اللامعتاد في البحث عن الخلاص في فيلم “الإيرلندي”  لمارتن سكورسيزي

بقلم: محمّد أمين ضيفي

 

تريد هذا التابوت لرجل أو لامرأة؟

“بل لي”

هكذا كانت النهاية. أظن رحلة الثلاث وأربعين عاما منذ صدور تحفة السبعينات والأسطورة الخالدة للمخرج مارتن سكورسيزي “سائق التاكسي” (Taxi driver 1976) قد انتهت بإيجاد سكورسيزي للخلاص الذي لطالما بحث عنه نجمه روبرت دي نيرو وذلك في نهاية فيلم “الإيرلندي” (The Irishman, 2019).  كانت هدية لكل من عشق نسقية يصوغها فيلسوف لم يتوج. ربما كان أوّل من أدرك عظمة القادم من السينما جيل دولوز خاصة مع تعليقه النقدي على فيلم “سائق التاكسي”. أكاد أجزم ان المقصود في قول الفيلسوف الفرنسي “إنّ كبار “مخرجي” السينما هم أشبه بالرسامين والموسيقيين العظام. إنّهم أفضل من يتحدّث عن عملهم، ولكنّهم، فيما هم يتحدّثون يصبحون شيئا آخر، يصبحون فلاسفة أو منظرين” كان وباستحقاق مخرجنا مارتن سكورسيزي, للأسف لم يعش فيلسوفنا ليرى خاتمة الثورة في ميدان السينما التي أحدثها مخرجنا منذ منتصف السبعينات وحتى سنة 2019 ولكننا فعلنا. فدعني أحدثك، عزيزي القارئ، عن خاتمة هذه الثورة.

يمكن نتناول فيلم “الإيرلندي” كعمل منفصل وهو كذلك حقا، وإن كان تتويجا لأفلام سبقته قدّمت النسقية المفهومية لسكورسيزي والتي تمثلت أساسا في الولاء، الصداقة، المعنى وأخيرا الخلاص. لن أخصص الكثير لما يسبق الخلاص من مفاهيم فهذا سيتطلب استعادة ونقدا مفصلا لجملة من الاعمال المهمة لسكورسيزي وخاصة “رفاق جيدون” (GoodFellas, 1991) والذي كان المحاولة الجادة الأولى لبلورة مفاهيم أساسية في النسقية هي الولاء والصداقة، إضافة إلى “ذئب وال ستريت”  .(The Wolf of Wall Street, 2013) أيّ حديث مفصل عن هذه الاعمال سيحتاج إلى مجلدات، فنحن نتحدث عن اعمال لا يفصّل سكورسيزي ذاته مواضيعها بل يعيش من خلالها.

ينتهي فرانك من شراء تابوته ويعود إلى مركز رعاية المسنين. في طريقه يرى من تلك الاعين التي أرهقها الزمن أرواح الأعداء الذين كانت فوهة مسدسه اخر ما يراه بعضهم، أما لبعضهم، فكانت ابتسامته الباردة. في تلك اليد يرتدي خاتما حرمه منه سكورسيزي طوال عقود اما اليوم فهو يرتديه. هو خاتم الدون. إنه الإيرلندي الوحيد الذي يرتدي ما كان حكرا على الايطاليين انقياء السلاسة. ربما هذا اعتذار سكورسيزي لروبرت دي نيرو الّذي لم يكن في أفلام المافيا سوى نصف إيرلندي او يهودي يفعل ما يعجز عنه الايطاليون، ولكن الولاء وقوانينه تجعله في المرتبة الدنيا دائما.

رجال مكتب التحقيقات الفدرالية هنا. يريدون أن يعرفوا ماذا حدث. من قتل جيمس هوفا ولماذا؟ مرت عقود ورجال القانون عاجزون أن يستخلصوا معلومة واحدة من فرانك الإيرلندي. “تستطيعون التحدث الي المحامي الخاص بي”. “سيد فرانك، محاميك ميت”. “من قتله؟”. “السرطان، سيدي”. أرى ما يدور في ذلك العقل الذي لازال يعيش في حقبة الخمسينات في فيلادلفيا: “محظوظ لم تكن إحدى رصاصاتي”. “سيد فرانك، تحدث أرجوك. لم يبق أحد لتحميه. مات الجميع. أنت المتبقي الوحيد”. ابتسامة ساخرة تطل على وجه الإيرلندي يعقبها رحيل. إنهم لا يفهمون ما عشت لأجله. لا يفهمون الولاء. ليس ولاء لأحد، بل ولاء للذات. أخيرا سكورسيزي يجيبنا عن أي ولاء يتحدث فنحن لم نفهم الولاء حقا عبر فلم “رفاق جيدون”. هل هو الولاء للعصابة؟ ألا تعتبر الجريمة رمزية عند سكورسيزي؟ أليست مجرد فضاء للطرح وليس التنظير لها غاية في حد ذاتها؟ لماذا يصر سكورسيزي على أن يلقي أطروحته دائما في ساحة مجتمعات المافيا؟ ألا توجد ساحة أفضل نرى فيها قيمنا التي نعيش لأجلها بعيدا عن الجريمة؟ في الواقع يجب نذهب إلى ديفيد فينشر المخرج الشهير، فإجابته عن قرار سكورسيزي اعتماد الجريمة دائما كسبيل لطرح الاطروحة كانت عبر عمله التلفزي الاحدث “صائد العقول” (Mindhunter, 2017) حيث تحدثنا ديبل صديقة المحقق الفيدرالي هولدن فورد عن نظرية الانحراف الاجتماعي لدوركايم وأنّ الجريمة ليست الا انعكاسا لأزمة في المجتمع. يستعمل سكورسيزي إذن الجريمة كفضاء لبناء نظريته. يعود سكورسيزي لمفهوم الولاء في عديد الأعمال ودائما بصورة مغايرة عما سبقها فالولاء هو ما جمع الرفاق وكوّن الصداقات والولاء هو ما أدى لخيانة أفراد العصابة بعضهم بعضا بحجة الولاء. لا يختلف فيلم “الإيرلندي” عن هذا المسار، ففرانك الإيرلندي هو حارس هذا الولاء، والقصد هنا الولاء التام للمبدأ. أنت حر لتنضم إلى العصابة ولكنك مسؤول عن حياتك إن كان أي قرار لاحق لا يحترم تلك المسؤولية التي أردت تحمّلها بكل حرية. ليس الولاء حقا للدون. أنت لن تقابله. بل الولاء للقرار. فهل أنت أهل لتتخذ القرار ؟

يتجه لغرفته ويترك الباب مفتوحا قليلا. هي عادة لازمته منذ أن أقدم على قتل صديقه جيمس هوفا، وهي نفس عادة هوفا. فرانك يودع صديقه هوفا عبر هذا المشهد. الا أن سكورسيزي لا يخاطبنا في هذا المشهد، بل هو يلقي التحية على المخرج الأمريكي فينس غيليغان. ولمن لا يعرف فينس فهو فنان التفاصيل وفيلسوف الخلاص. يمكنه أن تناديه بالمسيح الجديد، ولكن لا انصحك بطلب الخلاص منه. فالخلاص عنده هو موت عظيم بعد فعل الصواب. سكورسيزي مثل معظمنا شاهد الخلاص الذي ينظّر له غيلغان خاصة عبر نهاية أهم عمل تلفزي في العقد الماضي “كسر سيء” (Breaking bad). ولكونه شخصا طموحا أراد ان يكون للسينما خلاص خاص بها يتفوق على ما قدمته الشاشة الصغيرة وكان له ما أراد. ردّ على هذا الخلاص بمفهوم جديد على الخلاص بعيد عن فعل الصواب بعد مسيرة من الخطيئة. يؤمن مخرجنا بالحرية الملازمة للمسؤولية عن كل فعل وكل قرار إلا انه في طرحه لمفهوم الخلاص يحيلنا إلى مفهوم الفخر والرضا التام البعيد عن فعل الصواب. لا يعني ذلك أنّ مارتن سكورسيزي محرض بشكل أو بآخر على الجريمة التي اعتمدها رمزا يحيل إلى مفهوم الخطيئة. سكورسيزي يدفعنا للفخر بكل قرار اتخذناه وتحملنا مسؤوليته وحب الحياة التي عشناها بكل قرارتها السيئة. بل أنه يرى أن محاولة إصلاح أي خطأ هو كسر للرضا والخلاص.

الخلاص هنا بعيد كل البعد عن التصور المسيحي له المرتبط بمفهوم الرجاء. فإن كان الخلاص الديني طلبا للصفح وتكفيرا عما سبق من المفارق المتعالي سواء اعتبرناه إلها أم مبدأ أخلاقيا، فالخلاص السكورسيزي هو التقبل السعيد للخطيئة، التقبل الذي يرى الماضي على حقيقته على أنه حدث لا يمكن تغيره أو التغطية عليه بفعل صائب والموت بدافع التفكير ليس الا تمظهر جبان للندم. لا ينكر سكورسيزي الندم. قتل جيمس هوفا كان الفعل الذي قتل روح فرانك لا يمر يوم دون ان يتذكر فرانك ذلك الصديق الّذي أسّس للمعنى معه، معنى واقعي بعيد عن المتعالي. ولكن لا وجود لمعنى خارج عن مفهوم الولاء وفرانك لا يعرف عالم لا ولاء فيه. هوفا قرر تحدي المافيا والإيرلندي يرتدي خاتم الولاء. هي المبادئ ضد الصداقة. هل كان هذا انهيارا للمعنى وتشوها للنسقية ؟

يرى سكورسيزي أن المعنى مرتبط لزوما بالفعل الإنساني وليس مفارقا للنشاط البشري بأيّ شكل. هذا جلي في فيلم “ذئب وال ستريت” إلا أنه ينبّه في نفس الفيلم أن المعنى ليس بالمطلق، أي لا وجوب لتلازم أبدي بيننا وبين المعنى. علينا أن ندرك متى يجب نلغي المعنى، فغوردن بيلفورت الذي وجد معنى حياته في عمله كأكبر سمسار بورصة محتال شهدته وال ستريت لم يعرف متى يتخلى عن هذا المعنى والذي كان سيقوده لحتفه فالمعنى يمكن أن يكون مهددا للوجود وفي نفس الوقت سببا لاستمرار الوجود، والتوازن الذي يضعه الانسان هو ما يضمن استمرار المعنى لأطول وقت ممكن وسعة حيلة الانسان هي ما تضمن معرفته بالإشارات التي تفيد أن المعنى أصبح مهددا للوجود ذاته.

فرانك ألغي المعنى والغاؤه المعنى هو الطريق الحقيقي ليكون موجودا حتى يأتي موعد الخلاص. لا مكان للمثالية هنا.  يداه ملطختان بخطيئة لا فعل يكفر عنها. قتل صديق هو قتل أخ عند مارتن سكورسيزي. إلا أنه أمر إلزامي، وهذه المفارقة التي يطرحها مفهوم الصداقة عند سكورسيزي فكل الأصدقاء في أعماله هم إخوة بل الصورة الأولى للإخوة. أتحدث عن قابيل وهابيل. في “رفاق جيدون” من حققوا المعنى معا واجتمعوا تحت راية الولاء انتهى بهم الامر أعداء يترقبون قتل بعضهم البعض. الصداقة أيضا زمنية عند سكورسيزي. لتذهب صداقة الافلاطونيين للجحيم، يقول سكورسيزي. صداقتي تبدأ بالدم وتنتهي بالدم فهذا ما حصل بين الإخوة وسيحصل بين من أصبحوا إخوة، وهذا لا يلغي جمال المفهوم. أشعر أن سكورسيزي يريد أن يقول لمشاهدي ملحمته: نحن معا في هذا العالم. لا داعي للأكاذيب. خسرنا أصدقاء. خسرنا من ظننا أنهم سيظلون بجوارنا حين يظلم المكان ولكن دائما ما نجد أن من بقي حقا بجانبنا كان الصمت، والرغبة في الخلاص. إذن ما هو الخلاص؟

إنه كما قالت المغنية داريا(Dharia)  في أغنيتها “يوميات أوت” (August Diaries) : “كان يجب أن أحرق ذاكرتك. بدلا من ذلك، تركتها تدمّرني”.

يمكننا أن نبكي دموعا من ذهب على ما حدث أو نحرق تلك الذكرى، ولكن ستبقى آثار حروق في مكان ما. سنتذكر أسطورتنا التي حققناها عبر الولاء للمبدأ وصداقة من استحق صداقتنا. سنسترجع ذكرى المعنى، ولكن لن نعيش في الماضي فنحن ندرك أنه حدث وأن ما حدث لا يمكن تغييره. سنعشق تلك الحياة التي قدمت لنا أصدقاء تحولوا إلى أعداء ومعنى كاد أن ينهي وجودنا قبل أن نجد الراحة وأي راحة؟ هي راحة انتظار الموت وكأنه صديق قديم أتى يعفينا من الولاء الذي عشنا حياتنا في كنفه.

يبتسم فينس غيلغان عندما يرى ما تقدمه السينما في منافسته. تجب إغاظة سكورسيزي حتّى يخاطبنا ويخاطبه عبر العمل الأهم له حاليا والذي انتهى سنة 2022 أي ثلاث سنوات بعد فيلم “الإيرلندي” طبعا اقصد Better Call Saul ليقول لمارتن: لقد نسيت الحب، أو لم تفعل؟ الخلاص ليس موتا بعد فعل صائب فقط، بل قد يكون عيشا لأجل سيجارة أخيرة مع من آمنت بك حتى اللحظة الأخيرة.

نُشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 25، أفريل 2023.

للاطّلاع على كامل العدد وتحميله: http://tiny.cc/hourouf25

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights