دينيس فيلنوف و بناء عوالم من الرمل: الحماقة الإنسانية في فيلم ”كثيب ”

بقلم: أسماء سحباني

كتب فرانك هربرت رواية “كثيب” سنة 1965 إثر زيارته لولاية اوريغون سنة 1957 ليكتب تحقيقا عن مساعي السلطات الزراعية لوقف تقدم رمال الصحراء نحو المناطق المأهولة. انبهار هربرت بقوة الطبيعة وعناد الرمال جعله يتخلى عن مشروع المقال ويبدأ البحث في علاقة البشر بالطبيعة وكانت النتيجة ظهور عالم آراكيس والكثبان الساحرة.

بعد انقطاع دام سنتين بسبب الوباء ذهبت إلى السينما وشاهدت الفيلم المستند إلى هذه الرواية.  يبدو أن فيلنوف مخرج الفيلم ترجم حبه للرواية ولعالم السينما عبر هذا الفيلم. هو تحية حب لعالم مر بسنتين جعلت البشر يعيدون النظر في علاقتهم ونظرتهم الكوكب.

يسافر يول آرتيديس (تيموتي شالامي) مع عائلته إلى الكوكب الصحراوي آراكيس. انتقل والده ليتو آرتيديس (أوسكار ايزاك) إلى هذا الكوكب امتثالا لاوامر الإمبراطور ليشرف على حصاد البهارات، المورد الطبيعي الأهم في كامل عالم ”كثيب“. لا يسمح الحاكم السابق لآراكيس لآل آرتيديس بالتحكم في الكوكب وهذا ما سيجعل من الفيلم مسرحا للدسائس السياسية مع خلفية إيكو-فلسفية.

الفيلم طويل نوعا ما إذ انه يمتد على طوال ساعتين ونصف من المشاهد الطويلة التي صاحبتها حوارات قصيرة. الفيلم عبارة عن كتاب صفحاته تتحرك أوتوماتيكيا مع كل مشهد جديد. كل مشهد جديد مثقل بالتفاصيل وبتعابير وجوه الممثلين والموسيقى التصويرية. الفيلم مزيج متقن بين فنتازيا الخيال العلمي والواقعية. الكوكب شديد الجفاف وحرارته شديدة الارتفاع إلى حد أنّ سكّانه الفريمان يرحبون بضيوفهم بالبصاق عليهم. الماء ثمين جدا وإن بصقت عليك فإني أعطيك جزءا من مائي ترحيبا. الكوكب الغرائبي جُعِل قريبا من المشاهدين ببناء خلفية ثقافية لسكانه تنبع من طبيعة محيطه. دينيس فيلنوف أثبت هاهنا عمق نظرته وذكائه السينمائي.  عمل مختص السينوغرافيا غريغ فرايزر بشكل مكثّف مع المخرج فيلنوف حتى يخلق عالم آراكيس بكثبانه المخيفة ومركباته العظيمة، هذا العالم الّذي يجب أن يُرى في مكانه الحقيقي، في قاعة السينما.

الانغماس في عالم “كثيب” سهل جدا. إذ أنك، عزيزي المشاهد، ستغمر بالكثبان الرملية وحرارة آراكيس وتوابلها ستحفز حواسك. الصحراء شاسعة وكبيرة كبر وعي البشر وأحلامهم، عظيمة عظم ذكائهم ومخيفة مثل حمقهم.

قدم بول آرتيديس مع والده الدوق لوتو آرتيديس على متن مركبة عظيمة من كوكبهم ليبرموا اتفاقية مع الفريمان يمكنهم بمقتضاها احتكار استخراج البهارات من الصحراء، وهي مادة مخدرة ووقود ثمين تتحارب العائلات الارستقراطية الحاكمة لاحتكار إنتاجه. البهارات التي لا توجد سوى في كثبان صحراء آراكيس هي وقود المركبات الضخمة التي تطوي الفضاء حرفيا حتى تتمكن من عبور المجرات واحتلال الفضاء. لكن على المستكشفين أن يحذروا دودة الصحراء العملاقة التي تحرس البهارات.

عندما يقف بول آرتيدس على أطلال قصر والده في آراكيس، يتأمل الأفق الممتد إلى مالا نهاية، يغمرنا كما يغمره احساس بالتيه والارتباك. تيه لا يوقفه إلا إشباع غرائزنا الأولى. غريزة التوسع للمغامرة والاكتشاف وتملك أشياء لا تخصنا.

يعيد الإنسان إنتاج تاريخه نفسه وحماقاته دون أي تغييرات جذربة بعد 20.000 سنة من وقتنا الحالي.  يغادر كوكب الأرض بعد أن دمره الذكاء الاصطناعي ويحتل كواكب أخرى ويشرع في سرقة مواردها الطبيعية مستعبدا السكان الأصليين ومتحديا الطبيعة. هو يغامر، يكتشف، يحتل، يدمر ثم يغادر ويستمرّ على هذا الحال إلى الأبد. مثل ثعبان ينزع جلده ليلبس جلدا جديدا مماثلا، يغير البشر أزيائهم ولكنهم لا يتغيرون. مثل ثعبان يأكل ذنبه، نسمح لرغباتنا بافتراسنا بنهم والا مالا نهاية.  وليبرر الإنسان غريزته البدائية، نروي قصصا ونصنع أعداء وأبطالا وننسج حولهم أساطير إلى مالا نهاية.

بناء الأصنام ونسج الأساطير حولها قديم قدم البشرية. هو محفز للتقدم والتوسع البشري لأن الأساطير كانت تعطي معنى للوجود. الدين كذلك ارتبط بفكرة السيطرة على الأهواء والغرائز. غريزة البقاء والانتشار والتكاثر. السفن الأولى التي ابحرت إلى الضفة الأخرى زينت برموز دينية وارتبطت بأساطير أبطال خارقين.

لمحت رواية “كثيب” التي كتبت سنة 1965 هذا التطور المخيف قادما وتنبّأ فرانك هربرت بسيطرة الذكاء الاصطناعي على حياة الإنسان إلى حد تدمير كوكب الأرض. سيمنع البشر بعد آلاف السنين من الآن استعمال الذكاء الاصطناعي. فقط السفن ستبقى تبحر خلال الفضاء اللامتناهي لتحمل على عاتقها إشباع الغريزة الأولى، غريزة البقاء والانتشار.  وفي نظري، هذه المراكب الضخمة هي البطل الحقيقي للفيلم، فكلما ظهرت على الشاشة ملأتها ووجدتني أحبس انفاسي انبهارا وأنا أراها تنزل من الفضاء البعيد لتحط على أرض آراكيس كوكب الكثبان الحية.

الإبحار اليوم ليس متوفرا في الفضاء فحسب وإنما على الهواتف ومن خلال الأسلاك. هذا الشهر أعلن مارك زوكربارغ عن إطلاق مشروعه ميتافرس، وهو ما يفتح مجالا للسفر في كون مواز لا ندري ما يخبّئه لنا.

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد التاسع، نوفمبر 2021، ص. 15

للاطلاع على كامل العدد: https://tiny.cc/hourouf9

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights