المعقول والعقلاني والأحكام القرآنية
|المعقول والعقلاني كلاهما وصفان لشيءٍ واحد ألا وهو التطابق مع العقل البشري. ولكن ذلك لا يمنع من القول بأن ماهو معقول عقلاني بالضرورة و ما هو عقلاني هو حتماً معقول. فالعقلانية تجرد التفكير من كل تداخل بين العقل والأحاسيس بين العقل والمتفق عليه اجتماعيا، وبين العقل والإطار الزمكاني عكس المعقول الذي لا يفصل العقل عن المشاعر،عن الوعي الجماعي، وعن المكان – الزمان. وما سأحاول مناقشته في هذا المقال هو منزلة الأحكام الإلهية القرآنية بين العقلاني والمعقول.
كثيرةٌ هي الأحكام القرآنية التي تثير يومنا هذا جدالاً حول تلاؤمها وتماشيها مع الواقع الحالي كقطع يد السارق، شهادة الأنثى و حظها في الميراث، أو إباحة تعدد الزوجات بشروط. هذه الأحكام نزلت في كتاب القرآن. يعتبر البعض أنّه يجب تطويرتأويل النص القرآني وجعله متلائماً مع العصر وبالتالي هذه الفئة التي تدعو إلى ربط معاني الآيات التي تحتوي على أحكام معينة بالواقع الذي نزلت فيه تعتبر أنّ المجتمع يتطوّر بطبيعته وأنّ القوانين ينبغي أن تساير هذا التطوّر، وبالتالي، فروح التشريع الإسلامي باقية على الدوام، أمّا أحكامه الخصوصيّة فهي تتغيّر لتواكب حاجات المجتمع مع احترام مقاصد الشارع وهي نظرة، إن شئنا القول، “معقولة” لفهم النص الإلهي. في حين أن دعاة تطبيق الأحكام القرآنية كما نزلت يعتبرون أنّ الأحكام الواردة في نص القرآن لا تتغيّر بتغير المكان، الزمان، الوعي الجماعي أو الإحساس البشري. هذا الموقف يجعل من الخوض في ايجابيات أو سلبيات الأحكام التشريعية الإلهية غير مبرر باعتبار أن الله مطلق المشيئة، وهذه المشيئة يجب أن تطبق مهما كان موقف العقل تجاهها، وبالتالي تطبّق الأحكام القرآنيّة كما هي مهما اختلفت الأطر النسبية )الإطار المكاني والزماني أو اختلاف الفهم المجتمعاتي للمفاهيم…) ودون حاجة إلى فهم المقصد الإلهي منها وحتى وإن كانت غير معقولة في الحقبة الحالية والآتية.
هذه الحجج التي تعطّل دور العقل في تدبّر النص القرآني من الصعب أن تقنع في عالم بلغ من النضج العلمي والمعرفي ما يجعله يرفض ما تتبناه المدرسة الثانية. فالقرآن في نصوصه يدعو إلى الأخذ بالأسباب والعلم كقوله تعالى “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يعْلَم” (سورة العلق، الآيات 1-5). ولكن يمكن أن يتمّ تطبيق الأحكام الواردة في القرآن كما هي دون أن نعتبر أنّ العقل لا يلعب أيّ دور في فهمها، وذلك من خلال اعتبارها عقلانيّة حتّى وإن لم تكن معقولة في الوقت الحاضر. فالأحكام الواردة في القرآن قوانين إلهيّة وضعت لتنظيم جزء من الكون شأنها شأن القوانين التي تحكم مثلاً تفاعل الأرض مع الشمس والقمر و قانون الجاذبية وغيرها من الظواهر، التي دخلت في خانة العقلاني في بعضها (بعد اكتشافه) ولم تفهم إلى يومنا هذا في بعضها الأخر.
فإن كانت هذه القوانين الطبيعية الأنفة الذكر تطابقت مع العقل البشري، سواء اكتشفت في حقبة سابقة أو آنية، فبتطبيق نفس التمشّي مع الأحكام القرآنيّة، نجد أنفسنا أمام استنتاجين اثنين 1) صفة تطابق الأحكام القرآنية مع العقل البشري قرينة غير قابلة للدحض 2) حتى وإن افترضنا بأنها (الأحكام) غير معقولة حالياً فهي حتماً عقلانية لا تتعارض مع العقل إذا جردت من كل عامل خارجي، وقد يصل العقل البشري إلى فهمها مستقبلا.
ويبقى السؤال المطروح: ما الأصلح لنا بين نسبيّة المعقول وإطلاقية العقلاني؟