سيرة الطيّب ولد هنيّة… سيرة ريف وجهه امرأة (الجزء الثاني)
|بقلم: خلود الخمّاسي
سيرة الطيب ولد هنية هي في أعماقها السردية سيرة هنية أمّ الطيب وقد نجح الطيب الجوادي في مماهاة ريف الكاف، بقساوة تضاريسه ومناخه وشدّته على سكّانه، بشخصية هنية فكأنها تغدو روح المكان ومحرك الزمان وتغدو سيرة الطيب بمعنى وجوده من وجود هنية الأم. يدفعنا ذلك إلى التساؤل إن كان الريف حقا مجالا ذكوريا في ظلّ غياب الأب واضطلاع الأمّ بمفردها بشؤون العائلة.
كتب الطيب الجوادي سيرته بسلاسة أقرب إلى الفطرة منها إلى المهارة العملية وربّما يكمن إبداعه في الأساس في تجنب البهلوانيات اللغوية أو تضخيم الأنا أمام الشخوص الأخرى أو الغلو في تفصيل أو آخر. طرح الكاتب الحياة كما هي بين ثنايا ريف الكاف (ولاية في الشمال الغربي للبلاد التونسية) القاسية أيما قسوة خاصة في فصل الشتاء.
هنية امرأة تغذيها العاطفة ككل البشر ولكن متطلبات العيش في الريف تجعلها تتخلى عن هذا الجانب فيها وتعوضه بقسوة حتى تجاه حالها فالعواطف لا تقيها شر المناخ القاسي في الشتاء ونوائب الدهر. هنية تفقد رضيعتها ذات ليلة دهماء وإذ حاولت إنقاذها فقد باعدت المسافة بينها وبين أقرب مستوصف وما من مغيث غير ابنها الطفل الغض في حين كان زوجها قد سافر طلبا للرزق. تقوم هنية بشؤون بيتها بما ينبغي على المرأة القروية الخدوم بإخلاص -رغم تقلّب البلاد وعبادها- والمضيافة المتعففة رغم كفافها. تأبى هنية إلا أن يكون لابنها النصيب الأوفر من الحياة عسى أن يكون من الناجحين وفيري القوت وربما البخت في عمله ورزقه وزواجه. خبرت هنية من الحياة قسوتها فتحضرت لها برباطة جأش وقاومت المحن.
لهنية المرأة الحيية التي لم تدخل المدرسة وتعيش الكفاف العام تلو الآخر قدرة على تحريك اليومي المعيش وتوليد الأحداث بشكل مبك تارة ومضحك تارة أخرى. هي امرأة تحركها الفطرة فإيمانها في صلابة الصخر وهو يدفعها إلى الاعتقاد أنّ الله لن ينزعج إذا ما تركت بعض الصلوات لأنه رحمان رحيم بأحيائه في شتاء الكاف الكافر. هي لا تفقه مغزى في رفع غطاء رأسها وقد طالب أبو تونس الحديثة نساءها بـ”كشف حالهن” بينما يمنعها حياؤها عن ذلك مهما كان السبب. هنية تدفع بكل العائلة نحو الحياة، على زهدها، فتقوم بدور المقتصد المدير لضيعة صغيرة وتشرف على ثروة الماء الذي تستجلبه وأولادها بعناء وتحفظ بحليها تاريخ العائلة وكرامتها وهي لا تتأخر عن تقديم ديك دجاجاتها لـ”ضيف ربي” قربان كرم وواجب ضيافة. هذه التفاصيل تجعل من هنية دفة سردية الطيب ابنها فهي من تعطي للريف ألوانه السعيدة أو القاتمة ورائحته من عرقها وآنية طعامها وعطرها وصوته صوتها إذ تصدح بـ “هزي حرامك وخمرك” فربما هناك مكان لاستراق قصة عشق مجنونة وسط كل هذه القسوة.
سيرة الطيب ولد هنية لا تقف عند مجرد التدوين لأحداث حياتية لامرأة وابنها. يعدّل الكتاب كفة الميزان لصالح المرأة عموما والمرأة الريفية خاصة في تونس. تجعل بطولات هنية اليومية في سبيل العيش من الكتاب وسيلة للتأريخ لتونس الحديثة من خلال شخصية امرأة. فرغم أنّ صوت السارد مذكّر، غير أنّه يبدو مستفيضا في تأكيد امتداد هنية فيه. يؤكد الكتاب دور المرأة الريفية الفاعل في المنزل والمنظومة المدنية ككل. فرغم أنّ هنية لم تدخل المدرسة، فهي تبدو واعية، سلم قيمها واضح المعالم والأولويات، وهي أيضا رفيقة زوجها في البناء والنضال أو “الجهاد الأكبر” كما أسماه الحبيب الزعيم الذي عبّأ هنية وزوجها وراءه بخطاباته الكاريزماتية فكانا سويّا وفيين في انخراطهما في مشروع دولة الاستقلال.
صدر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد الرابع، جوان 2021، ص.13.
لتحميل كامل العدد : http://tiny.cc/hourouf4