الجنس في الأساطير الرافدية القديمة
|
بقلم: فهمي رمضاني
تشكل حضارات بلاد ما بين النهرين رافدا حضاريا مهما استفادت منه الإنسانية عبر التاريخ، فقد كان لها إسهامات متنوعة في عدة ميادين، كما تميزت بخصوصيات حضارية جعلتها المهد الأول المؤسس للأنماط الحضارية والإنسانية الراهنة. في هذا الإطار، تعدّ الأسطورة التي احتلت مكانة هامة لدى شعوب الشرق القديم أهم الرموز الذهنية التي كشفت عن نظرة تلك المجتمعات الى العالم وتمثلها للأنظمة الاجتماعية والثقافية، فهي تعتبر على حد تعبير المفكر السوري فراس السواح “نظاما فكريا متكاملا استوعب قلق الإنسان الوجودي وتوقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه …وهي باختصار مجمع الحياة الفكرية والروحية للإنسان القديم ومغامرة العقل الأولى مع الكون”.
في هذا السياق مثّل الجنس من منظور الأساطير الرافدية قاعدة للحضارة وأساس استمرارية البشرية وسر النماء والازدهار والخصب، لذلك أردنا في هذا المقال الاهتمام بهذه المسألة التي تبدو اليوم من الطابوهات المسكوت عنها واللامفكر فيها عكس نظرة الشعوب القديمة التي اعتبرته الحاضنة لكل بذرة من بذور التطوّر الديني والانتقال الحضاري والتقدم الفكري والثقافي.
الآلهة المؤنثة في الأساطير الرافدية
لا يمكن دراسة الخصوصيات الحضارية لحضارات الشرق القديم دون الاهتمام بالأساطير الرافدية التي تعكس التطور الروحي لهذه الشعوب وتمثلاتهم للمشاعر والغرائز والجنس. ولقد أضفى الفكر الأسطوري على طقوس الجنس صفة القداسة حيث تعامل معه لا باعتباره سلوكا للرغبة والنشاط بل كعنصر فاعل في تطوير الحياة وتحقيق التوازن في الطبيعة، لذلك أولت جل الأساطير الرافدية اهتماما كبيرا للألوهة المؤنثة التي احتلّت مكانة متميزة نظرا لتماهيها مع طبيعة وادي الرافدين القائمة على الخصب والنماء والازدهار.
و تعتبر عشتار التي تجسّد مركزية الأنثى في الحضارات القديمة أهم الآلهة التي حظيت بمكانة مقدسة في الأساطير السومرية اذ تم اعتبارها آلهة الحب والخصب والحرب ومركز الطاقة الجنسية حيث تقول عن نفسها: “أنا العاهرة الحنون أنا من يدفع الرجل الى المرأة ويدفع المرأة الى الرجل”، وفي نصّ كتب في عهد سلالة بابل الأولى حوالي 1600 ق.م، توصف عشتار بكونها “غنيّة باللذة والابتهاج الجنسي وبلذّة العشّاق، من ذا الذي يوازي عظمتها؟من؟”. وحسب بعض الأساطير، خلقت عشتار من نفسها زوجها واتّحدت به وبقي نشاطها الجنسي الدائم يولد الطاقة التي لاغنى عنها لاستمرار أشكال الحياة وتكاثرها.
وحسب بعض الدراسات التي اعتمدت على ما قام به المؤرخون من حفريات، فإن أقدم اسم لعشتار هو “أشدار” الآلهة الأكادية المقابلة للآلهة السومرية “نيني” سيدة السماء. وقد ورد اسم عشتار في الميثيولوجيا السومرية والبابلية وخاصة في قصص الطوفان وملحمة جلجامش وتظهر عشتار في جل التماثيل امرأة حسنة الوجه ممتلئة الفخذين وقد أمسكت ثدييها بيدها لترضع شعبها وقد امتزجت في شخصيتها الشراسة من ناحية والحب والحنان من ناحية أخرى فهي آلهة الحب والتناسل وهي كذلك آلهة الحرب. لها معابد في جلّ مدن بلاد ما بين النهرين تقريبا مثل آشور وبابل وبلاخ ونينوى وأور وأربيل.
لذلك اعتبرها جل الدارسين مركز الحياة الجنسية والقوة المحركة للكون والدافع الجنسي في ديناميكيته الذاتية. وترى الباحثة ميادة كيالي التي أنجزت دراسة حول المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين أن عبادة الآلهة الأنثى ترافقت مع بداية استقرار المجتمعات الرافدية واكتشاف الزراعة وتأسيس المدن الأولى فكانت المرأة بذلك الحاضن الأول لكيان الأسرة والمنتج المساهم والمسؤول عن تلك الثورة الكبرى. وقد تمّ الربط بين دورة الخصب والنماء وبين الخصب والولادة عند المرأة لكونها الفاعل الأول في دورة النمو الأمر الذي ساهم في تشكل مجتمع أمومي يرتبط نسبه بالمرأة لا بالرجل.
الطقوس الجنسية
يعتبر الباحث السوري فراس السواح أن الرافديين قد قدّسوا الدافع الجنسي واعتبروه قبسا إلهيا إذ لم يكن الفعل الجنسي متعة فردية ونشاطا شخصيا معزولا بل طقسا يربط الانسان المتناهي بالملكوت اللامتناهي “ففي الفعل الجنسي يتجاوز الإنسان شرطه الزماني والمكاني ليدخل الى العالم الأبدي”. ويظهر ذلك من خلال تقديس الرافديين للطقوس الجنسية واعتبارها أصل الحياة وسرّ النماء والازدهار ولعلّ أكبر دليل على ذلك اهتمامهم بالآلهة المؤنثة عشتار حيث كانت تقام لها الأعياد الدينية والاحتفالات والطقوس وهي طقوس تقام في رأس السنة وتحديدا في اليوم الثالث من السنة من السنة الجديدة، حيث يسبقه في اليوم الأول بكاء الإله القتيل (دوموزي أو تموز) وفي اليوم الثاني يعلن الكهنة عن قيامة السيد من بين الأموات بقوة طاقة الإخصاب الكونية الكامنة في الآلهة عشتار واهبة الحياة ومع انبعاث الإله تموز وعودته إلى الحياة، يحتفل الرافديون بعودته من خلال ممارسات الجنس تعبيرا على عودة الخصب والحياة.
ويفتتح هذا العرس بطقوس الزواج المقدس بين الإله تموز الذي يمثله الملك والإلهة عشتار التي تمثّلها كاهنة المعبد، فيمارس في فرش الإلهة عشتار الجنس مع كاهنة معبدها تعبيرا على انبعاث الحياة من جديد وتفاؤلا بالخصب الذي سيكون في النبات والانسان والحيوان.
تقام كذلك طقوس تعبدية أخرى، حيث يتم استقدام فتاة عذراء تجلس على كرسي مرتفع يرمز لعرش الآلهة عشتار وتفتح ساقيها حتى يظهر عضو الأنوثة لديها ليركع أمامها الرجال على ركبهم ويقبلوا عضوها وتكشف كل هذه الطقوس على تقديس الرافديين للآلهة المؤنثة كما يمكننا أن نفهم الدور المحوري للأنثى في الكون فهي طاقة خلاقة تحفّز قوى الكون لتبعث الحياة فيه. لذلك كان الرافديون يقيمون أغلب الطقوس في الربيع الذي كان يرمز لعودة عشتار من عالم الأموات لتعيد الحياة.
يمكننا ذكر كذلك بعض الأعياد التي كانت تتم فيها ممارسة الجنس جماعيا كطقس يعبر عن وسيلة اتصال بالآلهة ولا شك أنّه كان يُنظر إلى الجنس الجماعي كوسيلة لحثّ الطبيعة على إطلاق خيراتها فيها فيهطل المطر وتنبت الارض وتتكاثر الماشية وتخصب أرحام النساء.
عبادة الأعضاء الجنسية
جسّدت أغلب المنحوتات والتماثيل واللقى الأثرية التي وجدها المؤرخون والتي تعود الى ما يزيد عن 6000 عام قبل الميلاد الآلهة المؤنثة التي تميزت بضخامة منطقة الحوض وضخامة الثديين تعبيرا عن الإخصاب والنماء والازدهار.
وقد حظيت الأعضاء الجنسية باهتمام كبير حيث كانت محل تقديس وإجلال اذ كانت الصلوات والتراتيل الدينية تتضمن طقوسا لعبادة المهبل والقضيب وقد كان الناس يتّجهون أكثر لعبادة العضو التناسلي للمرأة (المهبل) باعتباره مصدر الحياة وسر الوجود ويرى بعض الدارسين أن ذلك يرمز لجدلية الموت والحياة فالذكر يمثل السلب والأنثى الإيجاب أي أنّ الذكر يرمز لقوة الموت والأنثى لقوة الحياة. وقد ذكرت الأساطير السومرية عديد الروايات والقصص المتعلقة بذلك ففي إحدى الأساطير يقبض عفاريت العالم السفلي على الإله دموزي وتبذل زوجته الآلهة إنانا التضحيات حتى يعود الى الحياة وفي الرواية البابلية يقع تموز بيد شياطين الجن فيذيقونه الموت لكن زوجته عشتار تنقذه من العالم السفلي ليعود الى عالم الأحياء. تؤكد كل هذه الأساطير على جدلية الموت والحياة بين الأنوثة والذكورة حيث تكون دائما الأنثى واهبة الحياة وسر الوجود البشري.
البغاء المقدس
أثارت ظاهرة البغاء المقدس العديد من النقاشات التي لا تزال محتدمة الى حد اليوم بين الدارسين حيث لم يُفهم الى الآن الرمزية الكامنة وراءها وسر انتشار هذه الظاهرة الغريبة بين كل حضارات الشرق القديم تقريبا ويتمثل هذا الطقس في كون أن كل امرأة في بابل كانت مجبرة على الجلوس مرة واحدة في عمرها في فناء معبد عشتار وتسليم نفسها الى غريب ليمارس الجنس معها.
ويرى البعض أن هذه الممارسات كانت من أجل الإلهة عشتار وهي تعكس تقديس المرأة عن طريق رجل غريب يمثل قوة الإله الخارقة فهو يهبها الإخصاب أما فراس السواح فيرى أنها واحدة من التظاهرات الإيروتيكية الجنسية في العالم القديم وهي تعبير حيّ عن تفجر القدسي في العالم فالبغاء المقدس هو ممارسة الجنس بين أطراف لا يجمعهم رابط شخصي ولا تحركهم دوافع محددة تتعلق بالتوق الفردي لشخص بعينه أو تتعلق بالإنجاب وتكوين أسرة بل هو ممارسة جنسية مكرّسة لمنبع الطاقة الكونية لكن مع تطوّر الحضارة فيما بعد وبداية بروز البوادر الأولى للمجتمعات الذكورية سيتحول البغاء المقدس إلى واجب على الكاهنات فقط.
يمكننا أن نفهم بعض ملامح نظرة الإنسان القديم إلى الجنس حيث اعتبره فعلا مقدسا وأساس الحضارة وسر الازدهار والنماء وهي نظرة تعكس المكانة الهامة للمرأة التي اعتبرت عنصرا أساسيا في استقرار الإنسان ونشأة العمران وقيام الحضارة وذلك عكس ما نجده لدى العديد من المجتمعات المعاصرة التي تكون فيها للمرأة مكانة دونية. ولا شك أن ذلك يجعلنا نعيد النظر في العديد من الإشكاليات الراهنة من خلال إعادة دراسة الأساطير ومقارنتها مع نصوص الأديان التوحيدية في سبيل فهم أوسع وأعمق لمراحل تطور الوعي الانساني حتى ندرك أن الإنسانية ربّما تعيش اليوم ردة حقيقية أو نوع من الارتكاس الى الوراء يكشف عن مدى تخلفنا مقارنة بأسلافنا القدامى وذلك في ظل تمسكنا بأهداب الجهل المقدس.
أهم المراجع
- فراس السواح، لغز عشتار الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دمشق، دار علاء الدين، 1985.
- محمد بن زكري، “رمزية الجنس في أساطير ديانات الخصب”، الحوار المتمدن، 4-4-2018.
- ميادة كيالي، المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي/مؤمنون بلا حدود للدارسات والأبحاث،2017.
- ناجح معموري، الجنس في الأسطورة السومرية، بغداد، دار المدى،2017.
صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثاني، أفريل 2021، ص ص. 8-9.
لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf2