مواطنة منقوصة
|بقلم: عبير الكوكي
أصبحت الهوية مع تشييد الدول الأمم الحديثة شأنا للدولة التي أصبحت متصرفا فيها تسن لها الترتيبات وتضع لها الرقابات. 1
فليس لكل المجموعات سلطة التماهي نفسها إذ هي تتوقف على الموقف المكتسب في نسق العلاقات التي تربط بين المجموعات ليس لكل المجموعات النفوذ نفسه في إطلاق التسمية وفي تسمية نفسها.
وحدهم أولئك المتمتعون بالنفوذ الشرعي مثلما شرح ذلك بورديو في مقال كلاسيكيا وهو “الهوية والتمثل “أي النفوذ الذي تكسبهم إياه السلطة يمكنهم فرض تعاريفهم الخاصة لذواتهم وللأخرين2.
وكما يشير بورديو في نفس المصدر إلى أن مجموع التعاريف الهوياتية تشير إلى أنها نسق تصنيف يحدد لكل مجموعة ما لها أن تحتله من مواقع كما يؤكد أن للنفوذ الشرعي سلطة رمزية في أن يفرض الاعتراف بوجاهة مقولات تمثله للواقع الاجتماعي ولمبادئه الخاصة في تقسيم العالم الاجتماعي وبالتالي في أن يشكلها أو يفككها.
إنّ تحديد هذه المجموعات (المجموعات التي لا تتمتع بصفة الشرعية) يتم اعتمادا على مميزات ثقافية خارجية تعتبر ملازمة لها، وكونها مختلفة أو بالغة الاختلاف هو ما يبرر تهميشها لا بل إضفاء صفة الأقلية عليها إلى الحد الذي يمنع تشريكها في قيادة المجتمع، وبالتالي فإن الإقرار بالاختلافات يعني الاعتراف بالخصوصيات الثقافية أقل مما يعني إثبات الهوية الشرعية الوحيدة وهي هوية المجموعة المهيمنة، تنزع الدولة الحديثة نحو التعريف الأحادي للهوية، وذلك إما بألا تعترف إلا بهوية ثقافية واحدة لتحديد الهوية القومية (وهذه في حالة فرنسا) وإما بقبولها بتعددية ثقافية ما داخل الأمة، بأن تحدد هوية مرجعية تكون وحدها شرعية بحق (وهذه في حالة الولايات المتحدة الأمريكية ).
لذلك فإن المجموعات التي لا تتمتع بصفة الشرعية لدى الدولة آليا لا يمكنها الدفاع عن مواقعها ولا عن إثبات هويتها وتكون بالتالي عرضة للتفكك وبالتالي إلى نوع من أنواع “الوصم الاجتماعي” على حد تعبير غوفمان، “وصم” تثبته القوانين ويتبناه المجتمع ويمارسه.
وفي هذا السياق يحيلنا الفصل الأول من دستور 2014 إلى العديد من التساؤلات حول معنى الهوية والمواطنة والمدنية.
يبدو جليا حسب الفصل الأول والثاني من الدستور تأرجح الدولة بين المدنية والشريعة وعدم الفصل بينهما مما ينتج عديد الثغرات التي يمكن من خلالها تطويع القوانين حسب المصالح الذاتية فالمشرع لم يكن حاسما في العديد من المسائل كالدين واللغة وهذا غالبا ما يفتح المجال للحديث عن مدى انفتاح الدولة على الأخر (الاخر الدين، الاخر اللغة…) ومدى تطبيقها لمبدأ تساوي المواطنين أمام القانون باختلاف جنسهم او لونهم او معتقدهم أو لغتهم.
1- نماذج من الممارسات التمييزية ضد المجموعات التي لا تتمتع بصفة الشرعية لدى الدولة
يمكن أن يكون الفصل الأول في وجه من وجوهه تعبيرا عن التناقض في توجهات الدولة وعن إقصائها لبعض الفئات التي تفتقر للهيمنة الشرعية إضافة إلى الفصل 6 من الدستور والذي ينص على أن “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية ،ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي” وهو بدوره يتميز بالازدواجية في الخطاب الذي من جهة تحمي فيه الدولة المقدسات وترعى الدين ومن جهة أخرى هي كافلة لحرية المعتقد والضمير وهذا يطرح العديد من التساؤلات حول ضمانات حق الاختلاف في تونس في ظل واقع يتميز بضبابية أفقه الاستراتيجي.
التمييز على أساس الانتماء الجغرافي أو المجالي: “هماّ مين وإحنا مين”
يتجلى التناقض بين القانون والواقع في بعض الممارسات التي شهدناها بعد الثورة وإلى الآن والتي تمارسها الدولة بمختلف أجهزتها، وخاصة العنف الذي مارسه البوليس باعتباره جهازا من أجهزة الدولة لقمع احتجاجات جانفي والاحتجاجات التي تلتها، والايقافات التي شملت حتى القصّر والتتبعات الأمنية لبعض الناشطين سياسيا وصولا إلى احتجاجات سيدي حسين و(حادثة تجريد مواطن من ملابسه وتعنيفه).
ورغم أنّ الفصل 23 من الدستور ينصّ أنّه “تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وتمنع التعذيب المعنوي والمادي ول اتسقط جريمة التعذيب بالتقادم”، فإنّ أحياء مثل “سيدي حسين” تعاني من الإقصاء المجالي من التهميش والبطالة وارتفاع معدل الجريمة من القمع الأمني والوصم وغالبا لا يراكم سكانها رساميل اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية تضمن لهم حقهم في المواطنة وتحميهم من البطش الأمني. ففي دراسة أجراها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في شهر نوفمبر2020، أي قبل الاحتجاجات بشهرين فقط وشملت شبابا من فئات عمرية مختلفة من الكبّارية وسيدي حسين والمروج، اعتبر أكثر من 80بالمائة من العينة (805مستجوب) أنهم يعيشون في مجتمع غير منصف؛ فهم يعتقدون اعتقادا راسخا في عدم المساواة أمام القانون حيث تسود الزبونية والمحاباة وسلطة الأقوى وتقديم “المعارف” و”الناس الواصلة” على البقية3.
ويرى 70بالمائة من المستجوبين أن الدولة لا تلبي الحاجيات الأساسية لمواطنيها بل على العكس تمارس عليهم العنف. تعكس عديد المؤشرات التي وردت في الدراسة حجم الإحساس بالدونية “الحقرة” و”القهر” لدى فئات واسعة من الشباب التونسي، وهو ما يجعل من الاحتجاج أو حتى الثورة نتيجة منطقية. وتشير نفس الدراسة إلى أن 74.6بالمائة من العينة يعتبرون أن صوتهم غير مسموع. كما يرى 55.3بالمائة أنهم لا يحظون بالاحترام، هذا علاوة على العنف الاقتصادي والتمييز الاجتماعي المقترنين بالاحتقار الطبقي أو الفئوي الاجتماعي؛ فبالنسبة لهؤلاء الشبان لا تحيل عدم المساواة إلى البعد الاقتصادي والاجتماعي فحسب بل ينظر إليها كمظلمة سياسية ورمزية ومعنوية4.
هؤلاء وغيرهم مواطنون أقل من العادة. هم لا يراكمون رأسمال اقتصادي وعلائقي وشبكي ولا ينتمون إلى حدود المركز المحرّمة، هم لا يكتسبون حصانة تحميهم من “السيستام”.
التمييز على أساس الدين والهوية الجندرية
إلى الآن لا تزال هناك أحكام تميزية سارية نذكر منها الفصل 74من الدستور والذي ينص أن من شروط الترشح للانتخابات الرئاسية أن يكون المترشح مسلما، بالإضافة إلى أن بعض أحكام المجلة الجزائية الصادرة سنة 1913تمييزية ومقيدة لممارسة بعض الحريات الفردية؛ وذلك بالرغم من التنقيحات المُدخلة عليها، ففي أغلب الأحيان؛ تعدّ ممارسة الفرد لحرية الضمير والفكر والتعبير عن أفكاره اللادينية مسا بالنظام العام أو بالأخلاق الحميدة (الفصل121ثالثا) أو مواجهة الغير بوجه يخل بالحياء (الفصل 226مكرر)، وهو ما أدى إلى إيقاف ومعاقبة الأفراد على أساس اختيارهم الحر للسلوك والتعبيرات والمظاهر؛ وغالبا ما تطبق هذه الفصول على السلوكيات التي تفضح الهوية الجنسية على أساس اللباس مثلا: رجلا يرتدي ثيابا نسوية أو يضع مساحيق تجميل (مغايري اللباس أو المشار إليهم بالتشبه بالجنس الاخر… )، بالإضافة إلى الفصل 230من المجلة الجزائية الذي يجرّم “المثلية الجنسية” والذي يعتبر تهديدا للحياة الخاصة للأشخاص ذوي الهوية الجنسية غير المعيارية، والأشخاص ذوي الجنس غير المعياري ، والأشخاص ذوي التعبيرات الجندرية غير المعيارية؛ كما يمكن أن يصبح هذا الفصل أداة قمعية بيد الشرطة؛ ففي غالب الأحيان وفي صورة غياب أي اتصال جنسي بين شخصين من نفس الجنس يمكن للنيابة العمومية أن توجه تهمة ارتكاب فعل “اللواط”على معنى الفصل 230على أساس أدلة أخرى وذلك من خلال البحث في المعطيات الشخصية للمشتبه فيه والموجودة في هاتفه أو حاسوبه الشخصي هذا بالإضافة للالتجاء لوسيلة اثبات غير قانونية وهي “الفحص الشرجي “5.
القانون 52: القيد في المعصم
ينص القانون 52 لسنة 1992 على الحكم بالسجن على مستهلك مادة القنب الهندي أو ما يعرف “بالزطلة” وهذه العقوبة تعتبر زجرية؛ نظرا لما ينجر عن ذلك من انتهاكات يمكن أن تلحق بالمستهلكين داخل السجن ونتائج هذه الأضرار يمكن أن تصاحب الشخص مدى الحياة؛ خاصة وأن هذا يعتبر حيادا على الهدف الذي أعلن عنه المشرّع ألا وهو حماية المجتمع وإصلاح الخارجين عن نواميسه.
ربما كان من الأجدى إيجاد حلول حقيقية للمدمنين على هذه المادة خاصة في ظل غياب كلي لمراكز العلاج وغياب التفكير في تقنينها رغم ما سيوفره ذلك من عائدات مالية للدولة، إن للسلطة مصلحة مشروعة في التصدي للأضرار الاجتماعية للمخدرات إلا أن استهلاك القنب الهندي على وجه الخصوص اختيار شخصي لا تعود مضاره –إن وجدت – إلا على الفرد (مستهلكها) ويدخل استهلاكها ضمن دائرة الحريات الفردية.
2-الأشكال الاحتجاجية على الممارسات التمييزية للدولة
إن الهوية سواء كانت رمزا أم وصما، تكون أداة تستخدم في العلاقات ما بين المجموعات الاجتماعية لذلك لا ينصب كل جهد الأقليات على استعادة تملك الهوية، إذ كثيرا ما تسلّم لها المجموعات المهيمنة بهوية مخصوصة، بقدر ما ينصبّ على استعادة تملك وسائل تحديد هويتها بنفسها وفق معاييرها الخاصة ويتعلق الأمر بالنسبة إلى هذه الأقليات بتحويل الهوية المتغايرة التي غالبا ما تكون هوية سلبية إلى هوية إيجابية. في البداية تعبّر الثورة ضد الوصم عن نفسها بقلب سمات الوصم؛ كما هو الشأن في المثال النموذجي الأسود جميل black is beautiful ثم يكون الجهد في فرض تعريف مستقل للهوية، إذ نسجّل مثلا ظهور المطالبة بهوية “افريقية أمريكية” أو هوية “مسلمون سود” أو “يهود سود”6.
في هذا السياق وفي الوضع التونسي ينبغي أن نشير إلى مجموعات الألتراس كفاعل احتجاجيا كان قبل 14جانفي 2011 ولازال منخرطا على طريقته في الفعل الجماعي المنادي بالحرية والمعادي لمنظومة الحكم البوليسية. فهذه المجموعات لم تنج بدورها من الممارسات القمعية لأجهزة الدولة؛ وتمثل حادثة غرق محب النادي الإفريقي عمر العبيدي بعد مطاردة الأمن له وإجباره على السباحة في واد مليان مثالا على العنف المسلط على هذه المجموعات، على إثر هذه الحادثة غزى هاشتاغ ” تعلم عوم” وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجا على الممارسات التي يمارسها البوليس ضد هذه المجموعات خاصة وأنه المتهم الرئيسي في هذه الحادثة 7، وقد وصل الأمر قبل هذه الحادثة إلى مقاطعة التراس “نادي الترجي الرياضي التونسي” للمدرجات منذ جانفي 2018 وذلك ايمانا منها بأن المدارج للجمهور و مطالبتها برفع يد وزارة الداخلية عن الملاعب ، ومحاسبة أعوانها المذنبين في حق الجماهير والسماح بإدخال وسائل التشجيع إلى الملاعب لتستمر حملة المقاطعة إلى ستة أشهر إلى أن استجابت السلط لمطالب الألتراس8.
على حدود الملاعب وفي سياق أخر يثور الشباب للمطالبة بإلغاء القانون 52 في جانفي 2020 على خلفية حكم بالسجن مدته 30سنة أصدرته محكمة الكاف في حق ثلاثة شبان استهلكوا مادة القنب الهندي داخل ملعب رياضي. أُثار هذا الحكم غضب فئة هامة من الشباب الذين خرجوا في مسيرات معبرين عن رفضهم ومطالبين بمراجعة القانون؛ حيث انتشر هاشتاغ “الحبس لا بدل 52” على مواقع التواصل الاجتماعي كرد فعل رمزي لإلغاء العقوبة السجنية نظرا لتداعياتها الخطيرة على الفرد والمجتمع، حيث أن تجريم “الحشيش” أو”الزطلة” ومحاربة استهلاكها وتجارتها جعل جزءا من المستهلكين عرضة لاستهلاك أسوأ الأنواع و لذلك مضار صحية واجتماعية وخاصة أمنية لأن المخدرات الرخيصة المتأتية من الأدوية كالسوبيتاكس والترويكا والكيتامين يمكنها تحويل مستهلكها، على عكس “الزطلة” ، إلى شخص عنيف وغير قادرا على التحكم التام في تصرفاته بل وفاقدا للوعي أحيانا ونتيجة لذلك يوصم العديد من الشباب “بذوي السوابق “مما ينجر عنه حرمانهم آليا من الوظيفة العمومية ومن أيّ عمل يرى فيه المشغّل، أنّ من عوقب بسنة سجنا ليس عاملا/موظفا يؤتمن جانبه؛ وكذلك تحدّ من حظوظهم في الحصول على تأشيرة سفر لدول الغرب التي تدقق وكالاتها، بالتنسيق مع وزارة الداخلية، في وجود سوابق عدلية لمن ينشدون النفاذ إلى ترابها9.
يمكن اعتبار هذا القانون، نظرا لما ذكر سابقا، حجة تؤكد بها الدولة بعدها التام وانفصالها عن المجتمع وفوقية قوانينها التي لا تنم عن مشرّع عارف بخصوصيات ومشاغل المجتمع بل عن مشرّع منفصل عن الواقع غير مدرك لمتغيراته، وغير متصالح مع السيرورة والتحولات المجتمعية، لا مواطنة لمن تصادر حريته والحرية هي مبدأ أساسي في هذه المقاربة.
في سردية مختلفة عن الملاعب ومعاركها، في الهامش الكبير الذي يصنع المعارك ويخوضها باختلاف الفاعلين وأساليب الاحتجاج واختلاف السياقات تناضل نسوة منزل بوزيان في سعيا منهن للثورة عن الظلم والهامشية والتمييز الممارس من المجتمع والدولة فالوضع الاجتماعي للمرأة في منزل بوزيان -كمنطقة هامشية- مختلفا عن وضعها في المراكز الحضرية فهي تعيش تهميشا مزدوجا؛ حرمانا من الشغل بسبب فشل السياسات الاجتماعية للدولة وخضوعا للهيمنة التي يمارسها مجتمع ذكوريا يتدخل في تحديد خيارات المرأة وأسلوب عيشها، وفي هذا الصدد ورد في شهادة إحدى المشاركات في الحملة “تصور في 2018المرا تاكل طريحة خاطر لازمها تشاور باش تقص شعرها ” مشيرة أيضا إلى عدم وجود أطر ثقافية تسمح للنساء بفسحة للترفيه، تتشابك الدوافع بين ما هو اجتماعي وبين ما هو متعلق بالذهنية الابوية التي تتغذى من صورة قديمة للمرأة، مقترنة بالنقص وعدم الأهلية وهنا نتحدث عن “حركة مانيش ساكتة”
التي نشأت من أجل المطالبة بالتشغيل وادماج المرأة في المجتمع المدني والسياسي على غرار الرجل وقد رسمت الحركة صورة مغايرة للمرأة المكافحة التي تقطن المناطق المهمشة من قبل الدولة ،هذه الحركة بدأت باعتصام في منزل بوزيان ثم إضراب جوع في المعتمدية وصولا إلى التوجه نحو العاصمة والاعتصام بالقصبة حيث توجت هذه النضالات بتأسيس جمعية “مسيرة17” التي تعد أول جمعية نسوية في منزل بوزيان وقد بدأت بالقيام بدراسات ميدانية من أجل تبليغ أصوات النساء المعنفات والمضطهدات كما تسعى إلى القيام بنشاطات لفائدة النساء والأطفال10.
عبّرت نساء منزل بوزيان عن ثورة الهامش بانخراطهن كفاعلات اجتماعيات في تغيير الواقع الاجتماعي برفضهن للتهميش الاقتصادي والاجتماعي والتمييز الجندري وعن حقهن في المواطنة، فالفاعلية النسوية التي جسدتها حركة “مانيش ساكتة” خلقت حركية داخل مجتمع هامشي تميز “بالعطوبة” الاقتصادية والاجتماعية.
يستمر الأفراد والمجموعات في صراعات الترتيب بكل ذواتهم الاجتماعية؛ بكل ما يحدد الفكرة التي يحملونها عن ذواتهم، بكل اللامفكر فيه الذي يتشكلون عبره بوصفهم “نحن” في تقابلهم مع “هم” أي “الآخرين”11. هذا الصراع من أجل كسب الاعتراف يمكن أن يتحول إلى ردود أفعال متطرفة أو عنيفة نتيجة التيه الهووي الذي يشعرون به وهنا نتحدث عن شباب الهوامش الذين يتعرضون للإفراد والاقصاء المجالي والعنف الاقتصادي والاجتماعي حيث يراكم السكان الفقر والبطالة والقمع الأمني والوصم.
هذا النوع من التيه الهووي الذي يسكن هؤلاء الشبان الباحثين عن الاعتراف، هو الذي يدفعهم إلى تبني قضية وأسلوب عمل متطرف وراديكالي كحل متوهم لسعيهم الهووي؛ إذ يكتسي الفعل الأيديولوجي العنيف محاولة متطرفة للدفاع عن الهوية فالشعور العام بالظلم يزداد تأكيدا طالما أنه لا يطال الفرد فحسب بل يتعداه إلى المجموعة بأكملها وهذا يحيل هؤلاء الشبان إلى صورة سلبية عن أنفسهم ويشجّع على اللجوء إلى روابط تضامن آلية ويضخم من انعدام الثقة في الدولة والعزوف عنها وعن المجتمع باعتبارهما فضاءين عاجزين عن الإدماج12. تستبطن هذه الفئات العنف المسلط عليها من الدولة كمحتكرة للعنف الرمزي والهيمنة وتسعى لتقنينها ومن المجتمع الذي يرفضها لتنخرط في منظومة أخرى مغايرة كنوع من رد الاعتبار وتعيد انتاج العنف بطرق أخرى تخوّل لها انتزاع اعتراف بهويتها وتقر بوجودها.
هذا الشعور الجماعي بتحمل الظلم يولّد لدى أعضاء أي مجموعة تقع ضحية تمييزا ما شعورا بالانتماء إلى الجماعة، التي يكتسب التماهي معها قوة مطالبة أكبر وخاصة أن تضامن الجميع ضروري من أجل كسب الاعتراف. وربما ما يجمع بين كل هذه الحركات الاجتماعية هو ما يعتبره تشارلز تيلي “شعور عام بالضيم”13.
خاتمة
إنّ ما يميز الهوية هو خاصيتها غير القابلة للحصر فهي متجددة ومتغيرة لا تقبل الانغلاق وهذا مالا تتبناه الدولة وما تسعى لنفيه متغاضية عن المسارات التي يمكن أن يتوخاها الفاعلون نتيجة لهذا الأسلوب القمعي المغيب للآخر بكل تمثلاته. إن السياسة الإقصائية قد تدفع الفاعلين الاجتماعين إلى الثورة ضدها وهذا ما لا تدركه مؤسسات الدولة الحديثة التي تسعى جاهدة إلى دفع الأفراد إلى الحافة حيث تجبرهم على تبني الخلاص الفردي أو التضحية بالمجموعة في سبيل هوية معلنة ينصهر الجميع داخلها.
لذلك يبقى للفاعل الاجتماعي دور في الفهم والحراك والثورة فالمجتمع هو القوة الأبرز القادرة عن التغيير وعن التعبير عن الرفض برسم ملامح جديدة للسياسات تتلاءم مع كل الشرائح باختلافاتهم وتحقق العدالة الاجتماعية وتتبنى مبادئ الحريات الأساسية وقيم المواطنة وبالتالي تؤسس لديمقراطية فعلية.
الهوامش
- منير السعيداني، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007، ص. 158
- نفس المصدر، ص ص. 156-157
- المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومحامون بلا حدود، البعد الاجتماعي في فهم ظاهرة التطرف العنيف، نوفمبر 2020، ص39.
- المصدر نفسه، ص38.
- محمد أمين جلاصي، تقرير تحليل بيانات عن حالات التمييز التي تم تجميعها عن طريق النقاط ضد التمييز، النقاط ضد التمييز، تونس، مارس 2020، ص6
- منير سعيداني، ذكر سابقا، ص160
- شيماء بن رجب، سوسيولوجيا الفعل الجماعي منذ 14جانفي 2011 تعدد طرق الانخراط وتنوع أشكال الاحتجاج، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ص105
- زياد زراعي، “الألتراس التونسي: النشأة، السياقات، المبادئ“، في سوسيولوجيا الاحتجاج والتنظم لدى الشباب التونسي، منظمة راج تونس، سبتمبر2018، ص 165
- سفيان جاب الله، الشعب يريد: عودة الدولة أم صيرورة الثورة أم كلتاهما معا؟، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، نوفمبر2021، ص67.
- نفس المصدر، ص143
- منير السعيداني؛ مصدر سابق، ص 160
- البعد الاجتماعي في فهم ظاهرة التطرف العنيف، مصدر سابق، ص 53
- تشارلز تيلي، الحركات الاجتماعية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،2004،ص15
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 11، جانفي 2022، ص. ص. 6-9.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf11.tounesaf.org