نظريات الجهلة
|عندما يكون الحديث حول الطب أو الفيزياء أو الكيمياء…، يصمت غير ذوي هـذه الاختصاصات، وترى الكل مسلّمين بكل ما تمليه نظريات هذه المجالات بدون جدال و لا تشكيك، بينما لا يكون الأمر كذلك بالنسبـة لتخصصات مثل علم التربية و علم السلوك “السيكولوجيا”!. فلماذا نرى الكل يدلي بدلوه، يشكك و يجادل و يقعد القواعد و يخط النظريات على غير هدى و لا رأي حكيم ؟ فنظريات هؤلاء المشككين تؤسس علـى مثــال عايشــوه للحظات! معتمدين مقاييس محدودة للنجاح. فهل هذا هو المسار الصحيح لتأسيس النظريات العلمية؟ لماذا لا نصمت و نراجع قناعاتنا المتوارثة عندما يأخذ عالم التربية و عالم النفس الكلمة؟ لماذا لا نفرغ رؤوسنـا مـن الأفكار المسبقــة ؟ لمـاذا نقابلهــم بعقــول متحجــرة و مشككة فــي كــل ما يقولـون ؟ لمــاذا نقابلهــم بأحكام مسبقة تجزم بفشل هذه النظريات وبعدم صلاحها للواقع! و كأنهم و حدهم الذين يعايشون الواقع ليمنحوا، بالتالي، أنفسهم أحقية تقعيد القواعد. ألا يخطر ببال هؤلاء أن عالم التربية و عالم النفس لم يستقي نظرياته من كوكب آخر بــل كــانت حصيلة بحوث علمية طبقت على الجنس البشري على الكرة الأرضية؟
ولنأخذ مثال اعتماد “العنف البدني” كوسيلة تربوية للعقاب و السيطرة، فالذي يبرر هذه النظرية يستند على مثـال عايشــه للحظـات و يحـاول أن يقنعنـا بنتائـج هـذا المنهـج التربـوي عن طريق عرض جملة النتائـج “الباهرة” التــي تحصــل عليها، نتائج من قبيل الحصول على معدل سنوي ممتاز أو الانصياع إلى أوامــر جلاده… أريد أن أسأل أصحاب هذه النظرية. و إلـى متـى سنبقـى نسـوس هـذا “المتفـوق” كالحمـار؟ هل سنظل نسوقه بالعصا إلى أن يتحصل على الأستاذية أو الدكتوراه… و نعلن بذلك نجاح خطتنا التربوية! و وصولنا إلى الهدف المنشود! فأي تفوق هـذا؟ و هل تأكد أصحاب هـذه “النظريـة التربويـة” أنهـم أنشئوا إنسانا صالحا و قادرا على إعمار الأرض؟ أم أن هذه المهام ليست في مخططات هؤلاء؟ ألا يكونوا بأسلوبهم “اللاتربوي” هذا، قد أعدوا لنا أشخاصا مرضى و مسحوقين، نماذج مريضــة نفسيــا و محطمة تملئ نفوسهم مركبات سيدفع المجتمع ثمنها، حتى و إن أصبح هذا المتفوق من أصحاب ربطات العنق؟ هل يستطيع صاحــب هذه النظرية أن يضمن لنا أن باستطاعته أن ينتج لنا علماء مثل أبي حنيفة أو الغزالي أو ابن خلدون؟ …هل تربى هؤلاء وفق هذه النظرية؟ و هل درسوا العلم تحت ظل عصا الجلاد؟ أم أن صناعة عباقرة مثل هؤلاء لا تقع ضمن حساباتهم و أن الحصول على معدل 19 من عشرين هو مبلغ همهم من العملية التربويـة؟ هــل فكرنا فــي إعداد أجيال غير التي نتذمر منها دوما؟ هل خططنا أي طبيب نريد و أي قاض نريد و أي أستاذ نريد؟ و هل هذا الكائن الذي فيه نفخة من روح الله لا يستقيم إلا بالضرب؟ و بأي معنى يستقيم كلام الله لقـد كرمنـا بنــي آدم ؟ هـل يستقيم مـع عصـا الجـلاد؟ و إلى متى نحمل النظريات العلمية جهلنا و قلة حيلتنا و نفاذ صبرنا؟ فالمتأمل و الدارس لآخر التطورات في مجالات علم التربية و علم النفس يجدها تستقيم مع فلسفة الإسلام و نظرته للإنسان و الهدف من وجوده. لكن الضرب أخذ بريقه عند العامة من أمرين.
أولا تحقيق نتائج فورية. فالذي نريد أن نجعلــه يصمت نضربه فنحصــل على النتيجــة المأمولــة فورا و الذي نريد منه أن ينجز أمرا ما نضربه فيفعل ما يؤمر خوفا من العقاب، و هكذا بالنسبة لكل أمر فتكون النتيجة المنطقية باستجابة الضعيف لرغبة القوي وفق منطق القوة و هذا مـا يجعلنــا نتمسك بــه كوسيلــة استنجاد.
و ثانيا لأن الضرب لا يتطلب أي مجهود ذهني بينما تحتاج العملية التربوية السليمة إلــى خطط و إلى مجهود ذهني و صبر كبير شأن كل عمل عظيم.
الضـرب قـد يحقـق بعـض النتائج الفوريـة لكنـه لا يصـنـع إنسـانا و فـي المقابـل نجـد، أن علـم التربيــة تناول الإنسان ككل و درس سلوكه و انفعالاته و دوافعه و نفسيته و العلاقـات التي تحكم ماضيه و حاضره و مستقبلـه و مميـزات شخصيتـه و البيئة التـي نشـا فيهـا و الهـدف مـن وجوده و لاحـظ و محص و درس و استنتـج و صــاغ النظريات التـــي تهدف إلى بناء إنسان يحمل كل معاني الإنسانية، كيان إنساني راسخ كالجبل لا تهزه عواصف و لا زلازل… كيان إنساني ينفع أينما حل و ينجح في كل الظروف ويحقق مراد الله من الوجود.
فهـل يعقـل أن تكون كـل مجهودات مراكز البحوث و الجامعات و العلماء أفرادا و جماعات… هراء لا فائدة منـه و لا يمكـن تطبيـق نظرياتهـم على أرض الواقع بل هــي مجـرد علاقات منطقيــة لا تصلـح إلا علـى صفحات الكتـب؟ نعـم تبقـى هــذه النظريـات مجهـود بشري قد يعتريه النقص و قد تتغيـر من فترة لأخـرى، لكـن تغييـرها يأتـي مـن الداخـل و ليس مـن الخارج، يأتـي مـن داخل هذه التخصصات و تكون
كنتيجـــة طبيعية لتطور المعارف و تراكم التجارب و الخبرات العلمية و هذه سنة كونية تنطبق علــى كل أشكـــال الفعل الإنساني، و لكن رغم هذا لم نسمع قط بأن أحدا شكك في جدوى الطب لأن نتائــج البحوث الطبية في تغير مستمر ( و إن شأت اطلع علـى مجـال تغذيــة الرضيــع خلال العقود الأربعـــة الأخيـــرة و سوف تلاحظ التناقض العجيب بين فترة و أخرى) أو لأن هناك مرضى يموتون رغـم عيادتهـم للطبـيـب و استعمال وصفاته. لكننا بكل أسف نرى الكل يقحم نفسه في مجالات مثـل علم التربيـة و علـم النفس ربما عن جهل بأن هذه المجالات أصبحت تخصصات علميـة قائمـة الذات تخطـت مرحلة التأسيس إلـى مرحلـة الثبات. فهل قدرنا كل هذه المجهودات عند صياغة نظرياتنا البدائيـة أم أن مبلـغ همنــا هــو حلول ظرفية و سريعة لا تتطلب أدنى مجهود ذهني لمواجهة مشاكلنا اليومية؟