يهود تونس: بين الاقصاء الثقافي والغربة الاجتماعية
بقلم: أكرم بن عمارة
إنّ تداول الحديث عن مبحث الأقليات بوصفه موضوعا للدراسة والبحث في السنوات الأخيرة بشدّة، نظرا للمتنفس الذي وجدته هذه الأقليات بعد ما يعرف بثورة 14 جانفي/ انتفاضة 17 ديسمبر وخروجها عن صمتها، وإن دلّ هذا على شيء فهو يدُل على القمع والتهميش والاضطهاد الثقافي والاجتماعي الذي عانته هذه الأقليات منذ عقود.
فعلى الباحث والدّارس لمثل هذه المجالات والمباحث أن يتسلح بمنهجية علمية وقراءة سوسيولوجية وقانونية للواقع التونسي، وأن يتبع ويرصد الشهادات الموثقة من ضحايا التمييز والانتهاكات التي تسلط على المنتسبين لهذه الجماعات الدينية، لأن قضية الأقليات العرقية والدينية إلى زمن ليس بالبعيد في المجتمعات العربية الإسلاميةوعلى غرار تونس تعد من المسكوت عنها في الأبحاث التاريخية وكتابات العلوم الاجتماعية الرصينة التي تؤسس لثقافة قبول الاخر المختلف عنا بكونه ذاكرة جماعات تشاركنا هوية ووطنا على حدّ السواء، ويرجع هذا العزوف عن التطرق لهذه الجماعات لاعتقاد سائد يعتبر الخوض فيها من الممنوعات حتى في الأوساط الجامعية والبعض يضيف بالقول أن التطرق لها يثيرُ النعرات الدينية والعرقية، في ما يتفرد الشق الأكبر بالطرح أنهم لا يحملون دين الأغلبية الطاغية.
في ظلّ هذا الطرح وذاك المختلف مضمونا والموحد في فكرة جامعة مفادها أنّ البلاد التونسية بسياساتها ومؤسساتها وأفرادها إلى حد ما لا تؤمن بثقافة الاختلاف ولا بحرية الاعتقاد والمعتقد ولا تؤسس لها، حتى أننا لا نرى في واقعنا المعاش أرضية عيش واضحة المعالم لهذه الفئة، وهذا ما يؤكد لنا أن الدستور التونسي يقول الشيء ونقيضه في علاقة بوضع هذه الأقليات ليثبت لنا أنه نص قانوني إنشائي بحت.
نحاول فيما سيلي إبراز فكرة أساسية تتمثل في أن يهود تونس رغم أنهم تونسيون قبل كل شيء لهم من الواجبات ما لغيرهم وليس لهم من الحقوق ما يتمتع به بقية المواطنون. ومن خلال هذا المعطى الذي يفتح أمامنا باب التساؤل كيف يمكن أن نحقق مواطنة فاعلة في ظل الاقصاء لهوية شعب يشاركنا أرضا ووطنا ويحملون ذاكرة ثقافية له منذ البدء، لذلك علينا أن نطرح إشكاليات مركزية تتمثل في:
ما هو واقع الهوية الثقافية ليهود تونس بوصفهم جزء من هذا الوطن؟
هل أن يهود تونس مواطنو دولة بالتبني؟
هل يمكن أن نتحدث عن مواطنة حكر على الأغلبية الدينية في المجتمع التونسي دون سواها؟
ما هو الواقع الاجتماعي الثقافي ليهود تونس؟
التنوع الديني في تونس
يعتبر الإسلام دين الأغلبية في تونس بنسبة 97% من السكان ويدين جزء كبير من المسلمين التونسيين بالمذهب المالكي الأشعري وبالإضافة إلى وجود أتباع مذاهب وفرق إسلامية أخرى كالشيعية والاباضية والحنفية..، أما بالنسبة للديانات الأخرى على غرار اليهودية (يهود تونس) والمسحية والبهائية والملحدين واللادينيين ويقدر عددهم بالآلاف وغالبيتهم من فئة الشباب.
نبذة عن الحضور اليهودي في تونس
يعود الحضور اليهودي بالبلاد التونسية وفقا للتناقلات الشفهية اليهودية إلى سنة 580 قبل الميلاد وذلك بعد تدمير المعبد في أورشليم (القدس) من قبل البابليين. في نهاية القرن التاسع عشر، كان هناك حوالي 20 ألف يهودي من بينهم ما يقدر بنحو 18000 لديهم أصول في تونس تعود إلى العصر الروماني، مع مجموعة أصغر 1000 تتألف من الوافدين الجدد من إسبانيا وإيطاليا .
ففي عام 1857 أدخل الباي محمد إصلاحات لمنح المساواة المدنية والدينية لجميع الأفراد مدفوعا أيضا بالمصالح الاقتصادية الأوروبية. وعاش اليهود قبل الاحتلال الفرنسي في مرتبة أهل الذمة حيث وفر لهم ذلك مستوى من حماية لم يجدوه في أوروبا ولكن صاحب هذا الأمان بعض التعاملات الدونية.
خلال فترة الاحتلال الفرنسية وتحديدا بدءا من عام 1910 أصبح عدد من اليهود مواطنين فرنسيين متجنسين رغم أنهم فقدوا هذا الوضع التفضيلي في 1940 بعد احتلال ألمانيا النازية لشمال فرنسا. وتأسيس نظام فيشي في الجنوب الفرنسي.
تأثرت الأقلية اليهودية في تونس بسلسلة القوانين التمييزية التي أصدرتها فرنسا فيشي، مع ذلك فإن هذا لم يمنع انتشار المشاعر المعادية للسامية وتعرض اليهود للهجوم في بعض الأحيان. سجلت أسوأ فترة خلال عامي 1942/1943 حيث حكم على اليهود بالعمل القسري. بعد الاستقلال وصل عددهم إلى 100 ألف بحلول الأربعينات بعد أن انتهجت الدولة سياسة السيطرة على الدين وقمع الحريات التي امتدت حتى إلى الأقليات اليهودية. وفي الوقت الحاضر يوجد1500-2000 يهودي فقط.
تجليات الإقصاء الثقافي والاجتماعي
هذا الحضور ساهم في إثراء المشهد التاريخي والتراثي فقد خلّف هذا الاستقرار بداية تشكل هوية ثقافية لهذا الوطن على غرار الحضور الإنساني في كل المحطات التاريخية التي عرفتها البلاد التونسية منذ ظهور الانسان الأول ويرجع للإرث الإنساني والحضاري الذي ما زالت معالمه بارزة رغم السياسات التهميشية التي انتهجتها الدولة بخصوصها والعقلية السائدة التي ألحقت بهذا المخزون الثقافي الضرر وعدم الاعتراف والاقصاء ويبرز ذلك في عدة أشكال منها تخريب المعالم اليهودية على غرار المقبرة اليهودية التي تم تحطيمها ونقلها قسرا بعيد الاستقلال من وسط العاصمة (حديقة الجمهورية) والتي عجز الاحتلال الفرنسي عن نقلها لمدة 50سنة، وهذا يعدُ اعتداء صارخا على حرمة الأموات ومسّا من العقيدة اليهودية التي تعتقد بأن نقل القبور يكون إما الى أرض الميعاد حسب اعتقادهم وإما تبقى في مكانها الأصلي ورغم ذلك تم نقلها لمدينة أريانة حاليا.
وتتمظهر الثقافة الإقصائية من خلال التفجيرات التي لحقت المعابد اليهودية كحادثة “معبد الغريبة” بمناسبة حج اليهود.
هناك عديد الشهادات التي تم توثيقها بخصوص طعن بعض من يهود تونس من قبل مواطنين تونسيين فقط لانتمائهم للديانة اليهودية.
كل هذه الممارسات الاقصائية لا تؤسس لمواطنة حقيقة بل تقصى جزءا من الهوية الثقافية وجزءا من ذاكرة البلاد التونسية. لم تقتص التجاوزات على هذه الأشكال بل تجسدت في عدة مظاهر أخرى منها عدم الاعتراف بالأعياد اليهودية والتي لا تعتبرها الدولة التونسية عطلا رسمية خاصة بمواطنين يشاركون الأغلبية نفس الأرض وهو ما يدفع بعض اليهود التونسيين إلى الانقطاع عن الدراسة.
فالملاحظ للمشهد الثقافي الذي يغيب فيه الحضور ليهود تونس ومن النادر أن نرى يهود تونس منخرطين في الفعل الثقافي أو مساهمين فيه أو يتقلدون أي مناصب في الدولة وهذا الإقصاء هو حرمان لهم من ممارسة فعل المواطنة والمواطنية.
بالإضافة إلى ذلك نجد ممارسات تمنع كل يهودي تونسي من المشاركة في الخدمة العسكرية وتصل حتّى إلى حظر بعض المهن عليهم. يمكن ان نفسر من خلال هذا الواقع أن السياسة العامة للبلاد التونسية وتوجهاتها لا تعترف بالأقليات ولا تؤسّس لمناخ جامع لكل افراد المجتمع بشتى اختلافاتهم متناسية ان هناك هوية ثقافية بمثابة العروة الوثقى التي تجمع كل المكونات المجتمعية.
عانى يهود تونس من الإقصاء وعدم الاعتراف والتهميش على مرّ التاريخ وعلى مدى تاريخي طويل في كل المحطات التاريخية التي مرت بها البلاد التونسية ويتمثل ذلك في رواية شفهية مفادها أن اليهود في ظلّ الحكم الإسلامي مُنعوا من السكن داخل أرباض المدينة الا بعد أن تدخّل لصالحهم الولي الصالح سيدي محرز. بالإضافة إلى ذلك، كانت توكل لهم المهن المهينة مثل تنظيف المداخن ومجاري المياه لتمتد هذه المظاهر الإقصائية الى ما بعد الثورة حيث يمنع دفن اليهود في مقابر قريبة من مقابر المسلمين، زد على ذلك يتم اقصاء اليهود من حقهم في إمكانية الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية وهذا ما يعتبره يهود تونس إقصاء من ممارسة مواطنتهم كاملة ومن حقهم في أن يكونوا تونسيين، حيث يعبرون عن ذلك بالقول أنه إحساس قاتل ان تعيش في وطن يعتبرك جزء كبير منه انك عدو محتمل فقط لأنك مختلف عنهم دينيا.
ويجدر بنا الإشارة إلى أن الإعلام العمومي أو الخاص لا يعطي لهؤلاء الفئة حتى الحق في التعبير حتى أننا من النادر جدّا أن نرى يهوديا تونسيا في المشهد الإعلامي وقلّما نرى أي إصدارات أو انتاجات ثقافية تتحدث عن تاريخ يهود تونس بالبلاد التونسية.
إذا لا يمكن أن تتشكل هوية وطنية ومواطنة فعلية في الفضاء العام من خلال ما نلاحظه من عدم ذكر الأقليات كاليهود والبربر مع ان وجودهم أقدم من دخول الإسلام لشامل إفريقيا وهو ما يشير عمليا أن المواطنة في تونس حكر على مجموعة دون غيرها وهذا لا يتماشى مع مفهومها الحقيقي.
بينما تعتبر تونس بلدا متجانسا نسبيا مقارنة بدول أخرى، بشعب معظمه من العرب كعرقية ويعتنق الإسلام كدين فهذه الصورة التي يتم ترويجها باستمرار من قبل الحكومة التونسية منذ الاستقلال لتحجب التنوع التاريخي الكبير للبلاد، ففي الواقع يعد المجتمع اليهودي التونسي الآخذ في التضاؤل بسبب سياسة التعريب الطامسة للهوية غير العربية ومحدودية البيانات الملموسة عن هذه الأقلية اليهودية في تونس التي تعاني تحديد هويتها وتعبير عن ذاتها رغم أنها جزء من تشكل الهوية التونسية التي من الجدير ان تكون شاملة لكل التنوعات الثقافية على اختلافها. فلا يزال المجتمع -أفرادا ومؤسسات- لا يعترف بحق الاختلاف ولا يرى في الخارج عن انتماءات الأغلبية اللغوية والدينية غير غريب عنه ممّا يجعل من الهوية الجماعية منقوصة ومبتورة، فهي لا يمكن أن تؤسس إلا لمواطنة منقوصة وهوية غير كاملة لأنها لا تعترف بكل الثقافات المتعاقبة عليها.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد العاشر، ديسمبر 2021، ص. ص. 8-9.
للاطلاع على كامل العدد: https://tiny.cc/hourouf10