تحديات الاقتصاد التونسي بعد الثورة موضوع الجامعة المفتوحة لألتايير
|انتظمت يوم الأحد 15 ماي الدورة الثالثة للجامعة المفتوحة لمنظمة ألتايير العالميّة تحت عنوان “تحديات الاقتصاد التونسي بعد الثورة”. و كان السيد فتحي الشامخي، الأستاذ الجامعي والباحث بجامعة منوبة والناطق باسم جمعية راد أتاك تونس، هو ضيف هذه الدورة. وقد استهل مداخلته بالقول أنّ الثورة أتت معاينة لفشل نظام بن علي، لا على المستوى السياسي فقط لكن أيضا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. لكن، ولئن كانت مسألة السلطة تبدو واضحة، حيث أنّ الثورة تنشد القطيعة الكاملة مع الاستبداد السياسي، فإنّ الأمر ليس كذلك فيما يتعلّق بالناحية الاقتصادية، حيث لم يتم الحديث عن القطع مع المنوال الاقتصادي الذي اتبعه بن علي والذي كان، بالتراكمات التي أفرزها طيلة 23 سنة، دافعا إلى الثورة حيث فشل هذا النظام في حل مسائل البطالة والقضاء على الفقر، كما أنّ الوعد بالازدهار والديمقراطيّة عن طريق التبادل الحر لم يتحقّق. ولاحظ المتدخّل أنّ الخطة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي صادقت عليها الحكومة لتطبيقها في المدى القصير تكرّس نفس خيارات الماضي، و لم يأخذ فيها رأي الشعب. ويندرج ضمن نفس الإطار التبشير بالخلاص الآتي من الخارج والدعوة إلى مخطط مارشال لإنقاذ البلاد. ومثل هذه الحلول المقترحة هي تفكير في إطار النمط السائد الذي سيطرت عليه فكرة الحتميّة التي عبّرت عنها مارغريت تاتشر بقولتها “الحاضر هو المستقبل الوحيد الممكن”. ومثل هذا النمط يجعل من المحال التفكير في عالم آخر ممكن، وهو ما تحدته الثورة التونسية التي فتحت المجال للتفكير في حلول أخرى.
ثم تمّ فتح الباب للنقاش وطرح الأسئلة. فأشار يوسف أنّ مشاركة الشعب في مخطط الحكومة يكون بطريقتين: التصويت في الانتخابات أو إقامة تعاضديات. وقال أنّ الثورة لم تشمل العقليات وأنّ البعض مازال يرى أنّ النظام المناسب لتونس هو نظام الهادي نويرة. وتساءلت آية عن عيوب برنامج الحكومة، وكيفيّ ضمان مشاركة الشعب فيه. ودعا نبيل إلى إعادة النظر في أسس النظام الرأسمالي الذي تحوّل إلى دكتاتوريّة ناعمة في الولايات المتحدة. وأكّد ناجي أنّ الصعوبات الحالية لا تعود إلى ظرفيّة المسار الثوري، بقدر ما تعود إلى خلل هيكلي منذ الفترة البورقيبيّة من مظاهره الارتباط بالخارج (التداين والاستثمارات) ومحاولة انعاش الاقتصاد بالتخفيض من قيمة الدينار، وهو ما عمّقت فيه الأزمة العالميّة ومؤخرا الأزمة الليبيّة، حيث أنّ ليبيا من أهم الشركاء الاقتصاديين لتونس وهي من البلدان القليلة التي تفوق قيمة الصادرات إليها قيمة الواردات. وأشار عثمان إلى أنّ هناك عدة حلول داخلية كإصلاح السياسة الجبائية والعدل في الاستثمار. وأكّد مختار على ضرورة أن يتحدّث أصحاب القضيّة (الشعب) و يعبّروا عن رأيهم في المنوال الاقتصادي الواجب اتباعه. وتساءل غسّان عن امكانيّة اختيار نظام اقتصادي جديد في ظل المعطيات الحاليّة. وأثار صدّام مسألة تشابه البرامج الاقتصادية للأحزاب، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. واستشهد محمّد بقولة نيرودا “أنا أشعر بالموت..أيّ شيء آخر لا يهمّ” ليقول أنّها تنطبق على الاقتصاد التونسي وأشار إلى أنّ السياسة الأنجع حاليا هي التنمية الاقتصاديّة الداخليّة. وأشارت سلوى إلى أزمة القطاع الفلاحي وقالت أنّ من أسبابه عدم الاهتمام بالمرأة الريفيّة حيث أنّ الـ800 ألف دينار المخصّصة لوحدة المرأة الريفيّة داخل وزارة الفلاحة لا تستغلّ. وأشارت كورين إلى التضارب بين مشهد سياسي جديد ينادي بالمساواة (عن طريق الانتخابات) ومشهد اقتصادي يكرّس اللامساواة، حيث أنّ اقتصاد السوق يجعل من أقليّة من الناس أغنياء ويبقي البقيّة تحت خط الفقر. وأكّدت أسماء أنّ الأعباء الاقتصاديّة الحالية يجب تحمّلها لإنجاح الثورة وأشارت ضرورة التركيز على القطاعات التي لم تتضرر كالتكنولوجيات الحديثة وتساءلت عن مدى صحّة فزّاعة الاقتصاد. وأكّدت شريفة على أهميّة الجانب النفسي في إصلاح الاقتصاد الذي يعاني الفاعلون فيه الآن من عدم قدرة على التكيّف مع التغيير الحاصل، وللتخلّص من الصعوبات الحالية، لا بدّ من اعتماد ثلاثيّة: العمل- الأخلاق-الشفافيّة، وشدّدت على عدم الحاجة إلى الدعم الخارجي إذ يجب أن ننجد أنفسنا، لا أن ننتظر نجدة من الآخرين، ضاربة أمثلة لبلدان تمكّنت من النجاح رغم الحظر المفروض عليها. وأشارت فضيلة أنّ حق الشعوب في تقرير مصيرها في غياب فكر اقتصادي عميق، وأكّدت على أهميّة استغلال الثورة البشرية و تشجيع البحث العلمي وأشارت إلى أنّ الثورة فكريّة بالأساس، ودعت إلى استغلال الثروات التي تتمتّع بها البلاد كالشمس والبحر.
وفي معرض ردّه على مختف ما أثير في النقاش، ذكّر الأستاذ فتحي الشامخي بالتأثير الكبير للثورة على المعنويات حيث أنّ الجميع يرغبون في التصرّف في النفس بكل حريّة. وأشار أنّه على عكس 1956 لمّا تحمّلت النخبة مسؤوليتها و1987 لما حدثت أزمة شبيهة بما حصل في 2011 لكن لم يتدخّل الشعب في حلها، فإنّ الشعب، دون النخبة، هو الذي أخذ بزمام الأمور في 2011. وبعد هذه الفترة الطويلة من القمع التي عاشها، يجب منح الشعب بعض الوقت ليختار مصيره. وأضاف أنّ الشعب الذي صنع معجزة يقال له الآن: ليس بإمكانك أن تفعل شيئا، إذ يسود الخطاب القائل بوجوب الصبر وعدم وجود عصا سحرية، في حين أنّ الشعب لم يطلب المستحيل، بل ينشد حلولا استعجالية. وقال أنّ تونس ليست في حاجة إلى التمويل الخارجي، إذ أنّ المعطيات تثبت أنّ ما قدمته البلاد إلى الخارج يفوق بأكثر من 6 مليارات دينار ما أخذته. وأشار إلى تجربة شركة ليب LIP في فرنسا إثر 1968 عندما غادرها مسيّروها فقام العملة بتسييرها، وهي تجربة يمكن الاستفادة من بعض جوانبها في الظرف الحالي. وأكّد أنّ برنامج الحكومة الحالي ليس برنامج الثورة، حيث أنّ الثورة لم تؤثر إلا في تبويبه و بعض العبارات المستعملة، وهو في مجمله مستنبط من تقرير صندوق النقد الدولي لشهر سبتمبر 2010 ومن الأمثلة على ذلك الدعوة إلى تخفيض الضرائب على المرابيح وترفيع الضريبة على الاستهلاك، وهو ما تم نقله حرفيا في برنامج الحكومة. وأشار إلى أنّ بن علي ورث عن بورقيبة نسبة بطالة تقدّر بـ15%، وهي نسبة بقيت على حالها لكنّ ما أزّم الوضعيّة هو الاعتماد الكبير على التشغيل الوقتي. وأكّد أنّ الأزمة العالمية كانت لها تداعيات كبيرة على الاقتصاد التونسي، إذ كان عام 2009 كارثيا. وقد زادت الثورة في تعميق الأزمة ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ الاقتصاد كان يسيّر لفائدة أقليّة، وهو ما أفرز 600 ألف معطّل عن العمل و مليون شخص يعانون من الفقر، وبالتالي هو نظام اقتصادي جائر لا يجب البكاء عليه، ولو أنّ البعض يعتبرونه جيّدا ويمكن المحافظة عليه بعد تنقيته من الفساد والمحسوبية. وأكّد السيد الشامخي أنّ تغيير النظام الاقتصادي ممكن، ويمكن للشعب أن يقوم به، فقد سبق أن اعتبرت الإطاحة ببن علي مستحيلة، وحقق الشعب المستحيل. ويمكن في هذا الإطار استكشاف طرقات جديدة بعيدة عن الأنماط السائدة التي تعتبر عدم الخضوع لإملاءات العولمة من باب المستحيل. وأضاف أنّ ما قامت به المؤسسات العالمية من تخفيض من تصنيف تونس، رغم تعهدها منذ 21 جانفي بالإيفاء بتعهداتها المالية في موعدها، تكشف عن أهميّة التهديد الذي مثلته الثورة التونسية للاقتصاد العالمي. وأكّد أنّ الشعوب يمكن أن تجد أرضيّة للتفاهم فيما بينها كإلغاء الديون التي هي عقود بين طرفين، وأشار إلى الحملة التي تقوم بها جمعيّة راد أتاك لإلغاء الدين الخارجي وهو مطلب تفاعل معها عدد كبير من الأروبيين، وهو ما يجسمه إمضاء 75 نائب من البرلمان الأروبي يمثلون ملايين الناخبين على عريضة في هذا الإطار. وتطرّق الأستاذ الشامخي إلى العدالة الجبائية مشيرا إلى أنّ خسائر الدولة من التهرب الجبائي (التي قدرها البعض بـ15 مليار دينار) مهولة مؤكدا على أنّ الإعفاءات الجبائية الكثيرة تتنافى وقيم المواطنة. وأكّد على أنّ تركيز الاستثمار في المناطق الساحلية دون المناطق الداخلية هو أمر يمكن تجاوزه، إذ أنّ الاستعمار الاقتصادي هو ما يفرضه بفرضه على الدول النامية تقسيما بين ما يعتبره نافعا وبين ما يعتبره غير نافع. وقدّم المحاضر اقتراحات لإجراءات استعجاليّة لتجاوز الوضع الحالي كطلب تعليق الدين الخارجي ريثما يفرز المسار الثوري نتائجه، وإجراء تحقيق لمعرفة مآل الديون التي اقترضتها تونس في ظل النظام السابق، وانتقد الإسراع بدفع مليار دينار لتسديد الديون الخارجيّة يوم 6 أفريل، في حين أنّ مثل هذا المبلغ كان يمكن أن يوظف لحل عدّة مشاكل داخلية. وأكّد الأستاذ الشامخي أنّ تحقيق الاستقرار صعب ما لم يتغيّر النظام الاقتصادي الحالي الذي يتسم بغياب العدالة.
وبعد النقاش، انقسم الحاضرون إلى ورشتي عمل تناولت الأولى حصيلة الاقتصاد التونسي قبل الثورة وتعرّضت الثانية إلى الحلول الاستعجالية المقترحة للخروج من الأزمة. ثمّ قدّم الفريقان تقريريهما اللذين كانا محور نقاش. وكان من أبرز ما جاء في كلمة الأستاذ فتحي الشامخي الختاميّة ضرورة الانفتاح على التفكير البديل، حيث أنّ من اعتادوا التمسّك بالنمط السائد يرمون جميع من يخالفهم بالقصويّة والتطرّف، في حين أنّهم أكثر تطرّفا من الجميع بتمسكّهم الأعمى بالقوالب الجاهزة.