صعوبة تمويل أنشطة الجمعيات في العالم العربي
| يعتبر وجود مجتمع مدني نشيط من أهمّ مقوّمات الديمقراطيّة في المجتمعات الحديثة. ومع هبوب رياح الديمقراطيّة على العالم العربي هذه السنة، لا بدّ من التفكير في إرساء ركائز مجتمع مدني يمكن له أن يقوم بدور السلطة المضادة للسلطة السياسيّة ويعبّر عن مختلف تطلّعات المجتمع. وبما أنّ المال هو قوام الأعمال، يجدر التفكير في تنمية الموارد الماليّة للجمعيّات في العالم العربي.
تتأتّى موارد الجمعيات من مصادر مختلفة كاشتراكات الأعضاء والهبات وعائدات المنشورات ومنح الدول ومساعدات المنظمات الدولية. ورغم هذا التنوّع، فإنّ تمويل أنشطة الجمعيات في العالم العربي في العقود الأخيرة كان يتعرّض لمصاعب جمّة.
فمن المفترض أنّ موارد الجمعيات، كمنظمات مستقلّة عن الدولة، تتأتّى خاصة من اشتراكات الأعضاء والهبات ولكنّ الملاحظ أنّ هذا النوع من الموارد محدود للغاية. ففيما يخص الاشتراكات، فهي لا تعاني فقط من تضاؤل أعدادها، بل أنّ عددا من الأعضاء لا يقومون بدفعها دون أن يتمّ تعليق عضويتهم بما أنّ هذا الإجراء ليس في مصلحة الجمعيّة خاصة إن كانت تعاني أساسا من نقص في عدد أعضائها، وهو ما ينطبق على عدد كبير من الجمعيّات العربيّة بما أنّ الثقافة السائدة بعيدة عن تثمين دور المجتمع المدني في التنمية.
أمّا في خصوص الهبات المتأتّية من القطاع الخاص، فلا يمكنها تغطية هذا النقص في الموارد، بما أنّه، وكما تشير سارة بن نفيسة، وفي إطار قطاع خاص موضوع هو نفسه في علاقة زبونيّة مع جهاز الدولة، من الصعب تصوّر تمويل مستقلّ يخصّ الجمعيّات، إذ عادة ما يقتصر القطاع الخاص على تمويل الجمعيّات ذات الحظوة عند النظام والجمعيّات الّتي تكون فاعليّتها الاجتماعيّة بادية للعيان (كالجمعيّات الرياضيّة).
وأمام هذا الضعف في الموارد، تجد الجمعيّات أنفسها أمام خيارين: إمّا أن تتوجّه إلى الدولة وتتلقّى منحها وإمّا أن تبحث عن موارد من لدن مانحين أجانب. وفي الحالتين، ستقوم الجمعيّة بتضحية: فهي ستضحّي إمّا باستقلاليتها تجاه الدولة أو بمصداقيّتها لدى الرأي العام (فالتمويل الأجنبي يكون دائما عرضة للشبهات)، وهذا ما لا يسمح لها بأن تقوم بدورها على النحو الأمثل.
فرغم أنّه من المفترض أنّ الجمعيات يجب أن تظلّ مستقلّة عن الدولة، يلاحظ بعض الباحثين أنّ بعض الجمعيات العربيّة لا تكتفي بالمحافظة على العلاقة (الزبونيّة بالضرورة) الّتي تربطهم بالسلطة بل أنّها تبحث عنها. فعموما، نادرا ما تقوم بعض الجمعيات بإدانة تدخّل الإدارة في شؤون الجمعيات، نظرا لأنّها تحتاج إلى مساعدة الدولة في تعزيز مواردها المالية وكذلك البشريّة. وهذا ما يخصّ الجمعيّات الّتي تصفها سارة بن نفيسة بالجمعيّات شبه الإداريّة، وهي جمعيّات يتمثّل نشاطها الأساسي في توفير خدمات للسكّان المحليين. فدورها مكمّل لدور الدّولة وبالتالي فهي لا تخسر الكثير بربط علاقات مع الدولة بما أنّ هدفها يتمثّل في ضمان توفير خدمات للسكّان دون الالتزام بقضايا قد تأزّم علاقتهم بالدولة، وهكذا تفقد عنصر الاستقلاليّة لتكون أشبه بمصالح للدولة منها بجمعيّات مستقلّة.
وتخيّر جمعيّات أخرى التوجّه إلى تنظيمات أجنبيّة لتمويل أنشطتها، وعادة ما يتعلّق الأمر بجمعيّات المناصرة الّتي تدافع عموما عن قضايا تهمّ حقوق الإنسان. إذ يجد هذا النوع من الجمعيّات نفسه مضطرّا إلى اللجوء إلى الخارج للحصول على تمويلات لأنّه يعاني من جهة من تحفّظ السلط العموميّة تجاهه ومن جهة ثانية من عجز في التواصل مع مجتمعه يصل إلى حدّ القطيعة نظرا لتركّز اهتمامات السكّان على الجانب المادي وتعلّقها بتحقيق مستوى أدنى للعيش.
ورغم أنّ هذه العلاقة مع الخارج تضمن للجمعيّات بعض الاستقرار على المستوى المالي، فإنّها قد تتسبّب في عرقلة أنشطتها. فكما يشير دليل الحريّات الجمعيّاتيّة الفرنسي لسنة 2007، تثير هذه العلاقة الريبة على عدّة مستويات: خوف من استعمار جديد، حذر من تأثير متغلغل قد يشيع البلبلة في مجتمع منكفئ على أفكاره التقليديّة، الخوف من التصلّب الإسلامي…كلّ هذه الخلفيّات تتآلف داعية إلى الحذر من كلّ علاقة مع الخارج.
ويمنح الدعم الأجنبي الجمعيّات مقدارا من حريّة التحرّك، وهو ما تنظر إليه الدول بعين الريبة. وللحدّ من أثر هذه العلاقة مع الخارج، تراقب الدول العربيّة بيقظة كبيرة التمويلات المتأتّية من الخارج. فيمكن أن تكون هذه التمويلات ممنوعة (كما هو الحال في البحرين، الإمارات، سوريا والأردن (نظريّا)) كما يمكن أن تخضع هذه التمويلات لترخيص مسبّق كما في الجزائر والمغرب والسعوديّة، أين تمّ وضع برنامج إعلاميّة موّحد لمتابعة كلّ التصرّفات الماليّة للجمعيّات في هذا البلد للتأكّد من احترامها لهذا الترخيص.
ولا تهمّ هذه التضييقات سوى جمعيّات المناصرة، بما أنّ التمويل الأجنبي مقبول، بل محبّذ، عندما يتعلّق الأمر بجمعيّة لها علاقات طيّبة مع السلطة. وقد لاحظت نادية خوري-داغر أنّ بعض الحكومات تقوم بإحداث جمعيّات وتهيئة إطارها القانوني لإثارة اهتمام المموّلين الأجانب، كما كان الحال في تونس فيما يخصّ الجمعيات ذات المصلحة المشتركة الّتي أحدثتها الدولة في الريف والمكلّفة مثلا بإمدادات المياه والّتي كانت تجمع، إلى جانب المواطنين، العمدة ممثّل وزارة الداخليّة.
فالدّولة لا تكتفي بعرقلة نفاذ الجمعيّات المستقلّة إلى التمويلات الخارجيّة، بل أنّها تزاحمها بإحداث منظماتها الحكوميّة غير الحكوميّة ( governmental non governmental organizations المعروفة اختصارا بـ GONGOs) الّتي تتحصّل على تمويل المانحين الأجانب دون أن تخشى اتّهامات “الإضرار باستقلال البلاد” الّذي يوجّه إلى الجمعيّات المستقلّة !
وترتبط الصعوبات الموضوعة أمام تمويل الجمعيات إلى حدّ كبير بالإطار القانوني الّذي ينظّمها في الدول العربيّة وهو إطار معرقِل لعملها ويستوجب بدوره إصلاحا عاجلا وشاملا.