مسألة الإرث وأبعادها التشريعية والدينية والمجتمعية
|بقلم: أنيس عكروتي
قبل الغوص في تفاصيل الموضوع، نشير إلى أن طرحه الآن (مبادرة رئيس الجمهورية التونسية) لا يعد سابقة جديدة فقد سبق أن تناوله عدد من المفكرين والفقهاء والمشرّعين منذ قرون.
تناولنا للمسألة سيكون من خلال ثلاثة أبعاد : على مستوى التشريع (الدستور التونسي المعمول به حاليا)، على المستوى الديني (مقاربة نقدية للرؤية التقليدية السائدة) وعلى المستوى الاجتماعي (نظرة المجتمع التونسي للمسألة).
دستوريا تم التنصيص على المساواة ضمن القيم الكونية التي يجب أن تكون القوانين مجسدة لها ولا تتعارض معها بأي شكل من الاشكال.
الفصل 20 :
” المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز.
تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم. “
و هنا نشير إلى بعض الآراء التي عارضت المساواة في الارث استنادا إلى الفصل الأول الذي لا يجوز تعديله:
” تونس دولة حرة مستقلة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها. “
و هذا يحيل إلى إشكالية قديمة جديدة حول هويّة الدولة خصوصا أن الفصل الثاني (الذي لا يجوز تعديله أيضا) ينص على مدنية الدولة وعلوية القانون.
و هنا نجد أنفسنا بين تيارين، أحدهما يرى أن الاحكام الواضحة (الوضوح نسبي حسب قراءة وتأويل الشخص للنص) لا يجوز فيها الاجتهاد ويجب أن تطبق بحذافيرها وهو ما يتعارض مع الرأي المقابل الذي يرى في الاجتهاد والتجديد واجبا لتطوير الرسالة ومواكبتها للتغيرات المجتمعية (وهذا الامر نراه في عدة قوانين استبدلت احكاما شرعية بأحكام أخرى تماشيا مع التطور المجتمعي).
المدافعون عن هذا التيار يرون أن التجديد الديني لا يمس من جوهر الرسالة بل يقدم أجوبة على تساؤلات عجزت النظرة الأصولية المتكلسة عن الإجابة على مضمونها.
في القسم الثاني (الديني)، سنقدم رؤية المفكر الإصلاحي التونسي الطاهر الحداد لمسألة الارث من خلال مؤلفه ” امرأتنا في الشريعة والمجتمع ” (والذي أثار جدلا في ذلك الوقت ولا يزال اعتبارا للصراع بين الاصوليين والاصلاحيين) ثم نستأنس برأي المفكر محمد شحرور في المسألة ذاتها.
الطاهر الحداد رأى أن تطبيق المساواة في الارث لا تتنافى مع روح النص الديني بل أن المشكل هو في القراءة السطحية له دون الالتفات إلى التغيرات المجتمعية الحالية.
و أكد أن شرط كفالة الرجل للمرأة هو المحدد في هذه المسألة، إذ أن إقبال المرأة (والحديث عن تونس بشكل خاص) على العمل ومساهمتها الفعالة في رعاية الاسرة جنبا الى جنب مع الرجل (بل ويكون العبء عليها أكثر في عدة حالات خصوصا في ظل الازمة الاقتصادية الاجتماعية الحالية) شكل نقطة تحول في بنية المجتمع التونسي والعربي عموما (بدرجات متفاوتة).
و هنا يؤكد الحداد أن رسالة الاسلام متجددة بل ويجب أن تكون متجددة حتى لا يقتلها التكلّس وتدفع نحو الانغلاق والعجز عن مسايرة تغيرات العصر.
هذا يحيلنا مباشرة الى الاختلاف الشديد بين الأصوليين الذين يرون في أن النصوص البينة لا توجب الاجتهاد وبين من يرى الاجتهاد شاملا ويتناول النظرة الى النص من زوايا أخرى أكثر عمقا (وهذا الامر كما يؤكدون لا يمس من النص).
في الاطار ذاته يقدم محمد شحرور نظرة حسابية لغوية فريدة للآية موضوع الجدل.
و يقول:
“نجد أن السادة الفقهاء قرأوا قوله تعالى “للذكر مثل حظ الأنثيين”، لكنهم تطبيقاً نفذوه كما لو أنه قال “للذكر مِثْلا حظ الأنثى”. وهذا هو الخطأ الأول في قانون المواريث.
قد يتوهم القارئ أن هذه القضية لغوية بحتة، لكنه بعد التأمل سيجد أنها أكثر من ذلك بكثير، فالفرق كبير بين أن تضاعف عدد الإناث كما في قوله تعالى “للذكر مثلِ حظ الأنثيين”، أو أن تضاعف “المِثل” كما اعتبر الفقهاء “للذكر مِثْلا حظ الأنثى”؛ ففي الحالة الأولى هناك تابع ومتحول وهناك متحول مفروض هو الأنثى التي قد تكون واحدة أو اثنتين أو فوق اثنتين وأن الذكر هو التابع لمتغير هو الأنثى، لذا ورد ذكره مرة واحدة في الآية وتم تغيير عدد الإناث من واحد إلى اللانهاية أما في الحالة الثانية فلا تابع ولا متحول ولا أساس، والذكر يأخذ مثلي حظ الأنثى مهما كان عدد الإناث وهذا ما حصل فعلاً.
ثمة أمر آخر بالغ الأهمية، هو أن الله سبحانه حين يضع قواعد وقوانين الإرث فهو يضرب أمثلة تطبيقية لحالات موجودة في الواقع الموضوعي (الوجود الاجتماعي الإنساني في كل الأرض)، ولها صفة العمومية، وفي قوله “للذكر مثل حظ الأنثيين” يشير إلى أن حصة الذكر تكون ضعف حصة الأنثى في حالة واحدة فقط هي وجود أنثيين مقابل ذكر واحد. أي أن هناك وجوداً موضوعياً لا افتراضياً لذكر وأنثيين. وهذا يعني في حقل المجموعات أن حصة الذكر تكون ضعف حصة الأنثى كلما كان عدد الإناث ضعف عدد الذكور: ذكر واحد + أنثيان، ذكران + 4 إناث، 3 ذكور + 6 إناث … وهكذا
فماذا لو كان عدد الإناث أكبر من ضعف عدد الذكور، كأن نكون أمام حالة ذكر واحد + 3 إناث أو 4 أو 5 إلى ما لا نهاية من الناحية الرياضية؟
هنا يأتي الجواب الإلهي فيقول سبحانه: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ونلاحظ فيه أمرين: الأول تغير وتحول عدد الإناث، والثاني أن الذكر لم يحصل على ضعف حصة الأنثى. لأننا إن فرضنا تركة لأربعة أولاد (ذكر + 3 إناث)، لكانت حصة الذكر 33.33% من التركة وحصة الأنثى 66.66/3 = 22.22% من التركة.
وإن فرضنا تركة لستة أولاد (ذكر + 5 إناث)، لكانت حصة الذكر 33.33% وحصة الأنثى 66.66/5= 13.33% من التركة. وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من أن حصة الذكر تكون ضعف حصة الأنثى في حالة واحدة فقط وليس في جميع الحالات كما يزعم الفقهاء في قوانين الإرث المطبقة حالياً.
أما إذا ترك المتوفى أنثى واحدة وهذا هو الاحتمال الوحيد المتبقي من تغير المتحول (س) وهو الأنثى من واحد إلى ما لا نهاية، فالحكم الإلهي في هذا الاحتمال أن تأخذ النصف، وأن يأخذ الذكر النصف الآخر من التركة، وهذا هو معنى قوله تعالى “وإن كانت واحدة فلها النصف”.
إلى هنا يكون سبحانه قد غطى في وصيته جميع الحالات الثلاث الممكنة للأنثى، فجميع الأسر في الدنيا، إما أن يكون فيها أنثى واحدة أو اثنتان أو فوق اثنتين إلى ما لا نهاية، ولا رابع لهذه الحالات الثلاث في مجالات الاحتمالات الرياضية النظرية والواقع الموضوعي في نفس الوقت.
وهذا يؤكد مرة ثانية أن الأساس المتحول في قوانين الإرث كما صاغها الحق تعالى هو الأنثى، وأن الذكر تابع تتغير حصته بتغير عدد الإناث الوارثات معه، فإن كانت واحدة فله النصف ولها النصف، وإن كانتا اثنتين فله مثل ما لهما، وإن كن فوق اثنتين إلى ما لا نهاية فله الثلث ولهن الثلثان مهما كان عددهن. لذا ورد ذِكرُ الذكر مرة واحدة في الآية لأنه تابع وتغير عدد الإناث في الآية لأنها متحول.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن ثمة حالات لم يذكرها الله سبحانه هي أن يكون للمتوفى أولاد ذكور فقط (ذكر واحد أو أكثر إلى ما لا نهاية) أو أولاد إناث فقط (أنثى واحدة أو أكثر إلى ما لا نهاية). ففي هذه الحالة تقسم التركة بينهم بالتساوي، وهذه بديهية لا تخفى على إنسان مهما كانت درجته العلمية أو الفكرية.”
هنا يؤكد شحرور أن النص الديني يؤكد على المساواة ولكن شرط تناوله بطريقة معمّقة.
و بذلك يعود بنا الى عصور قديمة عند بداية الخلاف بين أهل النقل والعقل، وهو لا يزال حاضرا بقوة حاليا في كل المجتمعات العربية والاسلامية.
البعد الثالث والاخير هو الذي يخص نظرة المجتمع (التونسي نموذجا) للمسألة وهنا تبرز الإشكالية الاكبر في ظل سيطرة النظرة التقليدية الى النصوص على غالبيتنا بحكم تقصيرنا في البحث بطريقة علمية عميقة واقتصارنا على “استهلاك” الآراء الفقهية كل حسب انتماءه وميله (وهنا تدخل حتى التجاذبات الأيدولوجية والسياسية الحزبية في التأثير على التوجه).
لذلك نجد دائما أن آراء المجددين والاصلاحيين تواجه باستهجان كبير من قبل المؤسسة الدينية التقليدية التي تنقل هذه الرفض الى الشارع (بحكم علاقة الثقة نسبيا بينها وبين عامة الشعب).، ذا دون اعتبار الاستثناءات طبعا.
من خلال متابعتنا لما يتم نشره على شبكة التواصل الاجتماعي، نرى أن حتى الرافضين لمبادرة رئيس الجمهورية التونسية ينقسمون حسب أسباب الرفض، فمنهم من يرى أن طرح هذا الامر خلال هذا التوقيت يثير الريبة خصوصا في ظل التجاذبات بين الأطراف الحاكمة ويؤكد على أولوية حلحلة المسائل الاجتماعية الاقتصادية العالقة، ومنهم من يرى الاشكال في صاحب المبادرة نفسه من خلال زاوية نظر حزبية أيديولوجية بحتة (ربما كان موقفه مغايرا لو كان صاحب المبادرة قريبا من دائرة انتماءه). وهناك قسم آخر يتبنى رؤية راديكالية قاطعة في رفض مناقشة الامر بتاتا استنادا الى الرأي القائل بأن الحكم الديني في المسألة قاطع وواضح ولا يقبل الجدل فيه.
ختاما نؤكد أنه مهما كانت درجة الاختلاف بين الآراء فإن طرح الاشكاليات والتناقش فيها هو أمر صحي وايجابي.