“سيرة عين” و”يوميات كاتب القصة القصيرة” لإبراهيم نصر الله… الملل ومقاومة الوباء بين قرنين

بقلم: أسماء سحباني

 

الزمان: السبت 27 نوفمبر 2021

المكان: شارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة

 

يملّ شاب فيحمل ساطورا ويهجم على وزارة الداخلية التونسية ويرميه المواطنون بالحجارة فيما ممثلو السلطة يتفرجون غير آبهين وضاحكين في مشهد أقلّ ما يقال عنه أنّه سريالي. أزمنة الأوبئة أزمنة مهيبة تسبق فيها الأحداث قدرة البشرعلى الاستيعاب. الوقت يجري بسرعة ولا وقت للخوف. ابراهيم نصر الله يزور تونس بعد عشرين سنة من الغياب وسيلقي محاضرة غير بعيد من مكان الحادثة ويجب أن احضر. قطعت الشارع حيث وقف الشاب يوم البارحة وفي يده سكين وساطور. ابتعدت من المترجلين والتصقت بالسيارات السائرة بصعوبة وسط الطريق. زمن الأوبئة والإرهاب نخاف البشر أكثر من الآلات. الآلة لا تهدد. الآلة تغدر فتعطيك وهم امتداد الزمن .

حضرت المحاضرة وتحصلت على توقيع إبراهيم نصر الله وقررت أن أكتشف عالمه. قرأت كتابين ما يفرق بينهما هو فقط قرن من الزمان وجنس الكتابة. “سيرة عين” هي رواية من جنس السيرة حيث تروي قصة نجاح كريمة عبود أوّل مصورة فوتوغرافية فلسطينية في عشرينات القرن الماضي و”يوميات كاتب القصة القصيرة” وهي نوفيلا كتبت زمن الكوفيد الصاخب، أي زمننا هذا.

يضجر ابراهيم نصر الله فيكتب لنا عن مأساة كاتب القصة القصيرة زمن التباعد الاجتماعي والسكون إلى المنازل. الرواية قصة قصيرة طالت زيادة عمّا أراده الكاتب فأصبحت نوفيلا. هكذا بدى لي. ويبدو أنه قد كتبها خلال فترة الحجر الصحي الأولى في جو الخوف والملل والجزع مما يحمله الوباء لحياتنا. بطل الرواية مهووس بالرقم 4 فهو يراه في كل مكان ويبدو أن هوس الرقم انتقل الى خالق عالم الرواية فعنون الرواية بأربعة كلمات حتى خيّل إليّ وأنا اقرـ الرواية أنّ جنون فترة الحجر الصحي قد نزعت الخط الفارق بين التخيل والواقع.

الرواية وبطلها وكاتبها مهووسون بالرقم أربعة. القارئ سيراه في كل صفحة وأحيانا كثيرة في عدد الكلمات والأسطر التي تكون حوارا بين الشخصيات. الرقم أربعة انتقل من عالمنا إلى عالم الرواية بسلاسة وذلك لأن حضوره طاغ في حياتنا. نحن نعيش دائما بين أربعة جدران سواء في العمل أو في البيت أو في المقهى أو في المسبح أو في الفراش عند النوم أو في التابوت عند الموت. الرقم أربعة يحيط بنا من كل جانب. لكأني بنصر الله ابراهيم يخبرنا أن ما فعلته كورونا هو أن لفتت انتباهنا إلى ذلك فحسب. كورونا لم تسجننا أو تتعدى على حريتنا هي فقط فضحت حقيقة أسرنا.

 يقول نصر الله أن الوقت لا يمر بسرعة، بل نحن نمر بسرعة. الوقت جامد لا يتغير أبدا ونحن هم المارون. وظهور الأوبئة يعجّل من عبورنا والخوف والوجل في انتظار موت جماعي يدعم عزلتنا. طوال سنتين، أغلقت المطارات وركنت القطارات إلى محطاتها والسيارات إلى مرائبها والبشر إلى غرفهم وملايين مثل فريد سكنوا شاشات هواتفهم الذكية. اغلقت الحدود الحقيقية وفتحت شاشة الهواتف الذكية الحدود الافتراضية. لا حاجة لك للسفر لفرنسا لزيارة اللوفر. بنقرة واحدة من هاتفك يمكنك أن تتفرج في الموناليزا دون أن يقلقك وجود السياح وتدافعهم على اللوحة. لا حاجة لك للذهاب للمكتبة واستعارة مجلة او رواية لتقرأها. بنقرة واحدة تفتح لك مكتبة الإسكندرية أبوابها. حتى أنه قد خيل لنا أننا قد رددنا صواريخ بني صهيون الصيف الماضي ونحن في مقاعدنا في بيوتنا عبر الانستغرام.

يقول نصر الله أن الذين يتركون الآخرين يسقون زهور حديقته لا يستطيع أن يرى تفتح الأزهار فيها. فتحت التكنولوجيا الحدود لنا فتوهمنا الحب وتعلقنا به وبعضنا صدق أنه موهوب ومشهور رغم أنه لم يغادر جدران غرفته الأربعة. عمّق الوهم عزلتنا كما عمق عزلة فريد وكلاب الشوارع في النوفيلا. تجود النساء اللواتي يفسّحن كلابهنّ ببعض الاكل على كلاب الشوارع ويسمحن لها باللعب معها ثم يننهرها بقوة إن هي تمادت في استئناسها بكلابها المنزلية. فريد لا يفسر لنا سر تعلقه بقصة كلب الشارع ولكن هل ما نراه في المرآة وجوهنا؟ هل الكلاب السائبة هي فعلا حرة؟ أم أن الشوارع تحولت إلى سجن كبير…

الحقيقة أنني وجدت إجابة هذا السؤال في رواية “سيرة عين” التي كتبها نصر الله قبل المأساة. وقبل زمن الكوفيد عن زمن وباء أشد بطشا وأكثر وحشية من الكوفيد.

يفتح نصر الله بوابة الزمن على فترة الانتداب البريطاني فيروي لنا قصة فنانة حقيقية صوّرت مأساة وطنها بالأبيض الأسود ثم تناولت الفرشاة ولونت ما حاول الوباء دفنه وإفراغه من كل معنى. عزلنا الكوفيد في منازلنا، ولكن عالم فلسطين زمن الانتداب لم يكن له ترف الانتباه لوباء السل الذي كان يحصد الأرواح ويدمر العائلات. كان هناك وباء أش شراسة وإيذاء. ومن غير تخطيط، وجدت كريمة عبود نفسها في مواجهته وسلاحها كاميرا ورخصة قيادة.

كريمة مصوّرة فوتوغرافية من بيت لحم وفريد كاتب قصة قصيرة. كلاهما يلاحقان شغفهما رغم الوباء والموت المخيم من كل جانب.

ينتقل نصر الله بين الزمانين بخفة. وكأنني انتقل بين ازقة وشوارع بيت لحم في العشرينات من القرن الماضي وأراها بيضاء وسوداء في لون الصور التي كانت كريمة تأخذها بكاميرا. وتجدني أتفادى حجارة باربارا وهي ترميها على سيّارة الجنود الأنقليز الذين جلبوا السل لعائلتها. أتفادى حجرها وأنظر إلى الشمس والظلال التي تلاحقها كريمة وهي تقود سيارتها متحدية نظرات الجيران المتعجبة.

ارتبطت المعاناة الشخصية في الرواية بالمعاناة الجماعية فصراع كاترينا مع السل وغليان دماغها وقلقها على عائلتها وخوفها عليهم يقابله غليان الشارع الفلسطيني إبان الانتداب البريطاني.

 يمل فريد فيكتب لائحة حقوق عالمية للإنسان أينما كان وقد أعطته وسائل التواصل الاجتماعي وهم الانتساب للمواطنة العالمية. لكن كريمة ليس لها ترف الملل. الوقت لا يتحرك ولكن الوباء رغم صمته ينتشر ويكبر. السل يقتل الناس في صمت خجل هناك ووباء تهويد فلسطين صاخب ودامي.

تسابق كريمة الموت الذي يطاردها وينذر بإلحاقها بأخيها وأمها وتصوّر البيوت الفلسطينية وهي تصخب بالحياة حتى تواجه أكاذيب موشيه نوردو وليفي. يقوم ليفي بتصوير البيوت الفلسطينية على أنها بيوت فارغة قد تم إعدادها لاستقبال اليهود من كافة أنحاء العالم حين يعودون إلى أرض الميعاد. تعاند كريمة سعالها وتصور أرض فلسطين عامرة بناسها وزعترها.

تموت كريمة ويتغير العالم إلى الأبد بعد العشرينات الصاخبة في القرن الماضي. تختفي صور كريمة عبود ويدمر الاحتلال استوديو التصوير خاصتها سنة 1948 وتدفن صورها في الأقبية الإسرائيلية ولا يتم اكتشافها من جديد الا في بداية الألفية الجديدة لتحيي الاهتمام بفلسطين ما قبل الوباء.

وها نحن ذا وسط العشرينات الصاخبة من جديد. نركض هربا إلى بيوتنا من وباء جديد ونقاوم ونصرخ وننادي بالحرية وباحترام حقوق الإنسان مثلنا مثل فريد من وراء شاشات هواتفنا الذكية بعدما أغلقنا أبواب بيوتنا جيدا.

تعود الحياة تدريجيا ونخرج كلنا إلى الشوارع من جديد. الفنان والعامل والمتحرش وحامل السلاح ولا يجمعنا إلا شيء واحد لم ينجح أبدا في التسلل إلى قلب كريمة… الملل.

 

نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 12، فيفري 2022، ص. ص. 10-11.

للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf12.tounesaf.org

 

 

 

Please follow and like us:

اترك رد

Verified by MonsterInsights