الفنّ شكلا جديدا للاحتجاج في تونس بعد 14 جانفي
لوحة للفنّانة ”أوم“ في الحمّامات. المصدر: أمامة بوعصيدة- فايسبوك
بقلم: عبير الكوكي
يُعرِّف تشارلز تيلي الحركات الاجتماعية على أنها تنظيمات شاملة مؤلفة من جماعات متنوعة المصالح تضمّ حال تشكّلها طبقات مهمة في المجتمع مثل العمال والجماعات النسائية والطلاب إلى جانب العنصر الفكري، والشيء الذي سيجمع هذه القطاعات المختلفة من المجتمع ذات المصالح المتنوعة هو شعور عام بالضيم قوامه الإدراك المشترك لغياب الديمقراطية في وضعية سياسية بعينها1، وهي أيضا تلك الجهود المنظّمة التي تبذلها مجموعة من المواطنين بهدف تغيير الأوضاع أو السياسات أو الهياكل القائمة2، ولكن حسب الباحث الفرنسي إيريك نوفو لا يمكن تحديد مفهوم واحد للحركات الاجتماعية لأن ذلك سيوجّه الباحث لمّا تتجاوزه الحركة لأنها متغيرة دائما حسب السياق الجيو- بوليتيكي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي وحسب حالة تشكل العلاقات بين السلطة والفاعلين المتعرضين للهيمنة وبنية الفرص السياسية المتوفرة.3
في تونس منذ 14 جانفي 2011، لاحظنا ظهورا لافتا لحركات اجتماعية غير تقليدية وغير منظمة بالشكل التقليدي المتعارف عليه وهذا نظرا لتراجع دور المؤسسات والتنظيمات السياسية التقليدية في مقابل تصاعد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي.
تحوّل الفضاء العمومي إلى ساحة جاذبة للعديد من الحركات الاحتجاجية وهذا في حد ذاته تغيّر في رمزية الشارع الذي أصبح ساحة متاحة للاحتجاج والتعبير، فهو فضاء مفتوح غير فئوي بمعنى أنه ليس حكرا على فئة معينة أو تيار ما وهذا ما يعطيه جاذبية دائمة ليكون وسيطا جديدا في إعادة رسم ملامح العلاقة بين المجتمع والدولة وفي هذا الإطار ظهرت أشكال احتجاجية جديدة تضمنت فاعلين جدد وأساليب جديدة اعتمدت الفن كوسيلة أبرزها حملة “فاش نستناو” التي ثارت ضد قانون المالية التكميلي في 2017 و2018 والتي من أهم مطالبها المحافظة على المؤسسة العمومية من الخوصصة حيث كانت المظاهرات بقيادة كتيبة المهرجين الناشطين4 ، وهو فاعل جديد يقتحم الفضاء الاحتجاجي يعبر بطريقته عن مشاركته في الشأن الوطني ويفتك مكانه داخل المجال العام الذي تحاول أن تهيمن عليه الدولة لصالحها. المهرج رمز للفن الذي أقصته الدولة من المجال العام وأخضعته إلى أطرها التقليدية المعلبة التي تكرس ثقافة المناسباتية الباهتة.
لا يحتاج الفن تصاريح. هو على الأرصفة أو على الجدران أو داخل فضاء احتجاجي. المهم أنه موجود ويطالب بمكانته ومنخرط في التحولات السوسيوثقافية والسياسية والاقتصادية، فالغرض من الثقافة وفق مفهومها الأصلي هو أن تكون عاملا للتغيير وليس عاملا للحفاظ على الوضع القائم على حد تعبير زيجمونت باومان5 ، عرفت البلدان العربية ومن بينها تونس خلال الثورات وحتى قبلها وبعدها ظهورا لنوع جديد من الفن “فن الشارع” أو “الستريت ارت” ، وهو نوع من الاستيلاء على الفضاء الحضري بمنهج فني مهما كان نوعه. يتضمن هذا المنهج عددا من الأساليب (الكتابات الحائطية “الغرافيتي” مثلا) وهو المثال الأبرز والذي عرفناه خلال الاحتجاجات في تونس حيث غصت الجدران بالكتابات المؤيدة لإسقاط النظام والمنادية بالحرية والكرامة وغيرها من شعارات الثورة، على غرار عديد البلدان مثل المغرب ولبنان حيث ينتشر فن “الغرافيتي” في الشوارع الرئيسية في العاصمة اللبنانية بيروت وفي الحدائق العامة في مدن صيدا وطرابلس وغيرها ويقدم رسائل متنوعة مثل تأييد الشعب السوري أو الاعتراض على النظام الطائفي في لبنان. على الرغم من أن” الغرافيتي” يعد مخالفا للقانون اللبناني حيث أنه يصنف “مشوه للممتلكات العامة” فإن حركات الغرافيتي قد تزايدت كثيرا لدرجة يصفها بعض المحللين بأنها تعبر عن “ثورة صامتة في لبنان”6.
ويستند الفنانون في ابداعهم إلى البنية التحتية الحضرية والهندسة المعمارية والأضواء والظلال وقد يبلغ حجم الكتابة الحائطية سبعين سنتيمترا أو سبعين مترا، ويعتبر “الغرافيتي” فنّا نابعا من الطبقة الفقيرة التي تحاول التعبير عن نفسها أو التمرد ضد السلطة ويعود أصل هذا الصنف من التعبير الفني إلى زمن بعيد بل ربما منذ كهف لاسكو الذي يعود إلى العصر الحجري القديم كما أن “الغرافيتي” يزدهر اليوم في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا ونذكر من ضمن الفنانين التونسيين الذين اكتسبوا شهرة عالمية “شوف” و”كوم” و”الصيد” وهو أوّل من أدخل الستريت ارت إلى مدينة القيروان7 .
في سياق آخر وفي احتجاجات جانفي 2021 تم رشق الأمن بالطلاء (الدهن) في فعل احتجاجي جديد يخرج فيه الفن من أطره التقليدية ليقتحم الحقل السياسي. هي حركة فنية ليست اعتباطية بل تتضمن موقف رفض للموجود بطريقة مبتكرة يمكن من خلالها فهم علاقة القطيعة بين السلطة المتمثلة في الأجهزة الأمنية وبين المحتجين، كما يمكن تأويلها أيضا على أنها طرح لبدائل جديدة ترفض القمع والعنف وتعوضه بالألوان والفن. ربما هو أيضا مشهد يعبر عن رفض الشباب لواقع يتميز بالضبابية وسعيا لتغيير السياسات الثقافية خاصة التي لم تواكب سياق العولمة ولم تنخرط في التحولات الحاصلة داخل المجتمع ولم تسع لاحتواء هذه الفئة ولم تشركها في صياغتها أي السياسات، ويلاحظ المنصف ونّاس أن معظم السياسات تعطي للدولة أو للسلطة المركزية احتكار التدخل في المجال الثقافي وغالبا ما تناط مهمة التخطيط للدولة وحدها والنتيجة أن التخطيطات أو السياسات الثقافية الراهنة ذات توجه ماضوي فلا يعدو الأمر أن يكون عرضا لأنماط سلوك الدولة في توجيه الحياة الثقافية8 .
إنّ الأشكال الاحتجاجية الجديدة التي تعتمد الفن كوسيلة للتعبير عن المواقف السياسية أخرجته من الفضاءات المغلقة إلى الفضاءات المفتوحة ومن أطر تقليدية مقيدة إلى أطر شارعيه تتيح حرية أكثر لممارسيه وتجعل منه مؤثرا أكثر في الوعي الجمعي وقادرا على إحداث التغيير، في ظل تراجع دور المؤسسات الثقافية التي ظلت تعيد إنتاج نفس الوظائف ولم تتخلص من أعباء البيروقراطية وتسعى إلى تأسيس علاقة مشهدية استهلاكية مع الفن شأنها شأن السلطة التي تستحوذ على الأشكال الفنية مهما اختلفت محاملها ومضامينها هي في سعي دائم وحثيث للسيطرة على الأذواق الفنية ومضامينها وهو تقريبا ما نستخلصه من نظرية “العنف الرمزي” لبورديو في علاقة بالحقل الفني9 .
إن ما نلاحظه من تحولات في الاتجاهات الاحتجاجية من حيث تنوع أشكالها وتغير مساراتها يعبر عن وعي الشباب المحتج وعن سعيه لافتكاك حصته من الحقوق والحريات هذه الأشكال الفنية التي استعملها الشباب كوسيلة للاحتجاج هي وسيلة للحلم أيضا ونحن في حاجة إلى الكثير من الحلم في هذا البلد.
الهوامش
1تشارلز تيلي، الحركات الاجتماعية، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص14
2نفس المصدر، ص13
3مالك زغدودي، “الاحتجاج الفني، استقراء في تجربة كتيبة المهرجين الناشطين باعتبارهم أحد الفاعلين الجدد”، كراسات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، العدد2، جويلية 2019، ص154
4المصدر السابق، ص189
5زيجمونت باومان، الثقافة السائلة، المركز العربي للأبحاث والنشر، بيروت، 2018، ص16
6هالة الحفناوي، “الحائطيون: المجموعات المتأهبة في شوارع الدول العربية”، اتجاهات الأحداث، العدد6، يناير2015
7مهدي بالشيخ وأنيسة البرّاق، “الفن يقتحم الشارع”، رسالة اليونيسكو، أبريل_يونيو، 2019، ص23
8المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، نحو سياسة ثقافية عربية للتنمية، تونس، 2001، ص83
9أمين الحسيني، “الحركة الاجتماعية الفنية كأفق تفكير: فنّ الشارع: الهامش يثور على المؤسسة؟ موت الأب أم ميلاد أب جديد؟” ضمن: إشراق الغديري، زياد زراعي، ياسين النابلي، في سوسيولوجيا الاحتجاج والتنظم لدى الشباب التونسي، منظمة راج تونس، سبتمبر 2018، ص115
الهوامش
1تشارلز تيلي، الحركات الاجتماعية، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص14
2نفس المصدر، ص13
3مالك زغدودي، “الاحتجاج الفني، استقراء في تجربة كتيبة المهرجين الناشطين باعتبارهم أحد الفاعلين الجدد”، كراسات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، العدد2، جويلية 2019، ص154
4المصدر السابق، ص189
5زيجمونت باومان، الثقافة السائلة، المركز العربي للأبحاث والنشر، بيروت، 2018، ص16
6هالة الحفناوي، “الحائطيون: المجموعات المتأهبة في شوارع الدول العربية”، اتجاهات الأحداث، العدد6، يناير2015
7مهدي بالشيخ وأنيسة البرّاق، “الفن يقتحم الشارع”، رسالة اليونيسكو، أبريل_يونيو، 2019، ص23
8المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، نحو سياسة ثقافية عربية للتنمية، تونس، 2001، ص83
9أمين الحسيني، “الحركة الاجتماعية الفنية كأفق تفكير: فنّ الشارع: الهامش يثور على المؤسسة؟ موت الأب أم ميلاد أب جديد؟” ضمن: إشراق الغديري، زياد زراعي، ياسين النابلي، في سوسيولوجيا الاحتجاج والتنظم لدى الشباب التونسي، منظمة راج تونس، سبتمبر 2018، ص115
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد السابع، سبتمبر 2021، ص.ص. 14-15
للاطلاع على كامل العدد: http://tiny.cc/hourouf7