الخوف، الخوف المضاد وافتعال الأزمات
| اعتصام فقمع فأزمة…ذلك هو مسار اعتصام القصبة 3 مكرّر (لماذا لم يتمّ المرور إلى الرقم 4؟ ربّما لكي لا يقال أنّ إحدى “القصبات” فشلت ، أو ربّما لأنّ الرقم 4 حجزه أحبّاء رولا إبراهيم!)
هو مسار مقلوب. من المفروض أنّ الأزمة هي الّتي تؤدّي إلى حراك شعبي (اعتصام، الموضة السائدة، أو غيره) في اتجاه المطالبة بحلّها. أمّا العكس فهو ما يدلّ أنّ الأزمة مفتعلة وأنّ الحراك يبغي تحويلها إلى أزمة حقيقيّة. وهو حال القصبة 3 الّذي تكشف عنه مطالبها: إعادة هيكلة الهيئة العليا بإقصاء دعاة التطبيع (الّذي لم يدع إليه أحد، وطرحها صلب الهيئة نفسها لا موجب له وهو من باب القاء الاتهامات جزافا)، ضرورة تشريك الشباب (كيف ومن هم الشباب الذين سيقع تشريكهم وفيم؟) ، إقالة وزيري الداخليّة والعدل (المضحك أنّ بعضهم أعدّ سلفا قائمة بمن سيعوّضهم وغيرهم في الحكومة، تماما كمن ينبّرون في “المقاهي” على تشكيلات فرقهم)، التمسّك بموعد 23 أكتوبر (ومن قال غير هذا؟؟) وغير ذلك من المطالب.
هذا التحرّك الّذي لا داعي له قابله قمع غير مبرّر. ومع أنّ الحكومة تعلّلت بترسانة من المبرّرات الشكليّة والقانونيّة، إلا أنّ ردّ فعلها يبقى، أنّى قلّبناه، اعتداء على تحرّك سلمي، وقد زاد اقتحام جامع القصبة الطين بلّة.
يبرّر مساندو الاعتصام موقفهم بأنّ الحكومة مقصّرة في أداء واجباتها وتتصرّف بشكل لا يخدم أهداف الثورة، وتبرّر الحكومة قمعها بأنّ هذا الاعتصام سيؤدّي إلى إشاعة الفوضى. وفي الحالتين، فإنّ الكلمة التي تبرّر الموقفين هي: الخوف. وفي الواقع، هناك نوعان من الخوف يشعر بهما المجتمع التونسي: خوف من سرقة الثورة أو الالتفاف عليها ، ومن الجهة الأخرى، خوف من فقدان الأمن والاستقرار والدخول في دوامة من العنف والفوضى.
وجود هذين الخوفين طبيعيّ للغاية، وأكاد أجزم أنّهما يوجدان عند كلّ مواطن من عموم الشعب بمقادير متقاربة. ولكنّهما في أشكالهما المتطرّفة يصبحان جدّ خطيرين. فالخوف الأوّل يتحوّل إلى شكّ مرضي في كلّ خطوة للحكومة أو للهيئة العليا وإطلاق الصيحة الشهيرة “يا توانسة فيقوا” والدعوة إلى التعبئة العامة أو ربّما صراحة للعنف وإثارة الشغب، وقد سمعنا رئيس إحدى الجمعيات في قناة تلفزية يبرّر ما جرى من حرق ونهب في منزل بورقيبة بأنّ من قاموا بذلك معذورون لأنّ “شي ما تبدّل” (وكأنّ البلاد ستنقلب إلى جنّة في ظرف ستة أشهر، أو كأنّ التدمير سيحسّن الأوضاع !). أمّا الخوف الثاني فينقلب إلى تشكيك في كلّ تحرّك مهما كانت مشروعيّته ويصل ذلك إلى حدّ المطالبة بقمع جميع التظاهرات، متعلّلين بأنّها سـ”تدخل البلاد في حيط”(وكأنّ الثورة لا تحتاج إلى تضحيات).
ومع أنّ هذين الخوفين في أقصى أطرافهما يبدوان متناقضين، فهما في الحقيقة يؤدّيان إلى نفس النتيجة: شرعنة الدكتاتوريّة
فباسم انقاذ الثورة وباسم الحفاظ على الاستقرار، يمكن تبرير جمع كلّ السلطات في يد شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص، ومن المثير للاهتمام أن يدعو بعضهم على صفحات الفايسبوك، غداة إفشال اعتصام القصبة، إلى إحداث مجلس أعلى “مؤقّت” للجمهوريّة يتولى تسيير شؤون البلاد (ذكّرني ذلك، رغم الاختلاف بشأن الطابع المؤقّت، بالحكم القنصلي إبان الثورة الفرنسيّة الّذي أفرز بعد حين دكتاتوريّة نابوليون).
وإن كان وجود هذين الخوفين طبيعيّا في حدّ ذاته، فإنّ دفعهما إلى درجاتهما القصوى، إذا لم نعتبر التونسيين أطفالا يفرقون من كلّ شيء وينصتون لكلّ ناعق، ليس كذلك، بل هو نتيجة لحملات موجّهة (على الفايسبوك، ولكن أيضا في وسائل الإعلام التقليديّة) تضخّم ما شاءت من الأحداث والأقوال (وهنا يستغلّون الرداءة الواضحة للاتصال الحكومي) وتفتعل منها الأزمات لإثارة الخوف والخوف المضاد. فالدعوة إلى الاعتصام في القصبة بالذات لا يمكن أن يكون بريئا بعد أن أطاح الاعتصام الثاني برأس الحكومة وهو مرادف لخنق الحكومة في عقر دارها وهو، بداهة، ما لا يمكن أن تقبل به حكومة حريصة على حياتها وبالتالي فاختيار الاعتصام هناك هو استثارة لردّ فعل من يبحث عن الاستقرار. وكما تضخّم هذه الحملات أحداثا معيّنة، فإنّها بالمقابل تصمت عن أحداث أخرى هي أدعى أن تكون بوادر أزمات حقيقيّة. فعندما تمّ الإعلان عن تأجيل موعد 24 جويلية إلى 16 أكتوبر، أرغت الأطراف السياسيّة وأزبدت وكانت محقّة في ذلك بما أنّ التأجيل يعني أنّ الحكومة والهيئة العليا فشلتا فشلا ذريعا في انجاز “وعدهما المؤسّس” لكن بمجرّد أن تمّ الإعلان عن موعد 23 أكتوبر أعربت نفس الأطراف عن رضاها (رغم أنّ هذا الموعد تأجيل للتأجيل !) وكأنّ المسألة مجرّد عناد وتسجيل لموقف أمام الهيئة المستقلّة للانتخابات. وعلى خطورة هذا التأجيل، لم تسجّل أيّ دعوة حقيقيّة لتحرّك جدّي.
وفي ظلّ هذين الخوفين ومخاطر استثارتهما نحو التطرّف، تكمن الفضيلة، كما يقول أرسطو، في تمام الوسط بين طرفين بغيضين. فعوض اتّخاذ موقف الشكّ المطلق باسم الثوريّة أو المساندة المطلقة باسم الاستقرار، لا ينبغي أن ننسى علّة وجود هذه الحكومةّ والمطلوب منها ومحاسبتها يجب أن تتمّ حسب الهدف الّذي جاءت من أجله. إنّها حكومة وقتيّة تقتصر مهمّتها على تصريف الأعمال وواجبها الوحيد (أو يكاد) هو الحرص على تحقيق الانتقال الديمقراطي في أحسن الظروف، وآليّة ذلك تنظيم انتخابات حرّة ونزيهة في موعدها المحدّد. ذلك هو الامتحان الحاسم الّذي يقطع بفشل الحكومة أو نجاحها. ولن يجدي الاعتراض على كلّ تصرّف من تصرّفاتها وعرقلة أعمالها إلا في تعطيل مسار بناء الشرعيّة الجديدة. أمّا إذا لم تتمّ الانتخابات في موعدها أو لم تكن حرّة ونزيهة وشفّافة، فاعتصموا، وأنا معكم من المعتصمين…