كيفما تكونوا يولى عليكم
|منذ ما يزيد عن عامين لهجت الأفواه بكلمة خفيفة على اللسان غامضة على أفهام السواد الأعظم من الشعب التونسي، ألا وهي “الثورة” و تسارعت الأحزاب إلى تجهيز برامجها لخوض الانتخابات و كان لها ما أرادت في بضعة أيام‼ و أخذت تعد بالنماء و الرخاء. هذا ما حدث في “جزيرة” السياسيين أما عامة الشعب فبعد أن رفع شعار “خبز وماء و بن علي لا” وجدناه، بعد 14 جانفي، يتهيأ لأخذ نصيبه مما بقي من “مغارة” بن علي و أصهاره و شهدنا نهبا للمال العام ليس من بارونات الفساد هذه المرة بل حان الوقت لكي يأخذ المعدم و المفقر حصته أيضا فشهدنا فضيحة “الحظائر” فحتى الموتى و الحيوانات الأليفة لها نصيب مفروض و كله مبرر بسنين التفقير والتهميش. أما أصحاب الوظائف فهم ليسوا بحاجة للتحيل فلهم اتحاد الشغل الذي لا هم له إلا تعطيل “الشغل” بدعوى جلب منافع للشغالين الذين لا يشتغلون. أما بقية فئات المجتمع فلكل معول حمله و عزم أمره على هدم بعض الأسس عله يحظى بنصيبه وتلك فرصة العمر. فهذا قاطع طريق و ذاك أغلق مصنعا و أخر ينتظر “خبزة باردة” من الدولة أو من جمعية خيرية ….أنها ثورة “الجياع” و سموها توهما ثورة “الحرية والكرامة”.
أما “جزيرة” الإعلام فتلك أم الكوارث. فقصف الإعلام النوفمبري متواصل، ظاهره دفاع عن المعدم المسكين و باطنه إثارة النوازع الحيوانية للوصول إلى الهدف المنشود جنبا إلى جنب مع النظام القديم في ظل تعاون كل الأطراف بصفة مباشرة أو غير مباشرة.أما على المستوى الإقليمي و الدولي فتلك قصة أخرى؟ لا أحد يتحدث عنها ولا أظن أن أحدا يعي خطورة ما يدور فيها من حسابات قد أثبتت الأيام أنها اللاعب الرئيسي فيما يجري في بلدنا من مطبات. وهكذا أخذ كل دوره في المشهد الجديد الذي تدعم إثر انتخابات 23 أكتوبر بانقسام في جزيرة السياسيين إلى أحزاب حاكمة تجهل مخاطر و مقتضيات المرحلة و معارضة كسر العظام. و وسط هذا الأرخبيل الواقع فوق فوهة بركان رأينا الكل يلهج باسم “الثورة و أهدافها”. فعن أي ثورة يتحدثون؟ ثورة “العبيد” أم ثورة “الأحرار”؟ فكيف لشعب يتمنى رجوع بن علي، بمجرد إغلاق المخابز ليومين ويدعي أنه قام بـ”ثورة حرية و كرامة” أن يحاول كسر عظام الدولة والانصياع الانتهازي لاتحاد الإضرابات؟ “فان أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون” ألم يخطر بباله أن تحقيق الأهداف العظمى تتطلب تحمل الصعاب والمشاق “إذا كانت النفوس عظام تعبت في مرادها الأجسام” و لكننا لم نتهيأ لإرساء مشروعنا الحضاري العظيم بل لم نفكر فيه بعد؟ فهل تصورنا أن محاربة الفساد والمفسدين ستكون بدون مخاطر و بدون تضحيات؟ فأي سذاجة هذه؟ و هل تصورنا أن “القوى الاستعمارية” ستتخلى بسهولة عن مصالحها؟ إذا كان يجب أن نتهيأ لخوض حرب ضروس من أجل تحقيق كرامتنا و حريتنا و ليس التهيؤ لأخذ نصيبنا من الكعكة؟ وهذا ما لم يعه الساسة بل رأيناهم يتوددون لهذا الشعب ويصفونه بالعظمة. فعن أي عظمة يتحدثون؟ فلو ترك لنا بن علي شعبا عظيما قادرا على خوض هذه “الحرب” لما أصبح من حقنا أن نطرده. و لكن هذا صنيع السنين العجاف، و لا عجب. فالشعب الذي يتحمل المصاعب و التضحيات لأجل الوصول إلى غايات عظمى لم يكن بن علي قد أعده، بل حان الوقت لصناعته.
إن أكبر ثورة في تاريخ البشرية هي ثورة النبي محمد عليه الصلاة و السلام و أصحابه على الشرك و المشركين و بالرغم من تكفل المولى بحماية رسالته إلا أن محمد صلى الله عليه و سلم أمضى 13 سنة في إعداد قادة هذه” الثورة” وسط تنكيل و تعذيب وتشريد قريش لهم و لم نرى أحدا منهم ارتد أو سخط على هذا الدين أو حتى تبرم من شدة ما تعرض له من عذابات دامت سنين. ثم رأينا هؤلاء الصابرين المرابطين قد فتح الله بهم مشارق الأرض و مغاربها فأولئك الحفاة العراة الذين و قع تشريدهم و تعذيبهم و تقتيلهم أصبحوا يمثلون أعظم قوة على وجه الأرض بعد أن تخرجوا من المدرسة المحمدية. فكم نحن بحاجة إلى التمعن في هذا التاريخ‼ و كم نحن في حاجة إلى استنساخه مع مراعاة الفارق في الزمن عوض أن نحاول استنساخ الانقلابات. كم نحن في حاجة إلى ثورة أخلاقية قيمية إذا كانت غايتنا بالفعل “الحرية” و “الكرامة”. فكيف خطر ببالنا، شعبا و نخبا و ساسة، أنه بإمكاننا أن ننهض و بدون تضحيات. وكيف ظن أصحاب مقولة تحقيق أهداف الثورة أن الطريق ممهدة أمامهم و أن الوقت قد حان للقطاف؟ ألم يعوا بأن موسم الحصاد يسبقه بذر و عمل و كد و تضحيات؟ وكيف نطالب الحكام بأن يقاوموا الفساد و المفسدين و يتصدوا لقوى الردة و يصارعوا إرادة القوى العظمى بدون أن نعطيهم تطمينات بأننا مستعدون للتضحية ولمواجهة كل المخاطر في سبيل صناعة مجدنا و عزتنا؟ فكما تكونوا يولى عليكم .