قط كهذا… قصة لفرانسواز جيرو

ترجمة: رجاء عمّار

حين بادر القط بالكلام، ذهل آلان لوجياي لوهلة، إذ أنصت بوضوح:
-طاب يومك، هل السكنى جيدة في هذا المنزل؟
لقد دخل القط ذو الفرو الجميل المرقط عبر النافذة وجلس على مؤخرته يرمق الرجل الذي اعتقد أنه واهم، فلا ريب أن أحدا ما حدّثه من الخارج. نظر ليتثبت، فوجد الطريق خاليا من المارة. همّ بطرد الزائر المتطفل، غير أنه لم يعثر له على أثر.

تكدّر مزاجه، عاد للجلوس وراء مكتبه للانكباب مجددا على المخطوط الذي يشتغل عليه وهو محاولة بحثية اختار لها عنوان: اللامعقول في الإدراك الحسي.
كانت القاعة المطلية بالأحمر عامرة بشكل كبير بالكتب، يبعث جوها الدفء والراحة، فيها أريكتان للاسترخاء مع إنارة خافتة، فالضوء مركز على المكتب والحاسوب.
انغمس في بحثه بعد أن استعاد الخيط الناظم لأفكاره، لكن، بوثبة واحدة، قفز القط على لوحة المفاتيح التي كان يرقن عليها، فأمره منزعجا بالابتعاد والمغادرة، بيد أن القط جلس على المكتب وسأله:
– لماذا أنت متضايق؟ لن تظفر مني بشيء ما دمت تخاطبني بهذه النبرة!

بهت آلان وبالكاد رد متلعثما:
– لكن.. أنت تتكلم!
– جميع القطط قادرة على الكلام، غير أنها لا ترغب في ذلك
– ما اسمك؟
-السيدة التي كنت أقطن عندها أسمتني إيزيدور
خاطب لوجياي نفسه: لقد غدوت مجنونا. أنا بصدد التحول إلى مخبول!

بعثر إيزيدور بقائمته الأمامية الأوراق المشتتة على المكتب، فصاح الرجل:
– لا تفعل ذلك… إنه مخطوطي! وانحنى للملمته، فاستغل القط الفرصة للقفز حذوه ولعق رقبته بيسر، وعلق: أوبيوم للرجال من سان لورون… عطر ممتاز!
شعر لوجياي بالإحباط، ما دفعه إلى الاعتقاد أن تيروندو هو الذي أرسل هذا الحيوان لبلبلته، لكنه سرعان ما استدرك مقرا بسذاجة هذه الفكرة، فزميله لديه ثلاثة قطط غير أيا منها لم يتكلم مطلقا.

انتقل القط إلى العبث بالأقلام، فقال له آلان:
– أنصت إليّ يا إيزيدور، إنك لطيف غير إني بحاجة ماسة للاشتغال، هل يمكنك تركي أكتب دون مضايقتي لفترة معينة؟
– بكل تأكيد! سأذهب لاكتشاف بقية الغرف!
حين غادر، هرع لوجياي إلى هاتفه واتصل برقم وهو يرتعش، وهمس لمن رد عليه:
– تعالي، تعالي حالا، أرجوك، تحدث أمور مفزعة في بيتي، لا… ليس هناك شيء خطير، لكن…سأفسر لك متى قدمت!
حين أنهى المكالمة، أحس بالارتياح لأنه أنصت إلى صوت بشري خلافا لذاك الصوت الأجش للقط بنبرته الخاصة.

عاد إيزيدور من جولته الاستطلاعية وصرح مغتاظا:
– الفراش جيد، لكني لم أجد ما يؤكل، ألا تستطيع أن تشتري لي علبة طعام ويسيكاس؟ غفلت عن إخبارك شيئا مهما! ما دمت جائعا، ليس بوسعي تركك تنعم بالهدوء! إنها طبيعتي التي جبلت عليها كقط!
رد لوجياي محتارا:
– علبة ويسكاس! انتظر، لدي فكرة..

حمل هاتفه وأعاد الاتصال بمن سبق وحادثها:
– في طريقك إلى القدوم، اشتري من فضلك، علبة ويسكاس، نعم… تلك المخصصة للقطط.
تدخل إيزيدور محددا:
– بلحم الخروف
فأضاف الرجل مستجيبا لرغبة القط: بلحم الخروف، أسرعي، سأوضح لك لاحقا!

تمدد إيزيدور أمام لوجياي الذي أراد الاستفاضة في الحوار معه:
– أخبرني عن سبب تركك لسيدتك
– لم أتركها، فهي تروقني كثيرا وعرفتها منذ كنت صغيرا، لكنها استبدلت العشيق، والجديد رماني عبر النافذة مدفوعا بغيرته لأني أنام على الفراش حذوها… إن نجاتي بعد فعلته تلك لأعجوبة!
-أيها المسكين إيزيدور…
– بعد ذلك، لمحتك وفكرت أن الكتّاب عموما يحبون القطط. أليس كذلك؟
-نعم، معك حق
-أشعر أني سأكون على ما يرام معك
تمسح القط بلوجياي وككل القطط لا يلاطف أحدا ولكنه يتولى مداعبة نفسه، وبقي الرجل منبهرا.

رن الجرس، أسرع لفتح الباب في حين توارى إيزيدور تحت الأريكة. دخلت شابة تحمل علبة طعام القطط وسألت:
– ما الذي يجري؟ لقد أفزعتني!
-تخيلي..لقد دخل قط إلى منزلي..
-حقا! وما الحدث المأساوي في ذلك؟
-سترين!

نادى ألان القط:
–  إيزيدور! إيزيدور! لقد حضر الطعام! اخرج من مخبئك!
وضحت الفتاة قائلة:
-لا تلبي القطط النداء أبدا، كما أن اختيار اسم إيزيدور لقط مثير للضحك!
– لا تقولي هذا! ستثيرين حفيظته! إيزيدور! تعال!
لم يستجب القط، فاقترحت عليه الشابة التي تدعى أدال أن يفتح له العلبة وسيأتي، اتجها نحو المطبخ لتنفيذ الاقتراح، في الأثناء استفهمت:
-ما الذي يمتاز به هذا القط حتى يجعلك في حالة شبيهة؟
-سترين!

فجأة، حضر إيزيدور وانهمك في الأكل، فتركاه ينعم بطعامه، وذهبا للجلوس قرب المكتبة، همس لوجياي: لا بد أنه يشعر بالسعادة!
ردت أدال:

– لقد حدثتني عن أمر على غاية قصوى من الخطورة حين اتصلت بي هاتفيا!
-سترين! إيزيدور! تعال! أحتاجك!
قدم القط متثاقلا وقال وهو يتلمظ:
-شكرا على الطعام! لقد استحوذ علي جوع شديد!
انتفضت الشابة من مكانها وهي تستفهم لوجياي عن سبب تغييره لصوته، فأكد لها أنه لم ينبس بحرف، إنه إيزيدور الذي تحدث..إنه يتكلم!
– لقد أضعت رشدك تماما بسبب هذا القط!

– في المحصلة، ألم تنصتي إليه؟
– لقد سمعت صوتك متغيرا… هل تسخر مني أم ما الذي تقوم به تحديدا؟
– لقد قلت لك أنه يتكلم وروى لي كل ما مر به، كيف تم إلقاؤه عبر النافذة، الحيوان المسكين! تكلم إيزيدور، تحدث قليلا..

تعجبت أدال وهتفت مستنكرة:
– لقد روى لك! أنت تتلفظ بالحماقات! لن تحتفظ بهذا الحيوان الفظيع!
علا صوت إيزيدور وهو يجيبها:
– أنت هي الفظيعة، جميلة بجسمك الممتلئ المستدير، لكن قلبك مقفر لا عاطفة فيه!
جمدت الشابة في مكانها ولم تستطع أن تحرك ساكنا، فقال لوجياي: هل عاينت الأمر بنفسك! لقد سبق وأخبرتك أنه خطير!، وربّت على القط الذي ماء بدلال، فاحتجت أدال، ولامته على مداعبته لهذا القط الذي شتمها، فأكد لها أن المشكلة التي يواجهانها لا تكمن في ذلك، بل هي أشد تعقيدا.

حملت الشابة القط من جلد رقبته واقتربت من الشباك، فنهاها لوجياي مهددا أنه سيقطع علاقته بها إذا ألقت إيزيدور، فترددت لهنيهة ثم تركت القط الذي سارع بالاختباء مرة أخرى تحت الأريكة.

أعربت عن حاجتها إلى احتساء مشروب إذ ينتابها إحساس أنها فقدت عقلها، فصرح لوجياي متنهدا أنه يقاسمها ذات الشعور:

– في البداية، حسبت أن الهلوسات تملكتني… لكن، لقد سمعته أنت أيضا

وأيقنت!

اقتربت من طاولة صغيرة وصبت في كأسين بعض الويسكي الذي أفرغاه في جوفيهما دفعة واحدة.
بادرت أدال بالقول:
– يجب القيام بتصرف ما.
– ما هو؟
-لا أدري..اتصل بخدمة العناية بالحيوان، بالشرطة، أعطه لسيرك..
اندفع القط من مخبئه ووثب ليقف على ركبتي لوجياي وسأله:
– لن تفعل بي هذا، أليس كذلك؟
فطمأنه مؤكدا: لا لن أقوم بذلك، لا تخف ثم وجه خطابة لأدال:  لا أستطيع أن أقترف بحقه ما اقترحت!
– إنك تسرف في تدليل هذا القط بما تبديه من تعاطف بالغ!
-إننا في مواجهة ظاهرة خارقة، أنا فيلسوف وما يحصل يثير اهتمامي.
– حيوان قذر! نعم، إنه مجرد حيوان قذر! لا أرغب في رؤيته مطلقا في هذا المكان!

فأجابها لوجياي دون تريث:
– حسنا! لا تأتي مرة أخرى إلى هنا!
صاحت أدال متعجبة:
– هل تطردني! لا! لن أتغاضى وأسمح لك بالتفوه بها للمرة الثانية!
التقطت معطفها وانتظرت لبعض الثواني لعله يتراجع ويناديها ليستبقيها، لكنه، التزم الصمت فغادرت بعد أن أطبقت الباب.

همس لوجياي للقط:
– هل رأيت ماذا فعلت إيزيدور؟
-إنها امرأة حمقاء مغرورة، لقد قدّمت لك خدمة جليلة ستشكرني عليها مستقبلا! أريد أن أخلد إلى النوم الآن..طابت ليلتك.

مضت بعض ساعات، رن خلالها الهاتف مرتين، لكن لوجياي لم يجب، وظل مستغرقا في العمل على مخطوطه مستغلا الهدوء الذي عم.
حين دخل غرفة نومه، بعد أن أكل جناح دجاج وجده في الثلاجة، عثر على القط نائما على الفراش فاستلقى على السرير دون أن يزعجه، وسرى في أوصاله شعور بالحنان وهذه الكرة الدافئة تخرخر بجانبه.
لم يلتق لوجياي مجددا بأدال التي أشاعت أنه مجنون، وذهبت لتعلم زميله تيروندو بذلك: إنه يدعي أن لديه قطا يتكلم. لقد فقد صوابه!، فأجابها أنه هو أيضا لديه قط شبيه:
– انظري… إنه ذاك الرمادي، غير أني لا أخبر الناس بذلك، فهم أغبياء جدا ولن يستوعبوا المسألة، لطالما بالغ لوجياي في الثرثرة!
قدم القط الرمادي يتشمم أدال ثم علق قبل أن يغادر مختالا: لا يروقني عطرك!، فسارعت الشابة بالفرار فزعة مطلقة ساقيها للريح.

ما زال لوجياي وإيزيدور يعيشان معا في انسجام، إذ استجاب القط لطلب سيده ألا يتفوه بكلمة في حضور الزوار، ويمكنه عرض انطباعاته بمجرد ذهابهم.

لاحظ الرجل أن إيزيدور ذكي جدا وعقد العزم على تقديم محاضرة حوله، يوما ما، في معهد الفلسفة.

نشر هذا النصّ في مجلّة حروف حرّة، العدد 21، أكتوبر 2022

 للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf21

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights