مذكّرات الأمير عبد الله الزيري… شهادة عن الأندلس زمن الطوائف
|
تتميز المصادر التاريخيّة المكتوبة بتنوعها فنجد الحوليات وكتب الفتاوى وكتب الأنساب وخاصة المذكرات. ويتميز هذا الصّنف بأهمية بالغة نظرا لندرته خاصة خلال العصر الوسيط، ويستمدّ أهميّته من خلال مباشرته للأحداث التي يرويها فليس هناك فارق زمني بينهما قد يؤدي إلى تغيّر الرواية التاريخية بفعل التناقل المستمر لها؛ إلّا إنْ عمد المؤلّف إلى تغيير الحقيقة التاريخية لغرض ما.
ومن النماذج القليلة في التّاريخ الإسلامي الوسيط عن هذا الصّنف نجد كتاب مذكّرات الأمير عبد الله الزيري وهو الكتاب الذي سنحاول تقديمه في هذا العمل من خلال تقديمه تقديما خارجيا في مرحلة أولى؛ ويعنى هذا التقديم الخارجي بالكاتب والإطار المكاني والزّماني للكتابة، ثمّ عملية التّحقيق والنشر.
وفي المرحلة الثانية سنقوم بتقديم مضمون الكتاب مع التركيز على الجّزء المرتبط بالمرابطين وتدخّلهم في الأندلس.
I– التقديم الخارجي للكتاب
“مذكّرات الأمير عبد الله ” هو وثيقة مصدرية كتبت من طرف أمير غرناطة- بين 469 و 483هجري – عبد الله الزّيري خلال السنوات الأخيرة من حياته التي قضّاها بأغمات جنوب المغرب الأقصى.
وحظي الكتاب باهتمام عديد المؤرّخين الذين ذكروه في كتاباتهم مثل ابن الخطيب (القرن الثامن هجري/11م). وقد قام المؤرّخ الفرنسي إيفاريست ليفي بروفنسال (1898- 1956) بتحقيقه ونشره.
1/ الكاتب وتاريخ ومكان الكتابة
هو عبد الله هو عبد الله بن بلقين بن باديس بن حبّوس بن زيري. ولد في غرناطة سنة 1055/447م وتوفي في أغمات بالمغرب الأقصى سنة 487/1090م.
حكم إحدى ممالك الطوائف بالأندلس وهي غرناطة من سنة469/1077م إلى حدود إسقاطه من طرف المرابطين المتدخلين في الأندلس سنة 483/1090م. وهو ثالث حاكم للمملكة التي أسس بها الزيريون القادمون من إفريقية حكما مستقلا منذ عام 403/1013م أي قبيل انهيار الخلافة الأموية بالأندلس سنة 422/1031م.
وكانت فترة حكم الأمير عبد الله غنية بالاضطرابات والمشادات المسلحة مع جيرانه من الأمراء المسلمين ومع ملك قشتالة ألفونسو السادس، وانتهى حكمه بخلعه من قبل المرابطين الذين أبقوا على حياته ونفوه من الأندلس نحو مدينة أغمات بالمغرب الأقصى حيث أنهى العام الأخير من حياته.
في هذه المدينة كتب المؤلف كتابه الذي لخّص فيه حياته الفكرية والملكيّة بعيدا عن السياسة وتجاذباتها، وتميزت حياته هناك بالبساطة والتواضع حيث لم تبق له ثروة بعد مصادرة جميع أملاكه من طرف المرابطين.
بالنسبة للإطار التاريخي الذي ظهر فيه كتاب الأمير عبد الله فلقد تميز بالسقوط التدريجي للأندلس تحت السيطرة المرابطية أي أواخر القرن الرابع هجري / أواخر القرن 11م.
2/ تحقيق الكتاب ونشره
قام إيفاريست ليفي بروفنسال بتحقيق ونشر خمس قطع من الكتاب، وفق ما يذكره في المقدمة، بمجلّة الأندلس الصادرة بمدريد في ثلاث مناسبات خلال ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.
وفي سنة 1955 نشر المحقّق مجموع أجزاء كتاب مذكرات الأمير عبد الله باللغة العربية في دار المعارف المصرية وهي الطبعة التي نشتغل عليها.
وتشتمل هذه الطبعة على 228 صفحة وتحمل عنوان ” مذكرات الأمير عبد الله آخر ملوك بني زيري بغرناطة 469- 483”. وتبدأ بمقدمة للمحقق ثمّ المذكرات نفسها وأخيرا ملحقان تكميليان للكتاب: أوّلهم لابن عذاري المرّاكشي (القرن7/13م) من كتابه “البيان المغرب في اختصار أخبار الأندلس والمغرب “، والثاني للمؤرّخ والأديب الأندلسي لسان الدين بن الخطيب (القرن8/14م) أخذ من كتابه “أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام”. ويلي الملحقين الفهرس وخريطة عن جزيرة الأندلس في عهد ملوك الطوائف.
وتجدر الإشارة إلى أن جميع العناوين هي من وضع المحقق ليفي بروفنسال هذا إضافة إلى عنوان الكتاب، فالمخطوط كان يحمل العنوان التالي: ” التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة “. ويقول المحقق أنّه لم يجد العنوان الأصلي على المخطوط نظرا لضياع الصفحة الأولى مع عدد من الصفحات الأخرى في وسط الكتاب ويقول بأنّه عرف العنوان من خلال كتاب “المرقبة العليا” للكاتب والقاضي الأندلسي علي بن الحسن النباهي (القرن 8/ 14م).
بالنسبة للمخطوط الأصلي، فلقد عثر عليه المحقق في مكتبة جامع القرويين بفاس ويحتوي في مجموعه على 80 ورقة مبعثرة من القرطاس السميك ومن الحجم الكبير. وكتب بالخط المبسوط الأندلسي. ويطرق الكتاب عديد المواضيع التي تفيد الباحث في تاريخ الأندلس وبالتحديد فترة ممالك الطوائف والفترة المرابطية كما يقدم أفكارا وآراء عامة للمؤلف.
II– تقديم محتويات الكتاب
قسّم المحقق مذكرات الأمير عبد الله إلى اثني عشر فصلا حسب معيار محوري وأعطى لكلّ فصل عنوانا خاصا به مع إضافة ملحقات مكمّلة. وعموما يمكننا إعادة تقسيم محتوى الكتاب إلى أربع أجزاء:
– فصول متعلّقة بالأوضاع في الأندلس حتّى قدوم المرابطين.
– فصول متعلّقة بالأوضاع في الأندلس بعد قدوم المرابطين.
– نظرات المؤلّف الخاصة وتأملاته.
– الملحقات.
1/ الفصول المتعلّقة بالأوضاع في الأندلس قبل قدوم المرابطين: من 403/1013م إلى 479/1085م
يمتد المحتوى المتعلّق بالأوضاع في الأندلس قبل قبل قدوم المرابطين- في 479/1086م- من الفصل الثاني إلى نهاية الفصل السادس. ويتعلّق الفصل الثاني بالأحداث التي مهدت لقيام الدولة الزيرية في غرناطة سنة 403/1013م أي في الفترة الأخيرة من عمر الخلافة الأموية بالأندلس.
وتتمحور جملة هذه الأحداث حول الدور العسكري للزيريين في المنطقة الأندلسية وتفوّقهم على خصومهم الذين أرادوا إجلاءهم من الأندلس عند ابتنائهم لمدينة غرناطة.
أما الفصل الثالث والرّابع فيرتبطان بفترة حكم جد المؤلّف باديس بن حبّوس وما تضمنته هذه الفترة من أحداث ودينامية. ومن هذه الأحداث الصراع ضدّ المرية والانتصار عليها والاستلاء على مالقة، هذا فضلا عن الصراع داخل العائلة الزيرية الذي أفضى إلى نفي باديس لابنه ماكسن، علاوة على موت والد الكاتب مسمما.
وفي الفصل الخامس سينتقل الحكم إلى الأمير عبد الله ويتعرّض هذا الفصل بالأساس إلى علاقة غرناطة بأجوارها المسلمين والمسيحيين. وتميزت العلاقات مع المسلمين بالصّلح والتهادن حسب الكاتب في حين مرّت علاقته بألفونس السادس (ملك ليون من 1065 م إلى 1109 وملك قشتالة منذ 1072م إلى 1109) من العداء إلى المهادنة بعد هجوم هذا الأخير على غرناطة.
ولعلّ أهم حدث في هذا الفصل هو استلاء ألفونس السادس على طليطلة وتمّ ذلك في 478/1085م. في حين وقع تخصيص الفصل السادس للحديث عن مشاكل غرناطة الداخلية حتّى دخول المرابطين ومن أبرزها عزل الأمير عبد الله لوزيره سماجة وإجلائه. وكان هذا الوزير المساعد الرئيسي للأمير عبد الله في الحكم نظرا لصغر سنّه عند اعتلائه العرش. ولمّا أراد عبد الله الاستقلال بنفسه بادر بعزله.
وتضمّن هذا الفصل كذلك ذكرا للصراع مع عدد من الطوائف الأخرى مثل مالقة هذا فضلا عن الثورات الداخلية.
2/الفصول المتعلّقة بالأوضاع في الأندلس بعد قدوم المرابطين في 479/1085م
ينطلق المحتوى المتعلّق بالأوضاع في الأندلس بعد قدوم المرابطين من الفصل السابع ليصل إلى نهاية الفصل الحادي عشر.
في الفصل السابع يقوم المؤلّف بالتعرّض لأسباب قدوم المرابطين للأندلس وتتلخّص بالأساس في استنجاد ملوك الطوائف بالقوة المرابطية المتواجدة في المغرب الأقصى وذلك على إثر استيلاء ألفونس السادس على طليطلة.
وكان هذا الحدث بمثابة إنذار خطر بالنسبة للمسلمين في الأندلس حيث أخذت الممالك المسيحية في التقدم في حركة الاسترجاع مستفيدين من تفوّقهم العسكري الذي أجبر الكثير من ملوك الطوائف على دفع الجزية بمن فيهم الأمير عبد الله صاحب هذا الكتاب.
لذلك واستنادا إلى العصبية الدينية وقع استدعاء المرابطين في السنة التالية لسقوط طليطلة من أجل ردع الخطر المسيحي الذي بات يهدد الوجود الإسلامي في الأندلس.
ويتعرّض الكاتب في هذا الفصل إلى تكوين جيش إسلامي موحّد بالأندلس تحت راية المرابطين وهو الجيش الذي هزم قوّات ألفونس السادس في معركة الزلاقة سنة 479/1086م.
يتحدّث المؤلّف في نفس الفصل عن عودة يوسف بن تاشفين إلى الأندلس بعد مغادرتها إثر انتصاره في معركة الزلاقة. وكانت هذه العودة بمناسبة حصار حصن لييط سنة 481/1089م ودام هذا الحصار بضعة أشهر دون ان يتمكن المسلمون من السيطرة عليه.
وتعود خلفية هذا الحصار إلى معاودة ألفونسو السادس الإغارة على أراضي بلنسية ومورسية ولورقة انطلاقا من حصن لييط. لذلك تتالت الدعوات من ملوك الطوائف إلى يوسف بن تاشفين أمير المرابطين تطلب منه القدوم بجيشه من جديد لصدّ التقدّم المسيحي. وفي هذا الإطار يذكر الكاتب صعوبة الأيّام التي مرّ بها أثناء هذا الصراع الذي كلّفه ما كلفه من المال والعتاد.
وفي الفصل الثامن من الكتاب يذكر الأمير لجوءه إلى بناء الحصون على تخوم مدينة غرناطة من أجل التوقّي من الأخطار التي تهدد ملكه. ومن أهم الأحداث الأخرى التي يتعرّض لها في هذا الفصل التزامه بأداء الجزية للملك القشتالي ألفونس السادس. ويقول الكاتب في متن مذكراته أنّه لم تكن له القدرة على المواجهة وكان مضطرّا لفعل ذلك وينفي تماما التحالف مع الملك المسيحي مؤكدا أنّه رفض الحلف عندما عرض عليه. وهنا يبدو لنا الكاتب مدافعا عن نفسه ضدّ ما راج حوله من موالاة للمسيحيين على حساب المرابطين.
إثر ذلك نجد في هذا الفصل حديثا عن تهديد يوسف بن تاشفين له وتوتر علاقتهما بسبب ما ينظر إليه الكاتب كشائعات راجت حوله.
وخصّص الفصل التاسع للحديث عمّا اعتبره الكاتب علامة سيئة تنذر بالنهاية. ومن أبرز مظاهر هذه النهاية ثورة يهود اليمانة ضّده ويرجع الكاتب سبب هذه الثورة إلى خوف اليهود في غرناطة من مصادرة أمواله. ويقول الكاتب أن أمير المرابطين يوسف بن تاشفين تصوّر أنّه (أي الكاتب) يصادر أموال الناس ليسلّمها إلى النصارى.
ينضاف إلى هذا عددا من الثورات الأخرى التي ساهمت في إذكاء الانطباع السيء للمرابطين حول الكاتب.
لذلك سنجد في الفصل العاشر خبر خلع المرابطين للأمير عبد الله إثر سنتين من حصار لييط أي في 483 ه. ويوضح الكاتب ملابسات هذا الخلع انطلاقا من استدعائه من طرف يوسف بن تاشفين الذي عاد من جديد إلى الأندلس. ونتيجة لخوف الكاتب على نفسه رفض الحضور وهو ما حرّك الجيش المرابطي نحو غرناطة.
ولم يذكر الكاتب حصول أية مواجهات مسلحة بل يذكر أنّ عديد المدن استسلمت طوعا للمرابطين.
وأمام ضعفه التجأ المؤلّف إلى تسليم نفسه بعد وعده بحفظ حياته وحياة أهله. وإثر هذا يتعرض الكاتب إلى مصادرة جميع ممتلكاته بغرناطة التي باتت إحدى المدن المرابطية. كما تعرّض إلى النفي إلى المغرب الأقصى حيث انتهى به المستقر في مدينة أغمات قرب مرّاكش ليلتحق به أخوه تميم بعد فترة وجيزة وذلك إثر افتكاك المرابطين لمملكته. وبذلك اتضح التوسّع المرابطي في الأندلس وهذا ما يذكره الكاتب في الفصل الحادي عشر الذي أعطاه المحقق العنوان التالي: عزل بقية ملوك الطوائف ومصيرهم بعد ذلك”.
ومن أوّل الملوك المعزولين يذكر المؤلف ملك المرية معز الدولة أحمد بن المعتصم بن صمادح في 484ه. وفي نفس السنة تمّ افتكاك قرطبة التابعة لبني عبّاد ووقع قتل واليها الفتح بن المعتمد. وكذلك وقع افتكاك مدينة اشبيلية التي شهد ملكها المعتمد نفس مصير المؤلف أي النفي إلى أغمات.
3/ بقية محتويات الكتاب
تضمّ بقية محتويات الكتاب جزءا يتعلّق عموما بأفكار المؤلّف وتأملاته وجزءا آخر من وضع المحقق ويتكوّن من الملحقات في آخر الكتاب.
بالنسبة إلى أفكار الكاتب وتأملاته فلقد وردت في الفصل الأوّل الذي يحمل عنوان ” نظرات عامة للمؤلّف” والفصل الأخير الذي يحمل عنوان: ” تأملات أخيرة بعد المنفى”.
جمع الفصل الأوّل عديد المواضيع التي تعكس انشغال الأمير عبد الله -رغم محنته – بالأفكار والدّين. وفي هذا الباب نجده يتحدّث عن المنهج الذي يجب على الكاتب اتباعه وأهم القواعد الواجب احترامها.
إضافة إلى ذلك يحاول الكاتب الخوض في جوهر الدّين الإسلامي والرّد على من لا يؤمن به. كما يخصص في هذا الفصل مقالة عن أهمية التعليم وخاصة منه المتأتي من التجربة.
وفي آخر الفصل نجد حديثا عن صعوبة ما أسماه المحقق الإنصاف التاريخي أي النظر بموضوعية إلى الأحداث والدول والملوك.
ولا يختلف الفصل الأخير عن الفصل الأوّل كثيرا إذ حمل هو الآخر جملة من آراء المؤلّف وتأملاته حول عديد المواضيع منها ما يتصل بشخصه مباشرة مثل الذرية وعلاقته بالشعر وأخطاء حياته ومنها ما هو موضوعي مثل التنجيم والأغذية والنبيذ والعلوم الطبيعية. ويظهر كلّ هذا معرفة شاملة للكاتب بعلوم عصره.
بالنسبة للملحقات، يتعلّق الملحق الأوّل المأخوذ من كتاب “البيان المغرب” بدولة الأمير عبد الله وما اتسمت به من تذبذب في العلاقة مع المرابطين وألفونسو السادس وفي هذا الملحق يعتبر ابن عذاري أن السبب الرئيسي لزوال ملك الأمير عبد الله يعود إلى تحالفه مع ملك القشتاليين.
أمّا الملحق الثاني فهو للسان الدين ابن الخطيب (8/14م) واعتنى بتقديم ثلاثة تراجم، الأولى للأمير عبد اللّه وبقية التراجم تعود لشخصيات هامة في عهده وبالأساس الثائرين مثل مقاتل بن عطية.
تكمن أهمية الكتاب في كونه شهادة مباشرة على الأوضاع في الأندلس خلال القرن الخامس هجري/11 ميلادي وردت من طرف إحدى الشخصيات المتحكمة بالأحداث في هذه المنطقة. وما يزيد هذه الشهادة قيمة وبروزا هو اعتيادنا في التاريخ الوسيط الإسلامي على غياب آراء جل السلاطين والأمراء وجل ما نعلمه عنهم لا يأتي بشكل مباشر منهم.
من هذه الزاوية يكتسي الكتاب أهمية تأريخية بالغة وخاصة فيما يتعلّق بتدخّل المرابطين في الأندلس.
ولكن تبقى هذه الشهادة نسبية لإمكانية خضوعها للتحوير والانتقاء بما يخدم صورة الكاتب.
صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الثالث، ماي 2021، ص. ص 10-12.
لتحميل كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf3