بيسان
بقلم: هزار الفرشيشي
لم تكن بيسان لتعي أن خيوط الفجر قد لاحت لولا مداعبة حانية لخصلات شعرها أيقظتها من سباتها بعد يوم مضن، لم يكن أمامهما متسع من الوقت قبل الخروج، فالحراك مستمر في المدينة والتوتر على أشده. أصوات القصف كانت تنذر بأن هذا اليوم لن يكون أفضل من سابقيه، فالقذائف لا تفرق بين المدني والعسكري، والرصاص لا يميز بين المقاتل والصحفي، فمنذ أيام فقدا زميلا مراسلا عندما كان ينقل تفاصيل إبادة جماعية لحقت بسكان أحد أحياء المدينة.
علامات الجزع كانت بادية على الجميع، فالكل يعلم أن تلك القوة التي لا تقهر قد حطت رحالها بينهم لتنتزع أرواحهم بلا شفقة منتشية بسكرة هزيمة الموت على الحياة. أحكمت بيسان قبضتها على قلادة الصليب التي كانت لا تفارق عنقها وقالت بصوت الواثقة “أيها السيد الرب الإله ضابط الكل ربنا و إلهنا، من كل قلبنا نطلب منك ايها الآب الرحوم ان تتضرع لأجلنا. انت الذي أرسلت ابنك الذي صلب وقام من أجل خلاصنا لأجلنا احمنا واستجب لدعائنا.”
كانت تؤدي هذه الصلاة يوميا وتتضرع إلى الإله أن يحميها ويحمي رفيق دربها في كل ما يتكبدانه من مشاق بانتصارهما للإنسان في وطنهما المكلوم ونقلهما لما يحل به من انتهاكات للعالم، كانا قد تعاهدا على ألا يحيدا عن هذا المسار وألا تفرقهما في الساحات سوى تلك القوة التي لا تقهر.
توجه الفريق الاعلامي إلى حي أصبح مدمرا بالكامل بعد أن صفعته يد البطش وأهلكت فيه الأخضر واليابس. بدأ المصور في توثيق ما خلفه الإشتباك بين الحياة والموت من دمار وأشلاء، وبيسان تستعد للبث المباشر كي تكون شاهد حق على موت الإنسانية مع توتر شديد جلي على قسمات وجهها الطفولية. ابتسم يوسف وربت على كتفها كعادته قبل كل بث قائلا: “ما بال صغيرتي الجميلة؟”
فقالت: “تعلم ما ينتابني من قلق قبل كل مراسلة، أربع سنوات من العمل الإعلامي ولم أتخلص بعد من هذا الإضطراب.”
فأمسك بأنفها في حركة طفولية ساذجة وقال:
-هل تعلمين أنك أجمل نساء الكون؟
-أجل أعي هذا، كما أعي أننا في قلب مجزرة لا في قاعة سينما.
كانت إجابتها لا تخلو من الحدة، لكنها عبثا حاولت إخفاء بريق عينيها الذي أثارته سعادتها بكلمات الغزل التي احتضنها بها توأم الروح من جسدها …
لم تكد بيسان تمسك بالمصدح حتى علت الصرخات، إذ هزت أركان الحي قذيفة مدوية أعقبتها ثانية فثالثة إيذانا بحلول الموت، فعم الهلع والفوضى المكان، وقد كان من الصعب إيجاد ملجأ آمن يحمي من بطش القاتل أو يرد لعناته المتلاحقة. كان المشهد مأساويا، حيث التحم الثرى بالثريا يزف إليه عشرات المسافرين المحملين بجراح الوطن وقسوته، ففي ذاك الوطن فقط تبصر شهيدا يسعف شهيدا ويصلي عليهما شهيد. في تلك الأرض فقط تجد أقصى أحلام الإنسان أن يحيا، فالحياة هناك كاللؤلؤة التي يحملها اليم إلى الشاطئ بيمناه في المد ليتلقفها بيسراه في الجزر فتغوص في أعماقه بلا رجعة …
كان يوسف يمسك بيد بيسان ويركضان في وجهة مجهولة، فالتوى كاحله فجأة وسقط أرضا على وجهه فدوت من حنجرته صرخة ألم مزقت فؤاد بيسان التي حاولت جاهدة ببنيتها الضعيفة مساعدته على النهوض لاستكمال المسير وتحدي المصير الذي رسمه لهما القات.
كان من الصعب على يوسف أن يواصل الركض بنفس النسق بعد إصابته، فكان عليهما إيجاد ملاذ فركنا إلى حطام بيت يخفيهما عن الأعين…
الدقائق تمر كالساعات، وحرارة ظهيرة تموز تصلي الأجساد لهيبا لا يضاهي لهيب القلوب الذي أوقده الظالم بجبروته. فجأة سقطت قذيفة بالقرب من مكانهما لتفجر إحدى شظاياها أنهار دماء لا تجف من جسد بيسان. صرخت من شدة الوجع وانطلقت في نوبة بكاء جنونية تتوسل بها إلى حبيبها أن يحول دونها ودون الموت، والمسكين لا يدري ما يفعل، لا مستشفى قريب ليسعفها ولا وسيلة نقل تحملهما بعيدا عن موقع الخطر، ومحاولة الوصول بها إلى مكان آمن ستزيد في مضاعفة الخطر. كانت السماء تمطر رصاصا وقذائف، وكانت الأرض تنفجر عن أنهار من الألم والقهر تكبل كل من خدع الموت وتمسك بتلابيب الحياة رغم لفظها له. حتى عقارب الساعة كانت في تقدمها بمثابة لدغات لا ترحم في جسم منهك بدأ يفقد حرارته ويخضب أرض وطنه بدمائه. اشتدت وطأة الألم على بيسان ولم تعد تعي ما يدور حولها.
وضع يده على كتفها ليخرجها من شرودها قائلا: “من سرق تفكير حبيبة قلبي مني؟”
فابتسمت قائلة:
-أتذكر ذاك اليوم الذي انتزعتني فيه من قبضة الموت؟ خيل إلي يومها أنها ستكون النهاية، لم أتخيل قط أنني سأبقى جانبك لنشهد عيد زواجنا العاشر حاملين ثمرة حبنا جهاد، خلت وقتها أن الرحيل قد حان …
مسح يوسف دمعة شاردة خانتها من عينها اليسرى وطوقها بذراعيه هامسا:
-من قال أن الموت قوة لا تقهر يا عزيزتي؟ بل الحب هو الذي لا يقهر. ذاك الحب الذي جمع مسلما بمسيحية وازداد وثاقه رغم كل ما شهدا من مخاطر وصعوبات في حياتهما. وذاك الحب الذي احترقنا بناره عندما منحناه للوطن فلم يمنحنا إياه …
تألمت بيسان لقوله وردت بمرارة شديدة: “نعم يا يوسف، ذاك الوطن الذي أحببناه ولم يحبنا. أخرجونا منه لكنهم لم ولن يخرجوه منا …”
Related Posts
About The Author
