العولمة وفريضة الاجتهاد

عرفت المجتمعات الحديثة ثورة معلوماتية  أدت إلى إلغاء الحواجز والمسافات بين الشعوب والحضارات وحوّلت العالم إلى قرية كونية. فظهر معها مصطلح ” العولمة” الذي أدى بدوره إلى طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات، كمصير الهوية في ظل العولمة. فتأثيرات هذه الأخيرة على الهوية كبيرة وجسيمة وتؤدي في بعض الأحيان إلى التهديد بإلغائها. وهذا ما يحصل اليوم مع شعوب العالم الثالث المتخلفة ثقافيا وتكنولوجيا واقتصاديا و عسكريا مقارنة بدول العالم المتقدم التي تحمل في جعبتها من التطور والقوة ما يؤهلها لاحتواء وإلغاء بقية الحضارات حيث أدى هذا التباين الشديد إلى هيمنة الثقافة الغربية وإلى سيطرتها على الأفراد وممارسة نوع من الاستعمار غير المباشر. تعتبر المنطقة العربية الإسلامية من أكثر المناطق المهددة نظرا لعجزها عن استيعاب التطورات التي عرفتها غيرها من الحضارات الإنسانية وانغلاقها وتقوقعها حول ذاتها مما أدى بدوره إلى عجزها عن اللحاق بركب التطورات وإلى تصدع هويتها وفقدانها لخصوصيتها ممّا أدى إلى طرح تساؤلات حول أسباب هذا التخلف وعدم القدرة على مواجهة تحديات العولمة خاصة فيما يتعلق بمسألة الهوية. فالمشكل الأساسي هو مشكل الفكر وخاصة الفكر الديني السائد غير المعقلن والمسيطر إلى حد بعيد على الحياة العقلية والشعورية للعربي المسلم “إن كان ذلك بصورة صريحة وجلية أو بصورة ضمنية واعية” كما يقول صادق جلال العظم. إذ أن تطوير هذا الفكر وملائمته مع طبيعة ومتطلبات العصر ضرورة قصوى حتى تتمكن هذه الحضارة من اقتلاع جميع الجوانب السلبية المعطلة والكابحة في إرثنا الاجتماعي والثقافي مع المحافظة طبعا على خصوصية ومقومات هويتها. حتى لا يتوه أبناؤها في خضم هذا العالم المعولم ويجدوا أنفسهم مخيرين بين الوقوع فريسة للغزو الثقافي الذي يجدون في كنفه من العقلانية والتطور الفكري والوعي والمنطق ما يحملهم على التخلي عن أصالتهم وثقافتهم الأم فيفقدوا بذلك ركيزة أساسية من ركائز الشخصية السليمة المتوازنة ألا وهي الهوية. وبين الإصرار على الهروب إلى تراثهم والتشبث بتاريخهم ولكن بطريقة غير سليمة إذ يصرون على التفكير كما كان يفكر السلف بطريقة لا تتلاءم مع روح الإسلام السمحة فيتمسكون بظواهر الأمور و العوائد ولا يبحثون في المقاصد و الدلالات ممّا يؤدي إلى انزوائهم وتطرفهم في أحيان كثيرة فيساهمون بذلك في التأخر بالحضارة العربية الإسلامية ويجعلون منها حضارة هشة ضعيفة ومهتزة وفريسة سهلة للغزو الثقافي. فالتمسك بالمعاصرة على مستوى الحياة المادية والإصرار في نفس الوقت على التفكير كما كان يفكر السلف يمثل حالة من الانفصام المرضي كما يقول نصر حامد أبو زيد،متناسين بذلك مخالفتهم للإسلام الذي يحث على الاجتهاد ويجيز حتى الاجتهاد “الخطأ” بل ويكافئه “من اجتهد فأخطأ فله أجر”. ذلك أن الخطأ هو السبيل لبلوغ الصواب في مجال التفكير الحر بلا خوف و لا عوائق ممّا يساهم في مناقشة إشكاليات حياة المسلمين في عالم تزول فيه الحواجز وتختفي المسافات وتزداد الأخطار. كي تتمكن هذه الحضارة من الارتقاء بنفسها ومعالجة نقائصها بطريقة تسمح لها بتحقيق الثورة التكنولوجية والفكرية والاقتصادية والمعلوماتية….. حتى تكسب هويتها مناعة وقدرة على مواجهة تحديات العولمة.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights