التلوث في قابس : مشكل بلا حل…
|أصبح التلوث في مدينة قابس يمثل هاجسا متناميا يشغل بال الأهالي بعد أن اثر في الفلاحة والصيد البحري والسياحة والصحة
منذ سنوات و سكان الولاية في معاناة متواصلة و خوف من المخاطر التي يمكن أن يسببها التلوث المتأتي من المجمع الكيمياوي. تفاقم الأمر في المدة الأخيرة دفع بعدد كبير من أهالي الحامة بولاية قابس بالتهديد بقطع الماء الذي يضخ المجمع الكيمياوي بقابس والمقدر ب25 ألف متر مكعب يوميا بعد الزيادة في طول مداخن المجمع و مما جعل مدى نفثها للغازات السامة يصل إلى 35 كلم.
هو مشكل موجود منذ سنوات وغياب الحلول الجذرية للمعالجة ساهم في تدهور الوضع البيئي بالجهة ، فتغيير مكان المجمع أو غلقه ليس حلا فاعلا بل وسيزيد في تعقيد الوضع الإقتصادي المتدهور أصلا..
آثار التلوث بالجهة باتت جلية للعيان فأثرت على غابات النخيل ومست المائدة المائية وأصابت السكان بالاختناق… ومن خلال جولة ميدانية داخل واحات قريبة من المنطقة الصناعية، تتأكد الصورة القاتمة لأثر التلوث عليها وقد أكّد أصحاب الغابات على حجم الكارثة التي لحقت نخيلهم وفلاحتهم عموما بفعل تأثير «بخارة» الميناء على غابات النخيل والزراعات والبقول إذ أحرقت الانبعاثات الغازية المنتوجات الفلاحية من فلفل ورمان وتمر وهي أضرار جلية يمكن ملاحظتها بالعين المجردة وما خفي من آثارها كان أعظم…
كما امتد أثر التلوث إلى السياحة الداخلية والخارجية فتقلص عدد الليالي المقضاة بالنزل كثيرا وتراجع عدد السياح بعد أن أصبح بالإمكان مشاهدة طبقة صفراء اللون تعلو سماء المنطقة الصناعية وتمتد على مساحات واسعة من البحر ناتجة عن السموم التي تفرزها المصانع المنتشرة على الشريط الساحلي وللتمكن من السباحة في ظروف سليمة يؤكد خبراء بضرورة الابتعاد عن وسط المدينة مسافة لا تقل عن 11 كم ومن بين الشواهد التي بقيت دليلا على ما جناه التلوث على السياحة أحد النزل الذي انشأ سنوات السبعينات في غنوش غير بعيد عن المركب الكيميائي وترك نهبا للإهمال بعد إن تم رفضه كمحطة لإقامة السياح.
يتحدث أهالي قابس وخاصة كهولها وشيوخها عما كانت تتمتع به الجهة من مناظر طبيعية خلابة تجمع بين الصحراء والواحة والبحر في مشهد بانورامي يشد إليه كل مار بهذه البلاد وقد ذكر ذلك في كثير من كتابات الرحّالة والجغرافيين القدامى الّذين مرّوا بالمنطقة باعتبارها معبرا يصل الغرب بالشرق فتحدث عن جمال هذه المنطقة كثيرون ومن بينهم ابن حوقل والمقدسي وابن بطوطة والتجاني وابن الفقيه وقدامة بن جعفر والاصطخري وغيرهم كثير بما جعلها حسب بعضهم جنة على وجه الأرض يطيب فيها العيش ويقصدها الناس من كل مكان للراحة والاستجمام…
نقطة التحول في هذا المشهد الجمالي كما يذهب إلى ذلك الأهالي كان أواسط السبعينات عندما تم تركيز العديد من المعامل على طول الشريط الساحلي لخليج قابس ومن أبرزها المجمع الكيميائي بغنوش وقد لقيت عملية تصنيع الجهة في البداية ترحيبا واسعا بما أنها كانت سببا في تشغيل أبناء المنطقة فقضت على البطالة المنتشرة آنذاك ومع مرور الزمن بدأت تظهر مشاكل بيئية معقدة ناتجة خاصة عن إفرازات المصانع وبالخصوص مصنع معالجة الفسفاط الذي استمر على امتداد العقود الماضية في إلقاء كميات هائلة من الفوسفوجيبس في الخليج تصل يوميا الى حدود 15 الف طن تسببت في تكون رقعة من الفوسفوجيبس تمتد على 60 كم مربع على شكل غلاف سميك أثّر على شفافية مياه الخليج وتحركها فقتل الكائنات الحية البحرية نباتية كانت أو حيوانية وفي أفضل الحالات، تسبب في هجرة أنواع كثيرة من الأسماك كانت تأتيه لتتكاثر في شعبه المرجانية ونباتاته الكثيفة قبل أن “يتصحر” البحر ويتقلص التنوع البيولوجي بشكل كبير فلم يبق الا عدد قليل من أنواع الاسماك القادرة على التكيف مع التلوث وأدى كل ذلك الى القضاء على الصيد الساحلي الذي تقتات منه عديد العائلات متوسطة الدخل.
وحسب بعض الدراسات فقد كان عدد أنواع الأسماك يصل إلى حوالي 3400 نوعا باعتبار أنّ خليج قابس بيئة ملائمة للتكاثر أساسها انتشار أنواع كثيرة من النباتات والإعشاب ومساهمة العيون الجارية في التخفيف من حدة ملوحة البحر.
أدى هذا التلوث إذن إلى اختلال التوازن البيئي وتمثل ذلك خاصة في انحسار أنواع معينة من أعشاب البحر وما صاحبه من نقص واختفاء حوالي ثلثي الحيوانات الكبيرة العائمة التي كانت تتواجد بكثرة في مياه خليج قابس
أما في الجانب الصحي و هو الأهم ففي سنة 1993 قامت لجنة جهوية للصحة والسلامة المهنية بالتعاون مع فرع قابس للاتحاد العام التونسي للشغل بإجراء تحاليل متنوعة (بولية ودموية) وصور بالاشعة لأكثر من 1200 شخص شملت مختلف مناطق قابس لمعرفة نسبة «الفليور» في الجسم فكانت النتائج مرعبة وتدعو الى دق نواقيس الخطر باعتبار أنّ هذه المادة تسبب امراضا عديدة كضيق التنفس وهشاشة العظام والسرطان والامراض الجلدية بل أن تأثيرها يتعدى إلى الأجهزة الهضمية والتناسلية وقد اقر المعهد الوطني للصحة والسلامة المهنية بوجود هذه الأمراض المهنية الناتجة عن التلوث
أختم بالقول أنّ الوضع البيئي في الجهة مقلق للغاية والإشكالية الأساسية تكمن في عدم تطبيق القوانين والتشريعات الوطنية والدولية التي أمضت تونس عليها باعتبارها ضمانا للأجيال القادمة تمكنها من العيش في بيئة سليمة وأتساءل صراحة عن جدوى سن هذه القوانين المختلفة إذا لم تجد طريقها للتطبيق؟