الصندوق الوطني للتعويض: أيّ جدوى؟
|بنت الدولة التونسية منذ الاستقلال سياسةً اجتماعية تهدف إلى تحقيق الأدنى من التوازن بين مختلف شرائح المجتمع ومحاولات إيجاد عدالة في توزيع الثروات بينهم، وفي هذا الإطار اهتمت الدولة بالتحويلات الاجتماعية التي رصدت لها ميزانية ضخمة وتدخلت في عديد المجالات كالصحة والتعليم والسكن ، ومن بين هذه الآليات نجد الصندوق الوطني للتعويض الّذي أحدث منذ سنة 1971 والّذي يقوم بتدخل في جملة من المواد الغذائية والحياتية لتعديل سعرها في السوق بما يتناسب والطاقة الشرائية للمواطنين وخصوصاً منهم ضعاف الحال. وقد ارتفع المبلغ الجملي للتعويض بالنسبة للسنة الحالية عمّا كان مقرّرا في ميزانيّة 2011 ليبلغ 1256 مليون دينار (مقابل 700 مليون دينار كانت مقرّرة).
إلا أن عمل هذا الصندوق أبرز العديد من الهنات والإخلالات التي جعلته يحيد عن هدفه الأساسي ويفقد بذلك الغاية الأساسية من إنشائه وهي محاولة تحقيق شيء من المساواة الاجتماعية .
فمن ناحية أولى، فإنّ تدخلات الصندوق تشمل جميع شرائح المجتمع دون استثناء أو تمييز بين من هو بحاجة بحق لهذا التدخل ومن هو في غنى عنه (فأسعار المواد الغذائية مثلاً تسري على الجميع، الأغنياء والفقراء، بل وحتى أصحاب المشاريع الذين يتربحون من خلال بيعها بعد استغلالها في منتجاتهم)، بل والأدهى والأمر أنه يقوم حتى بدعم منتجات لحساب فئات معيّنة على حساب أخرى من المفروض أنها المستهدفة الأولى من برامجه ( كدعم المحروقات الذي يستفيد منه مالكو السيارات)
كرم هذا الصندوق لا يقف عند أهل الوطن فقط بل يتعداه حتى يشمل بعطفه وكرمه زوارنا من الأجانب السائحين الذين يتمتّعون باستهلاك تلك المواد بنفس الأسعار المدعومة (خصوصاً الزوار الليبيين والجزائريين). بمعنى آخر، فإنّ دافعي الضرائب التونسيين (وأغلبهم من الموظفين)يدفعون أموالهم حتى يستفيد منها زوار تونس بنفس الكيفية وربما أكثر من مواطني البلد نفسه.
أضف إلى ذلك أنّ اعتماد الأسعار المدعومة وغير الحقيقيّة مقارنة بأسعار السوق بنسبة لبعض تلك المواد خصوصاً الغذائية منها تشجع عملية التهريب نحو الأسواق الخارجية نظراً لانخفاض ثمنها مقارنة بمنتجات تلك البلدان ( كالتهريب الدائم نحو السوق الجزائرية ) أو ذلك المرتبط بظرفية معينة كالتي تعيشها المنطقة من خلال الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا والتي أفرزت تضخماً واضحاً لحركة التهريب في تلك المنطقة وبالخصوص المواد الأساسية والمشمولة في معظمها بدعم الصندوق، ممّا أفرز نقصا واضحاً في تزويد السوق المحلية.
وبالتالي فإنّ عمل هذا الصندوق قد حاد عن مبادئه الأساسية كعامل من عوامل تحقيق العدالة والتوازن الاجتماعيين بل وأصبح في عمله يشع على عديد الأطراف، إلا تلك التي أحدث من أجلها !
والحل هنا لا يكون إلا بإلغاء هذا الصندوق وإراحة كاهل المجموعة الوطنية من عبء ميزانيته الأخذة في التضخم دائماً واعتماد الأسعار الحقيقية في المواد التي كانت مدرجة ضمن مجال تدخله .
غير أنّ هذا الإلغاء ليس الهدف منه رفع يد الحكومة عن واجبها في إعالة مختلف شرائح الشعب ومحاولة تحقيق ولو البعض من المساواة الاجتماعية، هذا الدور سيتخلى عنه الصندوق ليأخذ طابعاً أخر ، ماليّا شخصياً ومباشراً بالأساس. ويكون ذلك بإيجاد منحة شهرية أو ثلاثية تدفع لأرباب العائلات تعويضاً لهم عن الفارق الذي سيحصل مع ارتفاع الأسعار بعد إيقاف عمل الصندوق. هذه المنحة والتي تكون مدمجة في الأجور تحقق لمستحقيها أكبر قدر من الشفافية وتضمن أن يذهب الدعم لمستحقيه الحقيقيين. و لضمان العدالة في توزيع هذه المنح، يمكن اعتماد المؤشرات الجبائية حيث تدفع المنحة إلى الطبقات الأقل دخلاً والتي هي منطقياً الأكثر حاجة لدعم قدرتها الشرائية في مواجهة غلاء الأسعار في الأسواق وتنخفض كلما ارتقينا أكثر في درجات الدخل حتى تنعدم تماماً مع أصحاب الدخل المرتفع والذين هم أساسا ليسوا بحاجة لهاته الهبة الحكومية .
وأيضاً ولمزيد من العدل في التوزيع، فإنه من الضروري أيضاً الأخذ بعين الاعتبار كل العوامل التي من الممكن أن تؤثر في دخل العائلة كأن تضيف على كاهلهم عبء أشخاص آخرين (عدد الأطفال في كل عائلة، والآباء في الكفالة، ذوي الاحتياجات الخاصة …) وبالتالي يقع ضمان أن تستفيد كل عائلة بالقدر الذي تستحقه والّذي يضمن لها العيش الكريم .
بهذه الطريقة يمكن التوفيق بين السعي للارتقاء بكل شرائح المجتمع التونسي وخصوصاً أصحاب الدخل المحدود منهم ، مع المحافظة على المال العمومي و إنفاقه إنفاقا رشيدا حتى لا تظل أموال التونسيين مجالا مشاعا لكل أنواع السرقة والنهب والاستغلال.