” قهواجي يدور”… هل يكفي أن ينفث المصدور؟ قراءة في “قهوة إكسبريس” لحفيظة قاره بيبان
|بقلم: رجاء عمّار
قد يكون هناك شبه بين القهوة إكسبريس والقصة القصيرة فكلاهما يستدعي الاعتماد على مكونات أصيلة صافية في مرحلة أولى والسعي إلى وضع ما تتطلبه عملية الإعداد دون زيادة أو نقصان ثانيا والاجتهاد في التحضير ثالثا والتفنن في التقديم رابعا، وهو ما يثير شهية الشارب/ القارئ ويستحثه على التذوق فالاستزادة إذا أقنعه الطعم/ الأسلوب وأمتعه الترشف / التفكر في المسائل المطروحة في كل قصة وإن كانت القهوة / المجموعة واحدة فلا بد أن يكون لكل رشفة/ قصة مذاقها الخاص ونكهتها المتفردة، وهو ما يأمل من يطلع على هذا العنوان الظفر به أو بشيء منه على الأقل. فما نصيبه من الفكرة التي يطمح أن تقنعه والأسلوب الذي يرجو أن يمتعه؟
على ظمأ... كأن القهوة لا تشفي ولا تغني
عمدت الكاتبة في قصصها الثلاث عشرة إلى التركيز بالأساس على مواضيع طرحت بعد ما سمي بالربيع العربي الذي دشنه الغضب الشعبي التونسي وما رافقه من احتجاج وما تبعه من تغيرات سياسية واجتماعية لم تبلغ المأمول ولم تسدّ الحاجات ممّا جعل الفرصة سانحة لتسلّل ظزأفكار سعى أصحابها أن تستوطن العقول المتعطشة للمختلف والبديل وبما أن أسهل السبل ربما للتغلغل هو إثارة المشاعر الدينية، كثر الناطقون الرسميون باسم الله في دعوة للجهاد وما نتج عنها من سفر لا عودة منه أو الرجوع جثة إضافة إلى الدعوة إلى الالتزام بالحجاب أو النقاب واعتبار الفن بأنواعه حراما سواء مسرحا أو موسيقى التي بني الموقف منها على حديث غير صحيح نعتت فيه بمعازف الشيطان، إضافة إلى ذلك، تم التطرق إلى ما ولّده الوضع من وأد للأحلام فانسياق إلى الإدمان وسقوط البعض ضحية التجارب المخبرية مع عودة إلى ما قبل الاحتجاج التونسي ووضع الثقافة وأهلها إلى جانب محاولة الانشغال بالهمّ العربي باستحضار سقوط بغداد وثلاث قصص أشبه بيوميات للحديث عما تعانيه الطبقة الفقيرة في الأولى ومشاغل الفئة الغنية في الثانية سواء تعلق الأمر بلوعة لفقدان الأم وما رافق وجودها من حيوية أو رصد لموقف عابر ومقارنة وضع طفلة تخاصمت مع رفيقاتها بإنكار أهل الشاعر طرفة بن العبد إيّاه وهي مبالغة في اتجاهين، فتشجيع الفتاة على ما خطته لا يعني اعتبارها شاعرة وهو اعتبار قاد إلى إيجاد نقطة التقاء بين وضعين متباينين لا يجمعهما في الواقع أي رابط وإنما هو وهم نشأ من تضخيم في تناول المسألة العادية.
الملاحظ هو غياب إعمال المخيلة في جميع القصص دون استثناء سواء تلك التي اهتمت بالشأن العام أو غاصت بعض الجوانب الشخصية.
في هذا السياق، أتساءل: هل هي قهوة الكاتبة أم الآخرين؟ هل اعتنن بإعداد واحدة جديدة بإضفاء نفسها الإبداعي الخاص أم اكتفت بتقديم واحدة جاهزة باردة لا تستحث على الارتشاف لأن طعمها معلوم؟ هل اشتغلت على الفكرة المتداولة وطرحتها بشكل مختلف ومنحتها آفاقا أم اكتفت بالتوثيق الذي لا ألمس فيه ابتكارا فهو يعرض المسألة بنفس الطريقة التي قدمت بها مرارا وتكرارا سواء في الأخبار أو المسلسلات أو مواقع التواصل، فمثلا قصة ( أجمل الفتيان) في جزء منها نقل جلي دون أدنى تغيير لما عرض في مسلسل “يوميات امرأة” (2013) حين تبدّل حال الشاب من مقبل على الحياة إلى متزمت ملتح متجلبب، كذلك فيما يتعلق بقصة أوراق وعرض طريقة الاحتفاء بالمسؤولين في عهد بن علي هو ذاته في فيلم “التلفزة جاية” (2003)، وينطبق الأمر على بقية القصص التي تناولت هذه المواضيع التي تحتاج إلى خوض حقيقي لتحليلها وليس مجرد الاكتفاء بعرض ما هو معروف أو الاقتصار على تحميل المسؤولية لفشل الاستراتيجيات السياسية واتهام الأوطان بوأد الأحلام وإغراق الشباب في الظلمات، فحتى إذا اكتفت الكاتبة بإعادة صياغة الحبكة المتداولة للموضوع من زاوية معينة،-وهي سقطة إبداعية جلية لأن النسج على المنوال يعني أن الجميع كتّاب فلا سمة تميّز المؤلف الذي يتكئ على الموجود دون استثماره- فمن المهم السعي إلى وهب القارئ قصة نابضة عوض تقديم واحدة معلبة مصفحة لاستعمال وحيد، باعتبار غياب الأفق بالنسبة لجميع القصص باستثناء الأولى التي مثلت قفلتها كوة يمكن الانطلاق منها وتمهد سبيلا للاحتمالات التي متى غابت انعدمت إمكانية الحياة. قد تقدم القهوة مرة لكنها مع ذلك يجب أن تنال الاستساغة وليس النفور من مرارة فجة لأن رشفاتها عجزت عن وهب نكهة لذيذة لها حلاوتها الخاصة وليست المصطنعة.
تتكدس الأحزان والمصائب والبلايا وينبع الدم من المواضيع ويفيض وتغلق الكاتبة كل منافذ النجاة، بل تلغي حتى احتمال الرجاء بخلاص ما، وأكثر من ذلك تؤبد عبارة الأدب مأساة أو لا يكون في مفهومها الخاطئ الذي لا يخفى على عليم القصد الذي ترمي إليه ومن حث على الاستمرار في الحركة وعدم الرضوخ للسكون ومواصلة الفعل ورفض الاستسلام مهما كبرت البلية وعظمت الرزية.
على مضض.. لأن التكرار طغى وأذهب الطعم
لاحظت سعي الكاتبة إلى المحافظة على ما يعتبر مقاييس القصة القصيرة والالتزام خاصة بقفلة تشكل مفاجأة صادمة أو كاشفة لحقيقة الأمر الذي يأتي على عكس المتوقع، وذاك جيد وإن ليس من الضرورة المبالغة في الالتزام بضوابط ليست قاعدة لا يجوز خرقها أو قانونا لا يسمح المساس به، إذ يمكن للمبدع أن يقترح ويبتكر فينطلق بالمفاجأة مثلا أو يجعل من نصه سلسلة تذهب بالقارئ في كل فقرة في اتجاه مختلف مع الحفاظ على تماسك البنية وسلاسة الفكرة في منطقها الخاص.
لكن، على مضض يتمّ القارئ القصة لأن الفكرة مكشوفة منذ البداية سواء عن طريق العنوان (سرقوا إلهي، المرآة) ففي الأولى ندرك منذ البداية مصير الشابة التي يتحدث عنها السارد وفي الثانية، نتبين أن من يتحدث هي المرآة باعتبار أن الفكرتين ليستا جديدتين ففي قصة “سرقوا إلهي” تحتفظ الذاكرة بواقعة شبيهة وإن لم يبلغ الأمر حد القتل وفي قصة المرآة تتعدد النصوص التي تكون فيها بطلة، كما أن اعتراف المعينة بالسرقة في قصة “تحقيق” يفقد القفلة معناها إذ تم التأكيد أن التحقيق ما زال مستمرا، إضافة إلى ذلك، تورد الكاتبة منذ بداية النص مؤشرا يعدم كل تشويق لأن نهاية قصتها يغدو معلوما (قصة “سرقوا إلهي: وجدتني قبل أن أودعك لأول وآخر مرة، سمع صوتك الصارخ لآخر مرة، من لقائنا المستحيل / قصة “أجمل الفتيان”: لآتيك في بيتك لأول ولآخر مرة”، وهو ما يبتر عملية التشويق منذ بدايتها، ويغدو التالي كلاما ممجوجا يبعث على الملل لتعمد الإطالة التي لا طائل منها سوى مزيدا من الطول للنص، وهنا نرصد التكرار الذي لا يحضر للتأكيد أو التنبيه أو إثارة الاهتمام لنقطة بعينها وإنما تكرار يستوجب حذفه لأنه يكسب النص ترهلا ويذهب قيمة الفكرة وطريقة طرحها التي تكمن في تكثيفها وتعميقها بأقل عدد من الكلمات، فمتى أضفنا للقهوة فوق ما تحتاجه من ماء غدت مائعة.
هذا التمطيط المرصود في أكثر من موطن يصاحبه عدم انتباه للفكرة التي غلت وفاضت عن حدود المنطق وأذكر على سبيل المثال ما ورد في قصة “قهوة اكسبريس” فالأم التي تنتظر وتنتبه أن شحن هاتفها سينفد قريبا ولم تتمكن من الحصول على بطارية، تجاهلت الأمر بعدها وجلست تترقب وتحدث نفسها ومضت ثلاث ساعات والهاتف ما زال ينبض ولم يتوقف خفقه إلا بعد أن أتم المهمة وهو ما يذكر بلقطة في مسلسلات، يكون فيها البطل ممدّدا على فراش المرض ويحتضر غير أنه لا يموت إلا بعد أن يتم آخر كلمة من وصيته، وملك الموت لا يتجرأ على التقدم إلا بعد ذلك تماما دون تأخير لقبض الروح فيستند الرأس على الوسادة في حركة مثيرة للسخرية لأنها تمثيل لا يرتقي إلى درجة الإقناع.
على عجب…من كاستينغ شخصيات قهوة إكسبريس
يتعمد القائمون على الإشهار اختيار أشخاص بصفات معينة ويضبطون مقاييسهم الخاصة للجمال فينتج عن ذلك قولبة للمعايير ودمجها على اختلافها ضمن نموذج واحد يقدم على أنه المثالي، غير أن دراسة الموضوع أثبتت ما يتعاور هذا الاختيار من قصور في تمثيل مختلف الفئات الاجتماعية من جهة ورؤية الجمال في أثوابه المتعددة، لكن، الكاتبة انتقت شخصيات القصص المختلفة متشابهين مصرة بذلك على ترسيخ صورة منمطة، فالشعر لا بد أن يكون ناعما طويلا للأنثى ويهفهف على الجبين أو ترتمي منه خصلة للذكر والعينان ليليتان أو عسليتان طويلتان أو مدورتان والقامة هيفاء والوجه صبوح، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل تعيد وتكرر ذكر هذه الصفات في القصة الواحدة في شكل أقرب إلى حالة الهذيان بعشق هذه الصفات التي دونها يغدو المرء لا يستحق الحضور في القصة والتفجع على فقدانه أو مجرد الحديث عنه. وحتى أورد الحجة لاستعراض ما يثير العجب لحضوره الذي لا يضيف ولا يفضي إلا لبصيرة سجينة رؤية أحادية، أقدم جردا مفصلا:
- القصة الأولى : يا صوتك الدافئ العميق/ ملمس يدك الناعم/ يختفي الصوت الزلال/ اليد البضة الصغيرة/ وجهك الصبوح/ عينيك الكحيلتين/ عينيك العسليتين/ خصلات شعرك الناعم الطويل/ خصلة ترتمي على جبين/ وجهك الطفولي مدهش الصفاء/ عيناك اللوزيتان الواسعتان/ وجهك الصبوح/ يداك الأنيقتان/ يدك الناعمة البيضاء/ صدى كلماتك وزلال ضحكتك/ صدى صوتك الزلال/ عينيك الكحيلتين الأخاذتين/ عينيك اللوزيتين الواسعتين/ يعمق نظرتهما الكحل الأصيل/ فرحك الطفولي/ الوجه الطفولي
- القصة الثانية: يا وجهك الفاتن/ عينيك العميقتين بليلهما الشاسع/ أكحل بحيرتي العسل/ أحرر شعري الطويل/ أصابعك الرشيقة/ عيناك الواسعتان/ عينا مهند الساحرتان/ عيناك الفاتنتان/ عيناك الفاتنتان (مرة أخرى)/ كنت أجمل من مهند/ ساحر البنات والنساء في المسلسل التركي أجمل بحرارة الجمال العربي في سواد شعرك المهفهف على نصف الجبين وليل عينيك الفاتن/ أجمل فتيان المدينة/ عيناك الوسيعتان/ وجهك الفاتن/ وجهك الصبوح وعينيك الفاتنتين
- قصة 3: وجهها اللوزي/ القامة الهيفاء/ وجه الموناليزا بجماله الطبيعي/ العينين الطويلتين الكحيلتين/ شبيهة الموناليزا السمراء/ في العينين الطويلتين/ العينين الحوراوين/ في العينين الطويلتين
- قصة 4: ليل العينين/ عذبة البهاء/ أطلت القامة الفارعة للشاب الوسيم/ انسابت خصلة من شعره الأسود على نصاعة الجبين/ العينين العميقتين الطويلتين في الوجه الوسيم/ تلامعت نجوم في ليل عينيه/ الشفتين النديتين/ في العينين النديتين
- قصة 5: جسدك الأهيف الحليبي/ شعرك الأشقر المسدول في جديلة طويلة/ عنقك الطويل المرمري/ أميرة الصبايا ليلية العيون/ معشوقة الفتيان/ جسدك الأهيف الرشيق/ شعرك الأشقر الناعم الطويل/ شعرك الأشقر الأوروبي
- قصة 6: على جبينه الوضاء وعينا غيفارا الليليتان العميقتان/ فتوته المشرقة ووسامته الآسرة التي تعلق به نظرات كل الصبايا
- قصة 7: تتوقف عندك العيون معجبة تتأمل الوجه الصبوح/ الوجه الأميري المشرق والعينين المدورتين البراقتين بليل حالم/ الشعر الأسود الناعم المسترسل على بياض الجبين/ فتى فارع القامة مضيء المحيا/ ليل عينيه الواسعتين/ الطفل الوديع معشوق الصبايا تطارده العيون في كل طريق ومجلس وتسعى إليه كل فتنة يغريها شبابه
- قصة عدد9:عانق خصلات الشعر الأسود الناعم المسترسل على جانب من الجبين الوضاء/ الوجه الوسيم الفاتن كل الصبايا حواليه/ وجهه الصبوح المستنير، عيناه المدورتان الزيتونتان
- قصة 12: طارت أمامي بوجهها العسلي الحلو المدور وقصتها تهفهف على الجبين/ طرف عينها الواسعة السوداء/ الشعر المقصوص الناعم يتهدل ليله على عذوبة محيا/ تلامعت العينان النفاذتان الفاتنتان/ من عمق الليل بعينيها/ قصة “دورا” تهفهف على الجبين
هل تحتمل القصة القصيرة تكرارا شبيها وإذا كانت الإجابة نعم، ما الغاية منه والقارئ يطلب مع كل رشفة مذاقا مغايرا؟ فإذا كل الرشفات تتشابه فلا ظفر بالإقناع لانعدام ما يثير الفضول ولا حصل على متعة منشودة بعد تحمله لفكرة مرة لا تهب إمكانية حلاوة الفعل ولا يتعلق ذهنه بها لأنها تنتهي بانتهاء السرد ولا يجد سوى ذكرى موضوع مسجى دون احتمال افتكاكه من براثن العدم فكل محاولة عبث وليس للمرء إلا أن يلوك ويطيل عمر القصة الميتة وتمييعها بالكلمات.
نشر هذا المقال في مجلّة حروف حرّة، العدد 14، مارس 2022، ص. ص. 11-13.
للاطلاع على كامل العدد: http://hourouf14.tounesaf.org