في المسرح الرحباني: “جبال الصوّان”…الموت عرسا
|بقلم: حمزة عمر
تعتبر مسرحيّة “جبال الصوان” علامة فارقة في مسرح الأخوين رحباني الغنائي، فمن بين المسرحيات الخمس عشرة التّي أعدّها الأخوان بين 1962 و1977، تظلّ هذه المسرحيّة التي أخرجها صبري الشريف والتي عرضت سنة 1969 بمهرجان بعلبك التراجيديا الأبرز في أعمالهما، أو التراجيديا الوحيدة إذا أخذنا بمفهوم ضيّق للتراجيديا، باعتبار أنّه رغم الطابع المأساوي الذي يميّز نهايتي مسرحيّتي “أيّام فخر الدين” (1966) و”بترا” (1977)، تظلّ مسرحيّة “جبال الصوان” العمل الوحيد الذي ينتهي بموت البطلة، موت “غربة”، الشخصيّة التي تجسّدها فيروز.
تبدأ المسرحيّة بغزو فاتك وأتباعه لجبال الصوّان. يتصدّى له الأهالي بقيادة بطلهم مدلج، ولكن بعد مائة يوم من الحصار، يظلّ مدلج وحده واقفا، رغم يقينه بالهزيمة، حتّى يُقتل أمام البوّابة. يدخل فاتك المتسلّط منتصرا، ويسود الحزن الأهالي لعشر سنوات يمتنعون طوالها عن الاحتفال بأعيادهم. وفجأة، تعود إلى الجبال غربة إبنة مدلج، التي ظنّ الكثيرون أنّها ماتت وهي طفلة أثناء الغزو…تأتي لأنّ الوقت قد حان لتمزيق الخوف…
لم تكن غربة تجهل مصيرها. بل أنّه لم يقع التعرّف عليها إلّا بالمصير الذي ينتظرها. فلمّا شكّ الأهالي في حقيقة أمرها، تتقدّم العجوز حنّة الساحلانية التي تؤكّد أنّها تعرف جميع آل مدلج بعلامتهم، وبعد أن تتأمّل غربة للحظات، تنطق فيما يشبه التنهّد: “التاج على رأسها…النذر في عيونها…مكتوب على جبينها قصّة البوّابة“…علامة آل مدلج ليست علامة حسيّة بارزة لعيون الجميع، بل هي قصّة مآل نُذروا له…قصّة مصير محفور في أعماقهم…من المقدّر لهم جميعا أن يموتوا على البوّابة.
وموضوع النذر ليس غريبا على الرحابنة، فهو شائع عندهم منذ المسرحيّة الأولى “جسر القمر” التي تحكي قصّة الفتاة المسحورة (أو المنذورة) للجسر، والتي لا ينقذها من سحرها سوى الحبّ. لكنّ النذر هنا يتخفّف من طابعه العجائبي ليصبح قدرا لا يمكن إلّا التسليم له. غربة واعية بذلك، بل أنّها واعية أنّها ليست مخيّرة فيما تقوم به. لمّا يسألها الأهالي عن سرّ تأخّرها كلّ هذه السنوات، تجيب ببساطة “لمّا صار الوقت جيت“…جاءت دون تقدّم أو تأخّر، جاءت في الوقت…
تخلو شخصيّة غربة من التركيب، وهي سمة بارزة من سمات المسرح الرحباني. باستثناء مسرحيّة “لولو” (1974) وربّما مسرحية المحطّة (1973)، تشكّل شخصيّة البطلة عادة نموذجا للخير المطلق الذي لا يعرف تردّدا ولا ضعفا ولا انكسارا، وتقابلها شخصيات تجسّد الشرّ المطلق، ونموذجه في “جبال الصوّان”، إضافة إلى فاتك وأتباعه، شخصيّة “شهوان”، ذلك الرجل الذي اختار أن يبيع ضميره لفاتك المتسلّط مقابل ما يمنح له من امتيازات حتّى يشي بأهله، ونرى هذه البساطة في بناء الشخصيات تتجلّى بوضوح لمّا يتغنّى “شهوان” بأنّه حفيد الشيطان !
من العبث إذن أن نبحث، حتّى في التراجيديا الوحيدة للرحابنة، عن مثيل لذلك التعقيد النفسي الّذي يميّز “هاملت” شكسبير مثلا. غربة لا تنثني، ورغم محبّة الأهالي لها، فأنّها لا تتبسّط معهم في الحديث، وإن شاركتهم أفراحهم، ونراها تبقى محافظة على رمزيّتها، وربّما على ترفّعها. لا تخاطبهم إلّا شدّا على قلوبهم وشحذا لعزائمهم ولا تطلب منهم عونا ولا سندا ولا تشكو إليهم شيئا. عندما يضطرب الأهالي بفعل الإشاعات، ويكاد الحابل يختلط بالنابل، تخاطبهم لتقول “لا تخافوا…ما في حبوس تساع كلّ الناس…يعتقلوا كتير، بيبقى كتير…وباللي يبقوا رح نكمّل“. لا تقبل غربة بأشكال الضعف الإنساني، ولا تنظر إليه إلّا من عل. عندما يُقترح عليها الاستعانة بمن تغرّبوا عن وطنهم إثر الغزو، ترفض في أنفة وتجيب “اللي بيحاربوا من برّة، بيظلّوا برّة“…عندما يشار إلى تفوّق جيش فاتك عددا وعتادا، تخاطبهم في حزم “بعد في في قلوبكن خوف“، وتذكّرهم كيف تركوا بطلهم مدلج لمصيره منذ عشر سنوات وتقول “لو ما خفتوا، كان فاتك خاف“.
المشهد الوحيد الذي تطلب فيه غربة سندا، لم تكن تستمدّه من الأهالي. كان ذلك عندما ركعت وصلّت شادية “ساعدني يا نبع الينابيع، يا سيّد العطايا…” ابتهلت حتّى تكون جديرة بحمل عبء رسالتها إلى النهاية. تنضح الابتهالة بروح الفداء، كما تنطق عنها شخصيةّ غربة على امتداد المسرحيّة. لم تعبّر غربة في أيّ مرّة عن تمرّد على ما كُتب لها. المعادلة كانت بسيطة واضحة: الأرض لن تتحرّر إلّا بموتها. ليس الموت مصيرا قاتما إذن بل عرسا. قبل بدء الاحتفالات بعرس بنت أبي صقر، تطلق حنّة الساحلانية نبوءة: ستشهد البلاد عرسا أكبر. أبو صقر نفسه يسرّ لزوجته أنّ عرس ابنته لم يشغله، وأنّه بانتظار العرس الثاني. تسري البشارة كالنار في الهشيم، وتحتفظ بغموضها إلى اللحظة الأخيرة، لحظة المواجهة. عبّأ فاتك جيشه في مواجهة الأهالي، وأقبلت غربة بثوبها الأبيض وخطاها الواثقة. يعرض عليها فاتك الإبقاء على حياتها وحياة الأهالي فتجيبه بما يختصر رسالتها: “أنا غربة بنت مدلج. مطرح ما وقف بيّي بوقف على البوابة حتّى أوفّي النذر“. تسقط غربة صريعة في ذلك المكان الذي اكتسب قداسة الدم. لكنّ ذلك الاستشهاد لا يبعث لا حزنا ولا رهبة في قلوب الأهالي. موت غربة حرّرهم من خطاياهم، من ضعفهم وخوفهم، من دم مدلج. كانت غربة مسيحهم الفادي. عزمهم الغاضب ارتسم في عيونهم، فلم يجد الطاغية وأتباعه مناصا من الفرار. لم تشيّع غربة بالمراثي ولا بالألحان الجنائزية، وإنّما غنّى الأهالي عن “مجد العروس“. يذكّرنا ذلك بما ورد في غنائية زنوبيا عن الموت كتتويج للحياة “يا موت…يا زهرة البطولة…يا تاج الحياة وعطيّة المحبّة الخجولة“.
قوّة الرمزيّة في شخصية غربة كانت غائبة عن بال فاتك المتسلّط حتّى اقتربت النهاية. إذا كان مدلج البطل المقدام انهزم أمامه، فكيف تكون فتاة صغيرة هي “زهرة الضعف التي تربّت بالخوف” ندّا له؟ على عكس شهوان الواشي، القريب من الأهالي، والذي كان مدركا لصحوة الأهالي فأطلق صرخته “وعيوا”، لم ير الحاكم في مظاهر الفرح (عيد العنب، عرس بنت أبي صقر) نذيرا. لم يدرك أنّ الفرح هو انبثاق الحياة من جديد، هو نفخة الروح في الكيان المتهدّم. استهان برجوع غربة التي كانت على أتمّ الوعي منذ لقائها الأوّل بفاتك أنّ إعداد شعبها للمواجهة يتطلّب وقتا وأنّ موطن قوّتها يكمن في ما تبعثه من أمل في نفوس الناس فتقول “أنا نقطة الشتي، أنا حبّة القمح، جاية انزرع بأرضي، بصدور الناس اللي هون…وبكرة زرعنا بيطلع“.
إضافة إلى الطابع التراجيدي، ممّا يميّز هذا العمل عن باقي المسرحيات الرحبانية أنّه وقع العمل على خلق التناسق بين الأغاني وسياق القصّة. في كثير من الأعمال الأخرى، يشوب انسياب الأحداث انقطاع مفاجئ بأغنية ليست لها علاقة بالسياق، ليتحوّل العمل إلى ذريعة لتمكين فيروز من الغناء. في “جبال الصوّان”، لم يكن هذا التنافر موجودا، أو لنقل أنّ الرحابنة أحسنوا اختيار الذرائع لفيروز لتغنّي. عندما تشدو “وطني يا جبل الغيم الأزرق”، يكون ذلك مناجاة تهمس بها ما إن اختلت بنفسها فور عودتها إلى وطنها. وعندما تغنّي “صيّف يا صيف”، يكون ذلك في إطار عيد العنب الصيفي. ولمّا تغنّي “عروستنا الحلوة”، فذلك في إطار عرس بنت أبي صقر. لكن ما يمكن ملاحظته فيما يخصّ بناء الأحداث أنّه كان من الممكن الاستغناء عن مشهد العرس، الذي يمثّل تكرارا لمظاهر عودة الفرح، للتركيز أكثر على تصاعد وعي الأهالي التدريجي بحتمية المواجهة.
وليس من الصعب أن نلاحظ التشابه الكبير بين قصّة المسرحيّة والقضيّة الفلسطينية التي كانت مرّت بمنعرج النكسة عامين قبل عرض المسرحيّة: أرض مغتصبة من قبل قوم “بلا خوف ولا حزن ولا أهل” يغرق شعبها في الأحزان بعد اندحارهم وهم المعروفون ببأسهم، ويختار بعضهم المنفى، وينتظرون خلاصا مجهولا. لو سلّمنا بهذا التماهي، فإنّ “الحلّ الرحباني” مفرط في مثاليته: لا بدّ من مسيح جديد يأتي في ظرف عشر سنوات! من هذا الجانب، يمكن أن نفهم عمق القطيعة التي قادها زياد رحباني مع موروث أبيه وعمّه لمّا نعى عليهما ضعف الوعي السياسي، واتّخذ سبيله في الفنّ سربا…