مَوْتٌ مؤجّل: قراءة في رواية “دستوبيا 13 ” لمحمد بوكوم
|إنّ ما يُكسب عملا روائياً ما خصوصيّة هي الموضوعات المطروقة فيه، ويمكن لإخفاق ما بعد الثورة التونسية وما تبعه من إحباطٍ أن يكون موضوعًا تُنسج منها تفرّعات سرديّة متعدّدة. فكثيرا ما ارتبط الأدب ونبع من رحِم الواقع وبخاصة إذا كان مأسويًّا، لدرجة نقف فيها أحيانًا على صعوبة تبيُّن الخطّ الفاصل بينه وبين الخيال! وهو الحال في رواية “دستوبيا 13 “ لمحمد بوكوم الصادرة عن دار أبجديات للنشر في طبعتها الأولى عام 2021 وتضمنت 118 صفحة.
تندرج الرواية ضمن أدب “المدينة الفاسدة” أو ” الديستوبيا”، عكس يوتوبيا المدينة الفاضلة، وهو العنوان الذي اختاره الكاتب وصفا صريحا لأحداثه وشخوصه ويمكن للقارئ من خلاله أن يحدس الفكرة أو الإطار العام للرواية وكذلك معجمها: القتل/ القمع/ الفقر.. حيث تتراجع القيم الإنسانية ويحلّ محلّها الشرّ المطلق والتعفّن.
اختار الكاتب تقسيم روايته إلى ما يشبه الفصول فخُصّ كل حدثٍ وشخصية جديدة، لها دور في تقدّم الأحداث، والانتقال في المكان بعنوان: يحمل اسم إحدى الشخصيات مثل “تورو” ، “عبد الحميد” وعناوين أخرى تدلّ عن حدثٍ أو تغيّر طارئ في حياة الشخصية المحورية للرواية وهي شخصية “وليد” مثل : ” الضّيف الأبيض” ، “العشاء الأخير”. ثم المكان الذي يحمل رمزية ودلالة خاصة في الرواية حيث كانت افتتاحية الأحداث في المقبرة أين يستيقظ البطل من نومه وحيث ينتهي كذلك نائما نومته الأخيرة. هذا التّدوير والعود على بدأ في المكان برمزيته المحيلة على الصّمت والهدوء وربّما السلام أيضا في ” النومة الأخيرة” يُلخِّص مجمل أطوار حياة البطل ورحلته في البحث عن معنى التي يعيقها منطق التعفّن السائد. حياته مرّت من الأزمة (البطالة وحياة العبث في الحي) إلى الانفراج (الحصول على عمل ومغادرة الحي) ثم سرعان ما تسقط مجدّدًا في المعاناة فيجد نفسه مورّطا دون علم منه ولا إرادة في أخطاء الآخرين فيأخذ جزاءهم. كما وظّف الكاتب تقنية الارتداد والاستباق في الأحداث والاسترجاع والتنبؤ في الزمن وذلك بغية توضيح تقاطع القصص.
تُواصل الدّلالة المكانية حضورها على امتداد هذه المحكيّة، ذلك أنّ الحيّ الذي تدور فيه أغلب أحداث الرواية لم يختر له الكاتب اسما محدّدا بل تركه مفتوحا وفي ذلك إشارة لعدّة أحياء تونسية وتخصيصا الشعبية منها حيث تتشابه الحياة فيها، فيمكن للقارئ منّا أن يتخيّل “الحيّ الديستوبيّ” حيّهُ: حيث رجال الشرطة بمداهماتهم الليلية وصفعاتهم المعتادة والشباب الملاحق دوما والّذين لا يرون نورا سوى في عمود الشارع الذي يُقضّون الليل تحته لاعنين حظوظهم. وقد خصّهم الراوي بوقفات وصفية: ” ومع كل نفثة دخان كانوا يسافرون إلى عوالم أخرى بأبواب من قش يسهل فتحها على عكس أبواب هذا العالم الحديدي الموصد بقسوة في وجوهم ” (ص13).
لم يعزّ على الكاتب فتح أبواب للجمال والفنّ والحب، وإن كانت سرعان ما تغلق، مع شخصية وليد ورفاقه بالعاصمة وخصوصا شخصية “راوية” التي مثّلت رمزا وعنوانا للحياة بما تحمله من جمال وخير ومساعدة على الرغم ممَّا تعانيه بدورها، كامرأة، من قمع أسريِّ مصدره والدها إضافة للتعفّن المحلّي الذي يدفعها للتفكير في مغادرة البلاد نهائيّا. وهي فكرة يلتقي حولها جيل بأكمله من الشباب ضاقت به سبل البقاء والاستمرار وصار نِدًا للبؤس والعَدَمِ الذي حوّله لفريسة سهلة تستقطبها تيّارات الإرهاب والمخدّرات خصوصا في سنوات ما بعد 2011 أي مباشرة إثر الثورة.
الالتقاء حول فكرة الرحيل أو الهجرة تعبّر عنه كذلك الأصوات السردية المتعددة إذ نجد مراوحة في الضمائر بمدلولها عن الغائب بين المفرد “هو” / “هي” و”الهم” جماعة أو جماعات كسكّان الحي ورجال الشرطة وما تمتلكه تلك ” الهم” ككتلة بشرية و سلطوية من قدرة على المحاكمة الاجتماعية والتحكّم والسيطرة، سواء منها المادية أو الرمزية، في حياة الأفراد وخصوصا منهم المنتمين لحلقات اجتماعية ضعيفة تعيش صراعا يوميا مع رموز النظام وتكابد للبقاء. فالواقع من خلال هذه الرواية يعبّر بنفسه عن نفسه داخل العالم السرديّ وخارجه، فالرواية تتضمن رسائل وأخبار عديدة ينقلها الكاتب ويبثها عبر سرده لحياة البطل “وليد” وأبناء حيّه وليس مجرد سرد، بل كشفٍ لعنف البوليس وصناعة الإرهاب والإجرام ثم التواطؤ مع مرتكبيه وخلق شبكات للجريمة المنظمة في السلاح والمخدرات وغيرها…
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 26، ماي 2023.
للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf26