الإصلاح الجبائي كمدخل لإرساء دولة المواطنة
|بقلم: حمزة عمر
بلغت نسبة الضغط الجبائي (أي نسبة الاقتطاعات الإجبارية، وأهمّها الضرائب، من الناتج الوطني الخام) في تونس 32,1 في المائة، حسب أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لسنة 2018، وهو ما يجعل بلادنا تحتلّ المرتبة الثانية إفريقيا (خلف السيشال)، علما أنّ المعدّل القاري يبلغ تقريبا نصف هذا الرقم (16,5 في المائة). تساوي النسبة المسجّلة في تونس تقريبا تلك التي نجدها في بلدان مثل كندا وبريطانيا وإسبانيا.
تكمن المفارقة في أنّ بلادنا لا تقدّم مستوى خدمات يقترب، ولو من بعيد، من المستوى الّذي تقدّمه هذه البلدان، وهو ما حدا برئيس اتّحاد الأعراف أن يصرّح في العام الماضي أنّ تونس تشكّل “جحيما ضريبيا”.
تمثّل علاقتنا، كمواطنين، بالجباية حلقة مهمّة من علاقتنا بالدّولة. الضّرائب الّتي ندفعها هي عماد الدولة، ومع ذلك، تحفى أقدامنا للحصول على أدنى خدمة من الدولة، لكي يشعرك الموظّفون في النهاية أنّهم يؤدّونها تفضّلا منهم ومنّة. أليس من التناقض أن يصبح من ندفع رواتبهم من جيوبنا متحكّمين في رقابنا؟
لعلّ المشكل يكمن في كوننا ندفع في أغلب الأحيان دون أن نعلم. فالجزء الأوفر من موارد الدولة الجبائية تُعبّأ عن طريق آلية الخصم على المورد، فلا يكاد الأجير يعرف مرتّبه الشهري الخام، إذ هو لا يرى إلّا الجزء الّذي يقع بين يديه (والّذي تدمّره فيما بعد، على أيّة حال، ضرائب أخرى)، وكأنّ ما اقتُطع مبلغ وهميّ لا يراه سوى رقما على ورقة. لو كان الأجير يحسّ بقيمة ما يدفعه، لاختلف تعامله تماما. لنتصوّر أنّ الأجراء يقبضون أجورهم خاما ويذهبون إلى القباضة المالية ليمنحوا ثُلثها للخزينة العامة. كان ذلك ليُقابل بتبرّم غير قليل.
من يضطرّون إلى فعل ذلك يجتهدون، بل ويقاومون، لكيلا يفعلوه. منذ بضعة أعوام، حاولت الدولة التقليص من دائرة الّذين يكتفون بدفع مبلغ جزافي ضئيل كضريبة على الدخل، وذلك بإجبار من يمارسون بعض المهن الحرّة على فوترة خدماتهم. قامت القيامة حينذاك، فأضرب المحامون وتظاهروا أمام المحاكم، وغزوا هم والأطبّاء المنابر الإعلامية. أذكر أنّي سمعت ممثّلا عن الأطبّاء في إحدى الإذاعات، وبعد أن عجز عن الإجابة عن حجج المذيع، لم يملك إلّا أن قال: في النهاية، لن ندفع شيئا!
تكمن المفارقة في أنّ مبدأ الرضا بالضرائب كان، نظريّا وتاريخيا، من أهمّ المبادئ الّتي زرعت بذور الأنظمة الديمقراطية الحديثة. ومفاد هذه المبدأ أنّه لا يمكن إقرار ضريبة دون رضا المواطنين أو ممثّليهم. رفع الأمريكيون إبّان حرب استقلالهم شعار “لا ضرائب دون تمثيل”، وأقرّ الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789 هذا المبدأ في فصله 14.
في بلادنا، كما في بقيّة البلدان الّتي لا تزال تعاني من مخلّفات الاستبداد، لا نرى في الضرائب سوى علامة على تسلّط الدولة. صحيح أنّ “ممثّلينا” يصوّتون على هذه الضرائب، ولكنّنا لم نبدأ في انتخابهم بطريقة ديمقراطية إلّا منذ عشر سنوات لم يقع فيها القطع مع هذا الإرث الثقيل. فتارة يقع إقرار مشاريع قوانين المالية بتعجّل كما هي لتفادي بدء السنة من دونها، وطورا يتحوّل النقاش حولها إمّا إلى مسائل تقنية عصيّة على غير المختصّين أو إلى مناكفات سياسيّة استعراضية. في جميع الأحوال، قلّما يستهدف النقاش مدى مشروعيّة الاستحواذ على أموال المواطنين، وقلّما اهتمّ به عدد يُذكر من المواطنين.
لذلك لا يبدو عموما في المخيال الجماعي أنّ التهرّب الجبائي يشكّل جريمة. هو سعي البعض لمداورة “باندي” يريد الاستيلاء على قسم من ثروتهم دون وجه حقّ. يمكن محاججة المتهرّبين بالمصلحة العامة وأهميّة الإنفاق العمومي على عديد القطاعات، ولكن بما أنّهم يشعرون أنّ أموالهم تُنتزع منهم دون رضاهم (فضلا عن إنفاقها فيما لا يعني)، لم سيبالون بذلك؟
إنّ آلية مثل الخصم على المورد توفّر ولا شكّ مداخيل مضمونة لخزينة الدولة، ولذلك تستسهل الدولة الرفع من نسبة ما تقتطعه من الأجراء كلّما احتاجت ذلك. لكنّ هذه الآلية تشكّل حتما مظهرا لانخرام العدالة الجبائية، ببساطة لأنّها تمنع الأجراء من التهرّب الّذي يمارسه غيرهم من الخاضعين للضريبة! إنّ الأجراء لا فقط لم يوافقوا على وجود الضريبة من أصلها (عن طريق ممثّليهم) بل أنّهم حتّى لم يدفعوها بأنفسهم!
هناك مقولة ليبرالية مفادها أنّ الضريبة سرقة مقنّعة. وبعيدا عن شطط أصحابها، لا شكّ أنّ أخذ شيء من مالكه دون رضاه سرقة. لعلّ ذلك من دواعي تهاون المواطنين في التعامل مع كلّ ما هو “عمومي”، فهو في خاتمة المطاف تمظهر ما تسرقه الدولة منّا.
لا يمكن بناء دولة مواطنة دون إعادة بناء علاقتنا مع الجباية. من المؤسف مرور عشر سنوات على الثورة دون القيام بأيّ خطوة فعليّة في اتّجاه الإصلاح الجبائي. إذا لم يتحوّل المرء إلى دافع ضرائب واع تماما بما يُقتطع منه ودواعيه، وقادرا على الوقوف في وجه أيّ موظّف عمومي مهما علا شأنه صارخا في وجهه: أنا من أدفع مرّتبك من جيبي، لن تكون المواطنة في بلادنا غير مواعيد عرقوب…
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد التاسع، نوفمبر 2021، ص. 3.
للاطلاع على كامل العدد: https://tiny.cc/hourouf9