أخلاق المسؤولية: هل لنا مسؤولية تجاه الذين لم يولدوا بعد؟
|بقلم: مريم مقعدي
لئن عبّرت الفترة الحديثة عن وعي جديد للإنسان تم من خلاله تأكيد أبعاد جديدة له مثل الحرية والمسؤولية باعتباره سيدا ومالكا للطبيعة، إلا أن ذلك الوعي في الفترة الحديثة انتهى إلى استنزاف الطبيعة وتخريبها، ذلك أن الإفراط في الحرية جعل من الإنسان كائنا لا أخلاقيا – في حين أنّ الأخلاق تعرّف قديما بالحريّة- مما أدّى إلى انهيارها.
تجاه هذا التحول الصارخ الذي سببه الإفراط في استخدام التقنية، يبدو أن مهمة الفلسفة اليوم هي “استبصار أبعاد جديدة للمسؤولية” في علاقتنا بالطبيعة، باعتبار أن الوضعية التأويلية للأخلاق قد تغيرت تغييرا حاسما.
تجاه هذا الإشكال، يرسم لنا الفيلسوف هانس جوناس في كتابه “مبدأ المسؤولية” ملامح جديدة للمسؤولية وهي مسؤولية الإنسان تجاه المستقبل. فهل تحمل الحياة حقا مستقبلا لنا؟ هل أننا يجب أن نسائل التكنولوجيا أخلاقيا؟ وهل توجد مسؤولية إيكولوجية تجاه أبناء المستقبل أو تجاه الذين لم يولدوا بعد؟
في هذا الكتاب يرسم لنا هانس جوناس الملامح الفلسفية لاستشكال جديد للمسالة الأخلاقية يدور حول المسؤولية تجاه المستقبل، مستقبل الحياة على هذه الأرض إذ “يفترض أن واجبا جديدا قد ظهر، هو ما يلخصه مفهوم المسؤولية”. بهذا المعنى إذن وقع انزياح واضح من أخلاق مركزة على القيمة الخلقية للفعل من منظور حق الغير في الحياة، إلى أخلاق موضوعها الجديد هو الأخلاق التكنولوجية التي لها بعد مستقبلي يهدد نمط الأخلاق الإنسانية التي لا نعرفها إلى حد الآن، وهي “أخلاق ترتبط بنوع من المعرفة التوقعية” التي تتخطى كل ما نعرفه إلى حد الآن. مع هانس جوناس لم نتعد نتحدث إذن عن أخلاق، لأن هذه الأخيرة تفترض الأوامر والنواهي وإنما أصبحنا نتحدث معه عن ايتيقا، التي قدم لها جوناس بدورها تعريفا جديدا وهي”الايتيقا التي تقوم على منظور المستقبل العالمي” وليس الفردي.
بهذا المعنى إذن يكون هانس جوناس قد هدم التصور التقليدي للأخلاق الذي يقوم على مركزية إنسانية لا جدال فيها، ومن ثمة كانت المعرفة المطلوبة في الأخلاق متاحة للجميع (معرفة الإرادة الطيبة لدى كانط)… وفي هذا الاطار يستشهد جوناس بأمثلة عديدة ذكرها كانط في كتابه حول ميتافيزيقا الأخلاق من قبيل المعرفة الخلقية التي لا تحتاج إلى علم أو فلسفة كي يكون المرء فاضلا
قلب جوناس كذلك الأخلاق التقليدية التي كانت تفترض دائما نوع من المعرفة غير النظرية (معرفة الآن وهنا)، كي تترجم في البراكسيس اليومي للإنسان، لتصبح الأخلاق الراهنة أخلاق المستقبل، باعتبار أن هذا الأخير ” أمانة للذين لم يولدوا بعد ” حسب تعبير فتحي المسكيني.
يبدو أن الأزمة التي عاشها العالم المعاصر جراء التطور العلمي والتقني فرضت على الفيلسوف هانس جوناس أن يغير نظرته تجاه الأخلاق التقليدية، إذ لم تعد المسؤولية مرتبطة بالماضي، أي باقتراف الإنسان “خطيئة” في الماضي يتحمل بموجبها مسؤولية أعماله في الحاضر، وإنما أصبحت المسؤولية مرتبطة بما يفعله الإنسان في المستقبل لمجابهة خطر محتمل. فأخلاقه هي أخلاق الحماية والوقاية المنشغلة بمصير الإنسانية، التي يغلب عليها طابع تضحية الأجيال الحاضرة لأجل أجيال المستقبل. إنها أخلاق المستقبل الممكن.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 18، أوت 2022، ص. 3.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf18.tounesaf.org