من أنتم؟ …فعلا من نحن؟

من أنتم؟ قالها القذافي… وضحك الجميع كالعادة من غباء الرجل وبكى بعضهم من تعاسة الأقدار التي ترفع أمثاله وتجعلهم أسيادا. شخصيا ضحكت كثيرا وبكيت أكثر لكن المهم في الأمر هو أن هذا السؤال لم يفارقني وبقي يتردد في أذني ويقفز في ذهني بين الفينة والأخرى. أقول لنفسي ماذا لو وجه العقيد المعقد هذا السؤال لنا كتونسيين فكيف سنجيبه؟ فعلا من نحن؟ على بداهته يبدو السؤال ملغزا ومحيرا.
هل نملك فعلا ما يجمعنا ويوحدنا إلى درجة التماهي فتغدوا كلمة تونسيون كافية للإجابة عن سؤال الهوية وللتعريف بالذات؟
ولو كانت هذه الكلمة كافية لماذا أجلت الطبقة السياسية في بلادنا النظر في كل المشاكل التي تعصف بالبلاد لتبحث عن جواب لسؤال الهوية صلب الهيئة  العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في جو مشحون تبادل فيه مثقفو البلاد ونخبها الشتائم والتهديدات. ففلان يقول بأننا عرب وكفى بذلك من نسب وعلان يقول بأننا مسلمين أولا وأخيرا ومن قال عكس ذلك فقد خرج عن الملة واتبع طريق الضلال.
وبين هذا وذاك يصبح سؤال القذافي أكثر إرباكا وإحراجا. أيعقل أننا بعد أكثر من  خمسين سنة من الاستقلال مازلنا نبحث عن هويتنا ومازالت كلمة تونسي عاجزة عن الإيفاء بمعناها وضربا من الوصف السطحي الذي لا يعني الكثير في نظر الكثيرين لا فكريا ولا عمليا. فأن تقول تونسي في إدارة عمومية لا يكفي غالبا لتحديد نوعية الخدمة التي ستحصل عليها والمعاملة التي ستلقاها تتحدد بناء على ما تضيفه من تعريفات أخرى حزبية أو جهوية أو قبلية.
هذه الحيرة والحسرة وهذا التشتت أمام سؤال الهوية هو في نفس الوقت نتيجة  ومؤشر على أمرين إثنين:
•    فشل دولة الاستقلال في إدخال المجتمع التونسي أو ما كان يحلو لبورقيبة تسميته poussière d’individus  عصر الدولة وبقي محتفظا في غالبيته بفكر وبتصرفات ما قبل الدولة وبانتماءاته القبلية والجهوية والعائلية.
•    فشل النخبة التونسية في إقامة حوار فكري خالص وهادئ حول مسألة الهوية يفضي إلى تعريف منطقي للهوية التونسية بعيدا عن التجاذبات والمزايدات السياسية التي قد تفضي بنا إلى هوية وطنية ملونة بكامل ألوان الطيف الحزبي لا تعبر بالضرورة عن الشخصية التونسية ولكنها ترضي غرور الساسة الذين يخططون لفرض تصورهم للهوية لاستثماره في ما بعد لتبرير سياستهم الداخلية كما هو الحال بالنسبة للتيار الإسلامي أو لتبرير سياستهم الخارجية بالنسبة للتيارات العروبية خاصة.
فالمفكرون التونسيون الذين بحثوا في مسألة الهوية اتسمت أعمالهم بمقاربتها التفكيكية والتجزيئية حيث أنهم اهتموا بتعريف كل مكون من مكونات الهوية التونسية على حدة وركزوا بشكل كبير على تعريف ما يمكن أن نسميه الإسلام التونسي مع إهمال غير مفهوم لباقي عناصر الهوية. إضافة لذلك وفي بحثها عن هذا التعريف اتسمت نقاشات مفكرينا بميزتين أساسيتين وهما:
•    التعقيد مثلما هو الحال بالنسبة لأعمال الدكتور هشام جعيط الذي قدم تعريفا إشكاليا للهوية التونسية يزيدنا إرباكا ويصعب أن نعتبره تعريفا عاما بل هو أقرب لأن يكون رؤية ذاتية للهوية الفردية للكاتب.
•    المبالغة والتطرف في إظهار خصوصية الإسلام التونسي من جهة أو في نفي كل خصوصية عنه من جهة أخرى. فالأستاذ محمد الطالبي بالغ بإسم الحرية الفكرية وبدعة المسلم القرآني في مهاجمة كل ما هو مقدس وصارت أفكاره في السنوات الأخيرة مشوبة بجموح غريب نحو تبني فكر استفزازي يجيب به الطالبي مناظريه لا يخلو في عديد الأحيان من التجريح. ومن ناحية ثانية يطل علينا الفكر السلفي مدعوما بفضائيات الفتاوى العابرة للقارات ويدعونا للعودة إلى الإسلام الحقيقي كما يرونه إسلام العورة واللحية ومنع الاختلاط.
وإن كان النقاش حول مسألة الهوية عموما هو من النقاشات المفتوحة التي لا تقبل الحسم النهائي في أي دولة في العالم والممتدة في الزمن إلا أن طرحها اليوم وفي مستوى الهيئة المكلفة بالإشراف على الفترة الانتقالية هو دليل على عمق أزمة الهوية crise d’identité التي يعيشها الفرد والمجتمع التونسيين. أزمة ستصبح أكثر عمقا إذا أصر الجماعة على التعامل معها كورقة سياسية.
ما أعتقده شخصيا هو أننا اليوم بصدد بناء الهوية التونسية كعنوان حضاري للمجموعة البشرية التي تحيا على هذه الأرض ونحتاج لننجح في ذلك لفهم مكونات هذه الهوية. بصدد البناء لأنه لا يمكن الحديث عن هوية وطنية لمجتمع تمزقه الفوارق الاجتماعية والنعرات القبلية والجهوية ويطبق فيه القانون على الضعيف والمسحوق     وينعم بخيراته أصحاب الامتيازات ولصوص الملك العام. فتوحيد المجتمع بكل الأحوال هو مرحلة سابقة للبحث عن هويته. أما فهم مكونات هذه الهوية فهو عمل لا يتحقق إلا بقراءة علمية ونقدية لحاضر البلاد وخاصة لتاريخها حتى نجد المعادلة الصحيحة بين الحاضر  والماضي فنكون شعبا يعيش حاضره ومحافظا على تراثه الفكري والحضاري لا هو منقطع عن ماضيه إلى درجة الانبتات ولا هو حامل لفكر تراثي.

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights