “جيل جديد” وكانت هي من أبرز العناصر المنظمة، حيث ساهمت في كتابة المنشورات وغير ذلك من التفاصيل. وكان مالك قد سافر إلى بيروت في تلك الأثناء. أثناء سير النشاط، تعرضوا لبعض المناوشات من قبل فصيل طلابي آخر حاول منع التظاهرة. فدخلت عزة في مناوشة مع أحدهم وتطور الخلاف، إلى أن تدخل أحدهم لفض النزاع قائلا لرفيقه باستنكار “ماتعرفهاش هذيك شكون، شبيك ياخي؟ راهي مرت الرفيق مالك” فجن جنون عزة ونسيت سبب الخلاف الأصلي وأنكرت عليه اختصار تعريفها بمالك.
تقول عزة بانهما كانا يختلفان كثيرا ولكنهما كانا يحترمان ذلك، وبأن المسارات كانت مختلفة رغم تقاطعها في عدة احيان. فعزة مثلا حافظت دائما على حذرها من الانتظام داخل اي تجربة حزبية او مهيكلة على عكس مالك الذي انتظم داخل الحزب الديمقراطي التقدمي والتيار الديمقراطي.
في تلك الأثناء، حملت عزة بولدهما أديب فاستعصى عليها النزول إلى الساحات والمشاركة في التحركات الاحتجاجية كما في السابق. في نفس تلك الفترة كان مالك قد انخرط بكل جوارحه في “مانيش مسامح”. إثر اشتداد عود اديب قليلا أضحى مالك وعزة يتقاسمان مسؤولية رعايته، وينسقان فيما بينهما للمشاركة في التحركات الاحتجاجية. تذكر عزة مثلا كيف شارك مالك حوالي ساعة في المسيرة التي احدى المسيرات التي دعت إليها “مانيش مسامح”، ثم ذهب لملاقاتها في ساحة برشلونة أين سلµمته الرضيع وشاركت هي في المسيرة.
أحبطت عزة هي الاخرى بعد انتهاء تجربة “مانيش مسامح” وقررت أخذ مسافة من العمل السياسي، بعد أن أضحت لا ترى اي خلاص يلوح في الافق في ساحة ينخرها المال السياسي الفاسد والانتهازية. مما جعل مالك يتململ احيانا من ذلك ويدعوها بشدة إلى البحث عن اطر اخرى للالتزام. حتى أنه كان يسر لبعض اصدقائهم مازحا في بعض الاحيان “عزة ماعادش مع الثورة”.
تقول عزة بأن مالك كان يعشق كثيرا المكوث في ركنه المفضل داخل البيت، أين يعتكف لساعات ليكتب ويدخن ويطالع. وكان حريصا على اعتبار أديب صديقا له، فكان يشجعه على التدخل لتنظيم النقاش عندما يحتد بينهما. فيروق لأديب ذلك ويلعب ببراعة دور مسير الحوار. “كان يقول: أمّي، لقد عبّرت عن رأيك بما فيه الكفاية، الآن حان دور أبي“. قالت عزة ضاحكة.
كان طريقة ادارتهما للعلاقة مع لأديب طريفة كذلك، فعندما يرتكب خطأ ما لمعالجته كانوا يعمدون إلى كتابة محضر جلسة ثم يتم تعليقه على الثلاجة. وعندما ينتبه اديب إلى كونه مستهدفا بهذا المحضر من خلال مجموع النقاط التي يتم تدوينها بالفصحى والتي تعنى مثلا بمواعيد أكله ونومه. يحتج ويطالب بإعادة تلاوة المحضر. لمعالجة ذلك يضيفون بعض النقاط كضرورة تخفيض عزة من استعمالها للهاتف أو ضرورة تخفيض مالك من استهلاك التبغ، ثمّ يوقعون على المحضر ويضعونه على الثلاجة. تقول عزة بأن مالك كان يضحك من ردة فعل أديب التي يصفها بالانقلابية، حيث يعمد بعد يوم أو يومين إلى تمزيق المحضر ليعلن ببساطة أنه في حل من أي التزام وببساطة “بطل”. “كان جوا مميزا واستثنائيا ذاك الذي صنعناه داخل بيتنا” قالت عزة بحسرة.
تقول عزة بأن الحس الامني ظل يرافق مالكا حتى بعد الثورة، فمثلا عندما تهاتفه لتسأله عن مكانه كان يكتفي بعبارة “أنا بعيد”، كما كان يفعل في السابق عندما كان يتم اعتقال المناضلين عبر رصد مكالماتهم الهاتفية. لذلك لم تتفاجأ عزة عندما تأخر مالك في العودة ليلة الحادث لأنها تعودت على غيابه مع رفاقه في عدة أحيان دون إعلان وجهته.
عندما يحدث أي شيء، يظل مالك يمشي جيئة وذهابا ألف مرة بين مكتبه والصالون قبل أن يتخذ موقفه من أمر ما. لذلك تقول عزة بأن مالك لم يكن يندم على شيء، فقد كان يعيش تجاربه إلى آخرها ولكنه لا يخوض أيّ تجربة إلا بعد الكثير من التمحيص والتفكير العميق. لم يكن انطباعيا بالمرة.
تقول عزّة بأن بعض الأصدقاء كانوا يهاتفونها بعد 25 جويلية ليقولوا لها “لو كان مالك هنا لكان سعيدا” والبعض الاخر يقولون “لو كان حيا لما وافق على الانقلاب”. تعلّق عزّة “كنت أضحك لأني أعلم بأنه لو كان مالك هنا فعلا لما تسرع ولما سماه لا انقلابا ولا استكمال ثورة، كان سيأخذ وقته كاملا ويحلل الحدث بروية وربما يجترح له اسما مختلفا“.
الشغف المعرفي
أصبح مالك في السنوات الاخيرة مهتما للغاية بتتبع آثار مقبرة للجمهوريين الإسبان في القصرين، استطاع هو أن يكتشف وجوده من خلال ملاحظة عدة عوامل كنوع الأشجار وغير ذلك. شرع في تقصي آثارها من خلال سؤال كبار السن هناك حتى عثر على المقبرة فعلا التي كانت قد شيدت فوقها منازل. وأصبح هاجسه تقصي آثار الاسبان ورحلتهم إلى تونس. كان يقول بأن صفحات عدة في تاريخنا مازالت مجهولة للغاية. أصبح مهووسا بالأمر والتهم كل المراجع التي تعنى بالموضوع. ولكنّ شغفه استُغلّ، إذ كان حدّث صديقة عن الموضوع، فباحت به لرؤسائها في العمل وكتبوا عن الموضوع باعتبارهم من عثر عليها. تقول عزة بأن هذه هي معركتها القادمة التي ستخوضها لأجل مالك. سكنه الموضوع إلى الحد الذي اقترحت فيه عزة أن يستغل هذه المعارف في مذكرة ماجستير. حتى انه كتب مقالا حول الموضوع مع نواة ولكنه لم يصدر بعد. حتى أنه كان له موعد مع ثامر المكي، رئيس تحرير موقع نواة، صبيحة ليلة الحادث لمناقشة المقال معه، لولا أن الله توفاه قبل ذلك. لقد سكنه الموضوع لمدة ثلاث سنوات كاملة، حتّى أنّ عزّة كان تقول له مازحة أنّ الاسبان أضحوا يعيشون معهم ويعمرون معهم بيتهم. حتى أنّه يضع موسيقاهم في الليل ويعيش أجواءها. كانت العائلة تبرمج رحلة إلى اسبانيا إثر انتهاء قيود السفر بسبب جائحة كورونا، ولكن الأقدار شاءت غير ذلك.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد التاسع، نوفمبر 2021، ص. ص. 6-9
للاطلاع على كامل العدد: https://tiny.cc/hourouf9