الجذور التاريخية لاختلال التوازن بين الجهات في تونس

بقلم: فهمي رمضاني

تعد مسألة اختلال التوازن بين الجهات من المسائل المطروحة اليوم على واقعنا التونسي نظرا لارتباطها بمسألة التنمية والعدالة، فالتباينات الإقليمية تمثل عائقا للتنمية المستدامة هذا بالإضافة إلى ما يخلفه اختلال التوازن من شعور بالحيف والظلم الاجتماعي ولا يمكن فهم هذه المسالة بدون الاستناد إلى  الإرث التاريخي الذي صنع عبر حقب مختلفة الشخصية المجالية للبلاد التونسية بتبايناتها ومميزاتها في هذا الإطار سنعمل في هذه المداخلة على تبين جذور اختلال التوازن بين الجهات في البلاد التونسية بالعودة إلى أهم العصور والمنعطفات  التاريخية لفهم علاقة المجال بالتحولات  الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

 

العصور القديمة بداية تشكل الشخصية المجالية للبلاد التونسية

العهد القرطاجي: البحر والتاريخ

يعتبر قدوم الفينيقيين وتأسيس قرطاج في 814 ق.م أهم محطة في تاريخ تونس القديم إذ أدخلت البلاد في مسيرة الحضارة وصنعت كذلك الشخصية المجالية للبلاد التونسية.

 وتعتبر قرطاج التي أسسها الفينيقيون في خليج تونس حاضرة متوسطية تجارية بالأساس اقترنت صورتها بالبحر أكثر من الداخل وعرفت بكونها قوة تجارية زاحمت القوى الكبرى في المتوسط وبالتالي مثلت قرطاج أول حاضرة ساحلية ربطت مصير البلاد بالبحر وذلك منذ تأسيسها إلى تاريخ سقوطها.

 وقد اعتمد نشاطها بالأساس على التجارة مع شعوب المتوسط وكان هاجسها تأسيس امبراطورية تجارية بحرية تسيطر على المتوسط ولكن إضافة إلى قوتها البحرية، تحولت منذ القرن الرابع إلى قوة فلاحية حيث تمكنت قرطاج من اكتساب مجال زراعي في دواخل البلاد واقتحام المجال الإفريقي وفرضت على نصف بلاد لوبيا استخلاص الضرائب وتجنيد الرعايا.

كما قامت بحملات ضد اللوبيين، هدفها إحكام السيطرة على هذا المجال وتحولوا إلى رعايا خاضعين لنفوذ قرطاج ومع احتلالها لأغلب المجال اللوبي وتوسعها في الدواخل حصل أعيان قرطاج على ضيعات شاسعة على حساب اللوبيين الذين تم الدفع بهم داخل البلاد أو أضحوا مزارعين وعمال لديهم.

وبقيت القبائل البربرية على هامش الحياة الاقتصادية وأثقل كاهلها بالضرائب المجحفة وكان من نتائج ذلك نشأة فوارق اجتماعية وجهوية وحتى ثقافية قوية بين مجال منفتح على البحار وآخر عتيق منغلق على نفسه يشمل تقريبا كل السكان الذين أطردوا من مواطنهم وغلبوا على أمرهم.

ويعكس ذلك سيطرة هذه الحاضرة البحرية الساحلية على الدواخل وهي أولى البوادر التي تبين ثقل المدن الساحلية مقابل ضعف وهامشية الداخل.

العهد الروماني: التمدين والرومنة

بعد تدمير قرطاج في 146 ق.م وإعلانها أرضا ملعونة تم اتخاذ أوتيكا عاصمة جديدة للمقاطعة الرومانية وهي مدينة ساحلية كانت ضد قرطاج في الحرب البونية الثالثة ثم سيقع إحياء قرطاج مرة أخرى مع يوليوس قيصر ومع الإمبراطور أغسطس الذي أنشأ مستعمرات عديدة ومنح 30 مدينة قانون المدن الحرة.

وفي ظل ما يسمى بالسلم الرومانية pax romana  ازدهرت حركة الاستيطان والاستعمار وتعددت المدن وانتشر التحضر والتمدن وكانت المدن في حدود 200 مدينة موزعة على الساحل والدواخل ويمكن القول بأن العهد الروماني من أكثر العصور التي ازدهرت فيها حركة التمدين ما رافق ذلك من تطور في الطرقات والبنية التحتية وهو ما تؤكده الآثار التي لازالت إلى اليوم شاهدة عن ذلك مثل الحنايا التي تجلب المياه من زغوان لقرطاج.

وانتشر خلال هذه الحقبة التمدين الذي شمل الساحل والشمال الغربي والوسط الغربي وهو ما يكشف عن وجود توازن ولو نسبي بين الداخل والساحل وهو ما تبينه الخريطة التالية.

لكن كان هذا التمدين على حساب القبائل البربرية التي دفع بها نحو المناطق الفقيرة فكانت النتائج ثورات عديدة أهمها ثورة تاكفاريناس كما شملت حركة الرومنة النخب الحضرية فقط ولم تتبنها القبائل والأهالي في الدواخل.

وتمكنت البورجوازية في ظل السلم الرومانية من استثمار الأرياف لصالحها وأن تنمي مشاريعها وأن تجمع ثروات طائلة فاستثمرت ذلك في بناء المدن وتشييد المسارح فكثر التنافس بين الأثرياء في تزيين المدن وتطويرها وقد أسهم ذلك في تشكل نوع من التوازن الحضري بين المدن فظهرت مدن داخلية استقطبت السكان مثل حيدرة ودقة وتيبريومايوس (الفحص حاليا) وأخرى.

ولكن مع أزمة الإمبراطورية الرومانية ثم مع مجيء الوندال والبيزنطيين سيتشكل مشهد جديد إذ سيتراجع التمدن والتحضر وستنحسر المدن داخل أسوارها نتيجة انعدام الأمن ليظهر الإقطاع واحتد الصراع بين مختلف الفئات الاجتماعية فانكمش الاقتصاد وانتشرت البداوة وتأزمت أغلب المدن والأقاليم الساحلية وبدرجة أكبر الأقاليم الداخلية

العصور الوسطى: من الاستمرارية إلى القطيعة

الاستمرارية: من العهد الأغلبي للقدوم الهلالي

مثل القدوم العربي الإسلامي حدثا هاما في تاريخ البلاد التونسية إذ سينقل البلاد من الحضارة اللاتنية والمسيحية إلى الحضارة العربية والإسلام، وقد نجح العرب في السيطرة على البلاد بعد مقاومة شرسة من البربر والبيزنطيين، لذلك أخذ الانتشار العربي الإسلامي وقتا طويلا مقارنة بالعراق أو الشام أو الأندلس. وقد دمر حسان بن النعمان قرطاج معقل المقاومة البيزنطية لينتهي بذلك اشعاع هذه المدينة لتخلفها تونس التي أسست بالقرب منها.

ويعد تأسيس مدينة القيروان، التي لم تكن ساحلية، ترجمة لتوجهات العرب ومرحلة جديدة قطعت مع هيمنة المدن الساحلية حيث سيصبح للداخل التونسي أهمية كبرى وذلك تزامنا مع تشكل طرقات تجارية نشيطة تربطها ببلاد المغرب وافريقيا وبلاد السودان.

 وقد شهدت القيروان العاصمة الجديدة ازدهارا كبيرا مع الدولة الأغلبية وهي أول دولة مستقلة عن الخلافة العباسية تتأسس بإفريقية ونظرا للاستقرار السياسي واستباب الأمن امتدت المساحات المزروعة من جديد ولم تقتصر على سهول الشمال بل شملت مناطق الوسط والجنوب بفضل ما أنجز من أعمال الري وازدهار الصناعة والتجارة وأصبح هناك توازن بين الساحل والداخل.

وقد تقدمت التجارة وأصبحت طرقها تربط بين القيروان وأروبا ولكن مع سقوط الدولة الأغلبية ومجيء الفاطميين ستعود العاصمة مرة أخرى إلى الساحل (مدينة المهدية) دون أن يكون هناك تأثير كبير على المدن الداخلية وقد تواصل هذا التوازن تقريبا إلى أواخر العهد الزيري حيث بدأت تلوح بوادر الازمة في الأفق.

القطيعة: العهد الحفصي

يعتبر القدوم الهلالي حدثا هاما لكنه لم يكن المسؤول عن التدهور الذي شهدته إفريقية في مطلع القرن الحادي عشر ميلادي ولكن عمق هذا القدوم الأزمة بين الأقاليم حيث انتشر التبدي وانحسر العمران واندثرت عدة مدن بأكملها نتيجة الأزمات المتعددة وتحولت لخراب.

شهدت إفريقية كذلك أزمة سياسية تمثلت في ضعف السلطة المركزية وبروز إمارات مستقلة بالمدن كبنو الورد وبنو الرند وبنو جامع وبنو برغواطة.

وقد فقدت العديد من المدن الداخلية دورها الرئيسي كالقيروان التي أصبحت محاطة بالأعراب البدو ولم يعد لها أي دور اقتصادي وقد أصبحت مدينة تونس أهم مدينة وقد توجهت نحو البحر وكانت تربطها علاقات عداء بالداخل.

 ويعتبر العهد الحفصي أهم قطيعة حصلت في تاريخ تونس، فهو عصر تحدد فيه مصير افريقية: إما الإقلاع أو الانهيار، وقد تعمقت فيه الفوارق بين الساحل والداخل على الرغم من التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي حصل في هذه الفترة لكنه ظل منحصرا في المدن ولم يفض الى الانتقال إلى مرحلة اقتصادية أخرى وإلى نشأة نمط اجتماعي وثقافي متجانس وموحد بالبلاد، حسب ما أكدّه المؤرخ التونسي محمد حسن.

شهد العهد الحفصي كذلك تغيرا في مسار الطرقات التجارية حيث اندثرت الطرقات البرية التي كانت تربط المدن الداخلية ببلاد السودان والمشرق والمغرب العربي واتجهت التجارة نحو المدن الساحلية التي أصبحت متضخمة مثل تونس وسوسة وبذلك اندثرت عديد المدن الداخلية التي ازدهرت في العصر الوسيط المتقدم نتيجة التجارة والطرقات التي كانت تمر بها وانحدرت كذلك بعض المدن الساحلية مثل المهدية نتيجة تعدد الغزوات البحرية كغزوات النرمان.

تراجعت الأنشطة الاقتصادية كذلك حيث تدهورت الزراعة وذلك بسبب تعديات البدو وانعدام الأمن وثقل الضرائب السلطانية وقد أصبحت البادية سوقا للمدينة فتم استنزافها. إضافة إلى ذلك كانت السمة الغالبة على الاقتصاد في الداخل هي ثقل الجباية المسلطة على المزارعين والحرفيين واحتكار السلطان للأنشطة الاقتصادية وهوما يفسر قولة ابن خلدون الشهيرة “السلطان هي السوق الأعظم للمال”.

وبالتزامن مع ذلك، حصلت تحولات مهمة بالغرب المسيحي، إذ شهد انتعاشة اقتصادية شملت المدن والعمران والفلاحة إثر نهاية الحروب الصليبية كما برزت المدن التجارية الإيطالية التي سيطرت على التجارة في المتوسط وفرضت سيطرتها على المدن الإفريقية التي لم تتمكن من منافسة التطور الحرفي الحاصل بجنوة والبندقية وبرشلونة وغيرها من المدن التجارية وقد تجسد ذلك بوضوح في قطاع النسيج حيث هيمنت الصناعة الإيطالية والقطلانية في مستوى التصدير وأغرقت السوق الافريقية بالبضائع المتأتية من الجانب الآخر من المتوسط كما عجزت البحرية الافريقية عن المنافسة. فنشأت بذلك مبادلات  غير متكافئة بين المجالين حيث اختصت المدن العربية الإسلامية في تصدير  المواد الأولية كالصوف والجلود والزيت والتمور مقابل إغراق السوق بمصنوعات جنوة والبندقية من القماش وغيره.

شهد العهد الحفصي كذلك جوائح وكوارث طبيعية وأوبئة كان أهمها الطاعون الجارف الذي ضرب أغلب مدن العالم الإسلامي وقول عنه المقريزي ” “وعم الموتان أرض افريقية بأسرها جبالها وصحاريها ومدنها وجافت من الموتى وبقيت أموال العربان سائبة لا تجد من يرعاها وماتت المواشي بأسرها”.

من العصر الحديث إلى اليوم: من اختلال إلى تفاوت

العهد العثماني: تعمق القطيعة بين الساحل والداخل.

لم يسهم القدوم التركي سنة 1574 في إدخال تغييرات كبيرة على المجال وتناقضاته بل تواصل تقريبا ذلك الاختلال الذي بدأ في العهد الحفصي، إذ تدعمت مكانة تونس وسوسة وبنزرت فيما تراجعت البوادي باستثناء فترة حمودة باشا التي تعتبر فترة ازدهار.

تجسد هذا الاختلال مع المراديين والحسينيين حيث ازدادت سيطرة المخزن على الدواخل ضمانا لاستخلاص الريع الجبائي. وقد دخلت البلاد مرحلة تأزم منذ 1814 (وفاة حمودة باشا) بداية بحملة اللورد إكسموث سنة 1816 ثم احتلال الجزائر في 1830 فأصبحت البلاد التونسية “إيالة ضعيفة لا ثروة لها إلا من الحبوب وزيت الزيتون” وتعرضت أغلب الفئات الاجتماعية إلى الأوبئة والمجاعات والاستغلال الجبائي فاجتاح الفقر عديد الفئات واتسعت الهوة بين الدولة والمجتمع.

ومن المؤكد ان التراجع الديمغرافي قد أصاب القوى المنتجة والحية في المدن والأرياف على حد السواء وكانت مناطق الإنتاج الحبوبي متمركزة حول الشمال والساحل وقد أدت الجباية إلى ازدياد الهوة بين المجتمع والدولة وعلى الرغم من أهمية المشروع الإصلاحي فإن ذلك لم يمنع البلاد من الدخول تحت الاستعمار.

الحقبة الاستعمارية: الاختلال بين الشمال والجنوب

خلال الحقبة الاستعمارية، أصبح الاختلال كائنا بين الشمال والجنوب وليس بين الساحل والدواخل فإضافة إلى كون الشمال يعتبر إقليما محظوظا من حيث التساقطات حيث تتجاوز التساقطات 400 مم وخصوبة التربة التي ساعدت على تعاطي النشاط الاقتصادي، فإن للاستعمار دورا هاما في توسيع الهوة بين الشمال والجنوب إذ استغل السهول الشمالية وانشأ فيها المدن أما في الوسط والجنوب فقد بقي التدخل الاستعماري محدودا ومنحصرا في بعض المناطق دون سواها.

وكان الاقتصاد يرتكز أساسا على تركز الجالية الأوروبية بأخصب الأراضي الفلاحية بالشمال كحوض وادي مجردة والتل الأعلى كما استقرت الجاليات الأروبية بأهم المدن كتونس ومنزل بورقيبة وبنزرت وسليانة وقعفور والفحص وماطر أما في الوسط والجنوب فقد اقتصر فيه توطن هذه الجالية على الحبوب والزياتين في بعض الضيعات المحدودة أو في بعض المراكز المنجمية كما هو الشأن في الحوض المنجمي بقفصة أو القلعة الخصباء والجريصة في حين خضع الجنوب لسلطة عسكرية.

من الاستقلال إلى اليوم: اختلال فتفاوت

كانت دولة الاستقلال واعية تمام الوعي بمسألة الاختلال الجهوي فتم تقديم بعض الاقتراحات لدمج التراب التونسي والحد من الاختلال الجهوي وذلك في إطار المشاريع الاقتصادية التي عملت على تنفيذها والتي ترجمت توجهات الدولة خلال الستينات ويظهر ذلك من خلال بعث أقطاب تنموية في الداخل تمثلت في معامل تكرير السكر بباجة وورق الحلفاء بالقصرين والصوف بالحاجب ومواد البناء بالحامة.

ولكن مع فشل تجربة التعاضد تزايدت حركة النزوح الريفي نحو العاصمة خلال النصف الثاني من الستينات وبداية السبعينات وتعمقت الفوارق بين الساحل والداخل.

ومع الأزمة التي اندلعت في منتصف الثمانينات، اعتمدت الدولة برنامج الإصلاح الهيكلي وتخلت الدولة عن المسألة الاقتصادية وانخرطت في مسار العولمة الذي حتم تقسيم البلاد إلى نصفين تونس الساحلية أين تتجلى الدينامية الاقتصادية والاندماج في نظام العولمة وتونس الداخلية التي لا تملك موارد. فتعززت بذلك الجبهة الساحلية (تونس، صناعات بنزرت ومنزل بورقيبة، المعامل الميكانكية بالساحل، موبلاتيكس بالمنستير، صناعات النسيج بقصر هلال، الفوسفاط بصفاقس). من جهة أخرى، أدى إنشاء المناطق السياحية والمطارات والتجهيزات المصاحبة لها بكل من الحمامات- نابل وسوسة-المنستير وجربة- جرجيس إلى تعزيز الشريط الساحلي وتحويله إلى منطقة جذب سكاني.

  أما في الداخل، فإن تدخل الدولة اقتصر عموما على بعض المشاريع المحدودة كالمحطة السياحية بطبرقة، الاسمنت الأبيض بالشمال الغربي، المركب الكيميائي بقفصة والمطار، السياحة الصحراوية بتوزر.

 

 

أهم المراجع

تونس عبر التاريخ، كتاب جماعي ، الجزء الأول والثاني والثالث والرابع، مركز البحوث والدراسات الاقتصادية، تونس، 2005.

حسن (محمد)، المدينة والبادية بإفريقية في العهد الحفصي، جزءان، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، 1999.

بلهادي (عمر)، المسألة المجالية بتونس، سراس للنشر ، تونس، 2005.

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 30، سبتمبر 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf30

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights