الثورات العربية بين التغيير والإصلاح
|الشعب يريد إسقاط النظام“ كان الشعار الذي انطلق مدوياً. من حناجر التونسيين بدأ ومن ثم المصريين كهدفين واضحين لانتفاضتهما ضد الأنظمة الحاكمة ، هذه الصرخة دوى صدها في كامل أرجاء العالم العربي وأصبحت الهدف المشترك لكل شعوب المنطقة وهي التي تتقاسم مشاعر الكره والسخط والرغبة في تغيير أنظمة حاكمة مستبدة صادرت لها حقها في الحياة الحرة الكريمة .
وإن كانت الثورتان العربيتان الأوليان قد انتهتا ” ولو نظرياً ” بنجاح عبر تحقيق ما طلبت به من إسقاط هذه الأنظمة ، إلا أن تكرار هذا السيناريو المجيد ونقله بنجاح إلى بقيت البلدان العربية يبدو أمرا صعب التحقيق وتعترض طريقه عديد العقبات التي تجعل من تكرار ما حصل من نجاح لثورة تونس ومصر شيئا عسير التحقيق.
هذا التصور راجع في نظري إلى غياب عديد العوامل المهمة التي ساهمت في سير ونجاح الثورتين المذكورتين والتي للأسف الشديد تغيب ولو جزئيا في بقية المشهد العربي:
فعلى الصعيد الداخلي، فإنّ بقية الأنظمة العربية قد استفادت من عامل الوقت واستطاعت تنظيم مناصريها وتحصين البعض من جبهتها الداخلية حتى لا تظهر معزولةً عن شعوبها ، ففي ليبيا مثلاً يبدو من الإجحاف القول أن مناصري القذافي يقتصرون على جماعتين من المرتزقة الأفارقة الذين يستعين بهم على قتال شعبه ، بل بالعكس فهذا النظام، وكغيره من الأنظمة، مازال يستفيد من بعض المد الشعبي من مناصريه على قلتهم بطريقة لا يمكننا معها الجزم بانقطاع هذا النظام عن محيطه أو غياب كل مناصر أو موال له في الداخل .
أما في خصوص الجانب الإجتماعي، فمعظم هذه الدول تعاني من نسيج اجتماعي مختلط شائك يمازج بين الانتماءات المذهبية الدينية والعشائرية القبلية ، وهو ما يجعل من هذه التركيبة ورقة سهلة في يد الأنظمة الحاكمة للاستفادة منها واللعب على وترها سواء في محاولتها لاخماد ثورات شعوبها أو في إطلاق مخاوف من إنهيار تلك الدول وتحولها إلى مجرد دويلات صغيرة متناثرة يحكمها أمراء الحروب ولنا في المثال الصومالي أبرز دليل على ذلك .
أضف إلى كل ذلك حالة التصحر السياسي في معظم البلدان العربية ، فلا وجود لمجتمع مدني ناشط أو نقابة فاعلة ومؤثرة وبالطبع انعدام للأحزاب السياسية التي، إن وجدت، تكون مجرد امتداد لمشهد سياسي قائم تلعب فيه أدوار الديكور ولا يتجاوز دورها مجرد إضافة المشروعية على دكتاتورية الأحزاب الحاكمة. كلّ هذا يجعل من عمليات الإنتقال السياسي إشكالية عميقة في ظل غياب حد أدنى من بنية تحتية حزبيّة ومنظماتية قادرة على السير بالبلاد العربية نحو الديمقراطية في غياب الأنظمة الحاكمة .
أيضاً لا بدّ من التأكيد على الدور الفاعل الذي لعبته المؤسسة العسكرية في نجاح الثورتين التونسية والمصرية سواء أثناء الثورات برفضهما الانصياع لرغبات الأنظمة البائدة أو في ما بعد باعتبار أنهما استطاعتا الإمساك بزمام الأمور وتنجية البلدين من حالة الفوضى التي كانت ستسودهما. هذا العامل للأسف لا يمكن الجزم بتوفره في بقية الثورات العربية إذ أنّ الأمر في أحسن الأحوال لا يتعدى مجرد حالة انشقاق داخلي لبعض الأفراد أو القطاعات لا انحيازا تاما لصف الشعب وهو ما سيؤثر حتماً على مجريات هذه الثورات أولاً وعلى الحالة التي ستعيشها فيما بعد .
إضافة إلى كل هذه العوامل الداخلية ، لا بدا من إبراز العمل الذي يلعبه المحيط الجغراسياسي الذي يؤثر في مسار بقية الثورات العربية ، فعلى إمتداد هذه الأرض المشتعلة نرى أن بعض هذه الثورات لا تحظى بالدعم التام من قبل دول الجوار أولاً وأيضاً من بقية دول العالم التي تؤثّر في كل ثورة حسب مصالحها الضيقة وأطماعها ولنا في ثورة الشعب البحريني أكبر مثال على هذا حيث أخمدت انتفاضته بقوة وبمباركة من دول الجوار وبصمت مخجل من دول العالم اعتمادا على مخاوف من تغلغل المد الإيراني إلى تلك المنطقة ، تمام كحال اليمن السعيد الثائر منذ أكثر من 5 أشهر دون أن يصل إلى إسقاط نظام يبقى مدعوما من دول جوار وعالم متخوف من غياب دكتاتورية ضمنت لشعوبهم الأمن من مخاطر تيارات إسلامية أصوليّة ولو كان ذلك على حساب حرية وأرواح أهل اليمن .
كل هذه العوامل تؤدي إلى ضرورة الإقرار أنه ،وإن كنا كشعوب عربية قد عانينا الأمّرين من جرّاء أنظمة دكتاتورية قمعية استباحت البلدان لها ولعائلاتها والمؤلّفة قلوبهم وحكمت شعوبها بالحديد والنار دون أن يكون لها في التاريخ شي نذكره لهم سوى حالات القمع والقتل والترهيب، ، إلا أنّ الثورات العربية الآن يجب أن تتخذ صورة صرخة شعبية تهدف أساساً إلى إصلاح هذه الأنظمة ومحاولة تقويمها وإيجاد حياة سياسية ومجتمعية سياسية فاعلة تساهم فيما بعد في عملية الانتقال السلمي، وعلينا أن نقبل بفكرة التنازل قليلاً والتخفيض من سقف طموحاتنا ومطالبنا وأن نقبل بالعودة قليلا خطوة إلى الوراء والقبول بفكرة “الإصلاح ” حتى لا نجد أنفسنا في قفز سريع نحو المجهول ، فسقوط الأنظمة -للأسف الشديد – في بقية البلدان العربية يعني حتما إسقاط الأوطان ذاتها، وإن كان الخيار المطروح بين محاولة تدجين وتطويع أنظمة دكتاتورية وإصلاحها أو اقتلاعها من جذورها مع فتح الباب للمجهول فإنّ الخيار الحكيم يقتضي منا أن نقبل ” بأخف الضررين“